20/01/2010 - 07:19

الوهم والسمّ../ زكريا محمد

الوهم والسمّ../ زكريا محمد
ليست المشكلة في أن تفاوض أو نوقف تفاوض.
يمكن للناس أن تتفاوض وأن توقف التفاوض لأسباب كثيرة جدا.

المشكلة تكمن هنا: أننا نذهب إلى المفاوضات محمّلين بالأوهام، أوهام أن الدولة قريبة جدا.
هذه هي المشكلة.
هذه هي السوسة التي تنخر عظامنا.
هنا مربط الفرس.

ما زال القيادة الفلسطينية غارقة في الأوهام بشأن الدولة. لا تريد أن تقتنع أن موازين القوى الحالية لا تنتج دولة. لا تريد أن تتقبل فكرة أن الوضع الحالي لا يرغم إسرائيل على الانسحاب وعلى القبول بدولة على حدود 67.

كل ما جرى لم يقنعها أن الدولة ليست قريبة. بل إنها أقنعت نفسها بزمن ذهبي يدعى "زمن أولمرت". ما زالت تعيش على ذكرى أولمرت. فقد ظنّت أننا أوشكنا ان نصل معه إلى حل. ليس صحيحا. ليس صحيحًا أبدا. دليل ذلك أن أولمرت بعد أن غادر الحكم بدأ يصرح بمواقفه الحقيقية. قال مثلاً: القدس كلها لنا، شرقها وغربها.

لكن حتى لو فرضنا أنه كان من الممكن الوصول إلى اتفاق ما مقبول مع أولمرت، فإنه لم يكن بإمكان أولمرت أن يمرّره. القوى الفعلية داخل إسرائيل كانت ستطيح بهذا الاتفاق فورا. أعني الجيش وأجهزة الأمن.

في الوضع الحالي، وفي موازين القوى الموجودة لا يمكن قيام دولة مقبولة بالحد الأدنى. فإسرائيل لن تتخلى عن الأغوار، ولن تتخلى عن المعابر، ولن تسمح بعبور حتى نازحي 67، وليس لاجئي 48 فقط. وقل مثل هذا بشأن القدس والمستوطنات والحدود والمياه. هذه أمور تتفق عليها الاتجاهات الرئيسية كلها في إسرائيل.

غير ان القيادة الفلسطينية مصمّمة على أن تسير في الوهم حتى مداه. تريد أن تجرّب المجرّب. أن تجرّب ما جرّبه عرفات، وقتل على صخرته.
وهنا المشكلة.

لقد اعتقدوا أن الدولة ستفتح حضنها بعد ذهاب عرفات. ثم اعتقدوا ان أنابوليس سيقرّبها. ثم أكد لنا الرئيس أنه سيتم الاتفاق عليها عام 2008. لكن كل هذا لم يحصل. وها هو يقول لنا أوقفوا الاستيطان لمدة ستة أشهر وسننجز اتفاقًا خلال هذه المدة. ليس صحيحا. لا ستة أشهر ولا ست سنوات ستحمل معها اتفاقا، إلا إذا وافقت القيادة على شروطهم القاتلة، وهي غير مؤهلة للموافقة عليها.
المشكلة في الوهم وليس في التفاوض.

لو كان هناك مجال لدولة لحصل عليها عرفات. موازين القوى لا تسمح بقيام مثل هذه الدولة. الضغط الذي يولده الوضع العام على إسرائيل لا يكفي للحصول على دولة. لذا علينا ان نعد أنفسنا لكفاح مديد، وعلى نار هادئة، وأن ننتظر إلى أن تحصل تغيرات ما. وهناك في الأفق دلائل على أن الوضع يتغير بالتدريج لصالحنا، رغم كل الفوضى السائدة.

غير أن القيادة مقتنعة أن الحل قريب، وأنه لو بقي أولمرت سنة أخرى لوصلنا إليه. يعني المشكلة تتعلق بنتنياهو. لو لم يجئ لجاء الخير، ولانتهينا. كما أن هناك من ما زال يعتقد ان الخلاف هو على واحد أو اثنين في المائة من أرض الضفة!

ما زالوا يظنون أن إسرائيل ستتخلى عن الأغوار مثلا! لا يدركون ان إسرائيل تخفي في كثير من الأحيان مواقفها الحقيقية مراعاة للوضع الدولي. فهي لو قالت إنها لن تتخلى عن الأغوار والقدس لحملها الرأي العام العالمي المسؤولية. لذا تتجنب التصريح بمواقفها الفعلية، وتبدو كما لو أنها تطالب بأشياء أقل ويمكن التفاهم عليها.

والمشكلة أن القيادة تنخدع بهذا. تصدق أن أغلب المشاكل قد حلّت، وان الأمر يتعلق بواحد أو اثنين في المائة. تصدّق ان النبي أولمرت كان على وشك أن ينطق بالنبوءة: دولة على حدود حزيران. خدعها وصدقت. لذا هي تستمر في الجري وراء الوهم، منتظرة ان تأتي ليفني علها تستعيد زمن أولمرت الذهبي.

الوهم عدونا الأول هنا.
الوهم وليس التفاوض.
عرفات في آخر أيامه اكتشف أنهم لا يريدون حلا. توصل إلى الحقيقة. لكنه لم يلبث ان قتلوه. فمن الخطر أن يقود الشعب الفلسطيني رجل انقشعت الأوهام عن عينيه.
بالسم أغمضوا عينيه اللتين تكشف لهما الوهم...

التعليقات