13/04/2010 - 18:25

شعب غير مرغوب به على أرضه../ ناصر السهلي..

شعب غير مرغوب به على أرضه../ ناصر السهلي..
في 28 تشرين أول/ أكتوبر 2009 كانت الطالبة برلنتي عزام في طريق العودة من رام الله إلى بيت لحم، حيث تدرس في جامعتها، في الطريق نحو بيت لحم ( في الأراضي المحتلة) وعند حاجز "الكونتينر" قامت قوات الاحتلال باعتقال الطالبة برلنتي ونقلتها معصوبة العينين ومكبلة اليدين إلى قطاع غزة..

"ح" طالب ماجستير في حقوق الإنسان من غزة يقيم في رام الله منذ عقدين، متزوج من فلسطينية من الداخل، ما يعرفه هو حدود رام الله منذ العام 2000..
" م " شاب من غزة يدرس ويعمل بالفن والتكنولوجيا، سجنه هو أيضا غرفة في رام الله..
"ج" عائد من إحدى جامعات لندن، متزوج من فلسطينية من الداخل، توفيت والدة زوجته فحضرت العائلة إلى رام الله ليعزيها بفقدان والدتهم..
" و" شاب غزي أيضا، توقف عن زيارة أهل زوجته لأنه يجب أن يمر بحاجز الكونتينر..

آلاف الغزيين مقيمون في " بلدهم" في الضفة الغربية المحتلة منذ ما قبل إنشاء السلطة.. بالكاد يستطيع الواحد منهم التواصل مع أهله الذين لا يبعدون عنه سوى حوالي 70 كيلومترا.. بعضهم توفي أهله دون قدرة على وداعهم.. ذات السماء تغطيهم.. وذات النجوم يراها هؤلاء.. ما يفصل بين البشر أشد مما يظنه البعض السياسي المكبل نفسه أصلا بـ" التزامات" تجاوزها الاحتلال منذ زمن بعيد..

تلك ليست حالات فريدة.. وهي من التي عايشت مآسيها بشكل شخصي.. فلسطينيون ولدوا في الضفة الغربية لم يجر تسجيلهم في "دائرة النفوس"، يجدون أنفسهم "غرباء" على أرضهم.. الشيء الجديد "رقم وطني" ( مفارقة عجيبة: سلطة وطنية تقدم لهم طلبات إقامة في بلدهم من الاحتلال!).. حالات بالآلاف من فلسطيني الداخل متزوجون من فلسطينيين آخرين من الضفة يعانون الأمرين بسبب سياسات عنصرية تمييزية يجري قوننتها بما يسمى " محاكم".. نعم محاكم تكرس الأبارتهايد تحت سقف تسمية "دولة القانون والديمقراطية"..

مأساة الغزيين يقابلها مآس كثيرة أخرى لمقدسيين تُسحب "هوياتهم".. أي يتحولون إلى غرباء، وهم في الأصل مجرد " مقيمين" حسب قوانين الاحتلال.. عشرات الآلاف من الفلسطينيين ( خذ شعفاط والمخيم تحديدا.. وخذ العيسوية) يراد لهم بفعل جدار الفصل العنصري الملتوي كأفعى أن يتحولوا إلى "متسللين"..

ما كشفته إذا عميرة هاس في "هآرتس" هو القرار العسكري الذي كان يُنفذ منذ أكتوبر العام الماضي، والذي قيل على لسان نبيل شعث بأنه تم تقديم "وعود بعدم تنفيذه" آنذاك.. لكن بدون ضمانات.. هو ذاته الذي يجري تفعيله اليوم بأوامر عسكرية تعطي أي ضابط من قوات الاحتلال صلاحية إلقاء القبض على فلسطيني أو فلسطينية بحالة "تسلل"!.. لكن هذه المرة تجاوز الأمر العسكري الغزيين ليشمل أي فلسطيني أو ممن يربطهم بالفلسطينيين صلة..
ما أن تخرج من رام الله ( المحتلة قولا وعملا) لا يمكنك الشعور بشيء سوى التوتر والقلق والصمت الذي يسود أية حافلة عامة.. كأنك تنتقل من عبر بوابات أقسام مختلفة من سجن كبير تنظم حياته الداخلية لجان معتقلين بينما يشرف عليها سجان أكبر متمثل بالاحتلال.. في الطريق المؤدي إلى جنوب رام الله ونحو وادي النار يمكن لمن يراقب المشهد الجغرافي والديموغرافي أن يلحظ، إلى جانب الوجود المادي للاحتلال العسكري المباشر، شيئين:

1. مجازر مرتكبة بحق الجغرافيا والطبيعة الفلسطينية المحتلة، مناطق شاسعة من الأراضي التي كانت مزروعة وخصوصا بأشجار الزيتون وقد تحولت إلى جرداء تدل على آثار ما أُرتكب هناك.. آلاف من جذوع الأشجار التي يبدو أنه تم قصها بطريقة منظمة.. أضف إلى ذلك كيف أن الأراضي من جهة اليمين والشمال أصبحت عبارة عن مكبات ومناطق تجر المياه العادمة من المستعمرات المزروعة على التلال باتجