26/01/2010 - 14:29

الجدار الفولاذي وتحوّلات مفهوم الأمن القومي المصـري../ أحمد بهاء الدين شعبان*

الجدار الفولاذي وتحوّلات مفهوم الأمن القومي المصـري../ أحمد بهاء الدين شعبان*
على الرغم من أن مفهوم «الأمن القومي» حديث نسبياً، ويرجعه بعض علماء السياسة إلى نهايات الحرب العالمية الثانية حينما أنشئ «مجلس الأمن القومي الأميركي» عام 1947، إلا أن عناصر هذا المفهوم، التي تحدد آفاق المصلحة الوطنية للأمة، ومصادر الأخطار والتهديدات، وترسم منظور الدفاع عنها، ترجع إلى أزمنة بعيدة.

وقد حفظ لنا تاريخ الفكر الاستراتيجي المصري تعريف «سليمان باشا الفرنساوي»، الكولونيل الفرنسي الذي استقدمه محمد علي للمساهمة في تأسيس الجيش المصري، لهذا المفهوم منذ وقت متقدم، في الربع الأول من القرن التاسع عشر: «إن أمن الشام يبدأ من جبال طوروس، وأمن جبال طوروس يبدأ من ممرات سيناء، وأمن القاهرة يبدأ من هذه الممرات. إن القاهرة مفتاح الشام، والشام مفتاح المنطقة».

ولم يكن هذا المفهوم اختراعاً جديداً أو ابتكاراً يرجع إلى الكولونيل الفرنسي المتمصر، الذي كرّمه المصريون وقدروا جهوده في إنشاء المؤسسة العسكرية المصرية الحديثة، فأطلقوا اسمه على أحد أبرز شوارع عاصمتهم، وشيدوا له تمثالاً في واحد من أهم ميادينها، (ميدان وشارع طلعت حرب باشا حالياً). فقد توصّل إلى تحديد يقترب من هذا المفهوم لحدود أمن مصر كل من الفراعنة العظام والقادة العسكريين والاستراتيجيين الكبار، أحمس وتحتمس ورمسيس الثاني، فرعون المجد والانتصار، ثم في عصور أحدث سيف الدين قطز والمحرر صلاح الدين الأيوبي وغيرهما، الذين تقدموا بجيوشهم إلى أطراف المنطقة لملاقاة الأعداء ودحر الغزاة، لإدراكهم أن أمن مصر من أمنها، وأن وحدة التراب والدم والمصير تجمع، في السلم والحرب، بينهما!

والمراقب لمجريات الأحداث في العقود الأخيرة يستطيع أن يلمس ارتباكاً في تحديد هذا المفهوم البالغ الحساسية، الذي كان قد تأكد مع صعود ثورة 23 تموز/ يوليو، وفي حمى معارك الاستقلال والبناء الضارية التي خاضها النظام الناصري، مازجاً بين المصالح الوطنية (المصرية)، والمصالح القومية (العربية)، في منظومة واحدة، حددت معسكر أعدائها في الصهيونية والاستعمار والرجعيات التابعة، وهو المعسكر الذي لم يأل جهداً، في المقابل، من أجل العمل على إحباط المشروع الوطني/ القومي، الناصري، والسعي إلى توجيه ضربة عنيفة بهدف تقويض مفهومه عن «الأمن»، وزرع بذور التناقض بين شقيه المتكاملين افتراضاً، الشق القومي والشق القطري.

وهكذا، فسرعان ما تعرّض هذا المفهوم المستقر للاهتزاز مع هزيمة حزيران/ يونيو 1967، وتداعياتها التي عكست تعثر المشروع القومي، وتراجع مفهومه عن «الأمن القومي العربي». ثم بلغ التأزم مداه مع رحيل عبد الناصر، وفي أعقاب تولي الرئيس السادات، الذي قاد انقلاباً على «الثوابت» الناصرية، القومية، وأحدث تحولاً استراتيجياً في التوجهات الأساسية للدولة المصرية.

وجاء توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» أواخر عقد السبعينيات المنصرم، ليحمل في ثناياه توجيه ضربة إلى صميم هذا المفهوم، بإبرام اتفاقية «صلح» مع العدو التاريخي للأمة، وباعتبار أن «حرب أكتوبر هي آخر الحروب»، وأن «99% من الأوراق في أيدي أمريكا» على حد التعبير الشهير للرئيس المصري السابق.

ومع التحولات السياسية والاقتصادية العنيفة التي جرت على بنية السلطة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، والتي عكست تزاوجاً فجاً بين الثروة والسلطة، ارتقت قمة السلطة في مصر مجموعات عشوائية من طبقة «رجال الأعمال»، الذين هم في الأصل عصابات من ناهبي المال العام ونازفي الثروة الوطنية، المهجنين، المولَّدين في حاضنة النظام، يدينون بالولاء المطلق للغرب والولايات المتحدة وإسرائيل، ولا يخفون ميلهم لتفكيك العرى التاريخية الوثقى لمصر بالمحيط العربي، ويتبنون بلا لبس أجندة السياسات النيوليبرالية بأكملها، حتى بعد الانهيارات التي عصفت بالنظام الرأسمالي أخيراً.

وقد تزامن اكتمال ملامح هذا الوضع مع انهيار النظام الشاهنشاهي، وانتصار الثورة الإيرانية في الخارج، وصعود ظاهرة «الإسلام السياسي» داخلياً في العقود الأخيرة، ونمو قوة جماعة «الإخوان المسلمون» وخطرها.

وأدت ممارسات النظام وانحيازاته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي تبلورت عبر تراكمات طويلة المدى، إلى بروز ملامح، غير معلنة وإن كانت مدركة، لنظرية جديدة للأمن القومي يتبناها اتجاه مؤثر في مركز صناعة القرار المصري، وبالذات في مجموعة «لجنة السياسات» بالحزب الوطني التي يرأسها جمال مبارك، الرئيس القادم المحتمل.

لقد أدى جمود النظام، وتآكل صورته، وفشله البيّن في حل أبسط القضايا الحياتية للملايين الغفيرة التي تتعرض لموجات متتالية من الاستغلال والإفقار، وتنتهبها الأمراض وتعاني الجهل والتهميش، وعجز الحكم الفاضح عن مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وبروز تيارات المعارضة لمسألة «تمديد الحكم وتوريثه»، إلى إدراك النظام أنه لا بديل أمامه من الاعتماد على الدور الفاعل للقبول الإسرائيلي والموافقة الأميركية، الصريحة أو المضمرة، من أجل ضمان بقائه مسيطراً على الوضع في البلاد. واتجه، كما حدث في انتخابات برلمان 2005، إلى اللعب بورقة التخويف من اجتياح التيارات الأصولية لمصر، حتى يغلق ملف الاستحقاقات الديموقراطية أمام أميركا والغرب، بحجة أن الحرية في مصر تعني سيطرة «الإرهاب» ووصول جماعات العنف الديني (وهي الجماعات التي سبق له أن أطلقها من عقالها، وتبناها، بموافقة الولايات المتحدة، في معركته ضد خصومه وخصومها من اليسار)، المعادية للغرب والمصالح الأميركية وإسرائيل، إلى موقع القرار في البلاد.

وهكذا تآكل المفهوم الموروث، الذي تكرّس طوال الحقبة الناصرية لـ«الأمن القومي المصري»، المرتبط عضوياً بأمن الوطن العربي، البيئة الإقليمية الحاضنة، والذي ينظر إلى الخطر الصهيوني باعتباره خطراً على الدور والمصالح المصرية في المقام الأول، ليظهر في أحيان كثيرة أن مفهوماً آخر للأمن القومي المصري قد حل محل المفهوم القديم، يستبدله بتحالف في الداخل والخارج، غير مصرح به، مع العدو الصهيوني والإمبريالي، ومع إسرائيل ضد خطر «الإسلام السياسي»، ويتنصل علناً من الالتزام المصري بالقضية الفلسطينية، بحجة غير صحيحة، عبر عنها الرئيس مبارك في حديث نقلته صحيفة «المصري اليوم» منذ عام تقريباً، (في 5/2/2009) قائلاً: «لولا حروبنا من أجل فلسطين لكانت حال شعبنا أفضل (...) وستظل الأولوية لمصر»، ويتبنى منطلقات «مكافحة الإرهاب» و«الخطر الإيراني» و«الدول المارقة»، السيئة الصيت، كما صكّها الرئيس الأميركي السابق، مجرم الحرب جورج بوش، حتى بعد رحيله، باعتبارها «مصدر التهديد الاستراتيجي» الأساسي لأمن البلاد، الذي ينبغي صياغة العقيدة الاستراتيجية للدولة في مواجهته!

كما أن اشتراك كل من الولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربية «السنية»، (المعتدلة، كما توصف غربياً)، وبالذات السعودية ومصر، في العداء للنظام الإيراني، قد وحّدهم في مواجهة هذا الخطر المزعوم الذي تمكن من تحقيق ما فشلت به الدبلوماسية الغربية في إحداث انفراج في العلاقات بين إسرائيل والدول العربية السنيّة، نظراً لاعتباره «يمثل القاسم المشترك بينها»، (كما ذكرت صحيفة واشنطن بوست، 19/3/2009).

وعلى مذبح السعي لتأمين القبضة الفولاذية على كرسي الحكم في البلاد، وفي الوقت الذي كانت فيه قوات قمع النظام المصري تطارد المئات من أنصار الحرية، الذين قدموا من مختلف بلاد العالم، والكثيرين منهم يهود معادون للصهيونية، للتضامن مع شعب فلسطين المحاصر، وتسيِّل دمهم في الشوارع، وتمنعهم من تحقيق غايتهم النبيلة، كان لا بد من إحكام الحصار على أهل غزة الصامدين، الواقعين بين مطرقة الاحتلال الصهيوني وسندان النظام المصري، عبر تشييد «الجدار الفولاذي»، الذي يكمل حلقات الخنق والتجويع والترويع للملايين من أبناء الشعب الفلسطيني المكافح، وهو ما يعني عملياً تدشيناً فعلياً لهذا المفهوم الجديد لأمن مصر القومي الذي يتبناه نظام «آل مبارك».

لقد صُمم الجدار ونُفّذ بخبرات وتكنولوجيا وتمويل من أميركا، ولتحقيق غاية أميركية رئيسية هي حماية أمن إسرائيل. ومن الطبيعي في هذا السياق أن يأتي الإعلان عن البدء في بنائه من تل أبيب لا من القاهرة! فالقاهرة، عاصمة مصر المحروسة، بريئة من هذا الجدار ومن أمثاله... براءة الذئب من دم ابن يعقوب!
"الأخبار"

التعليقات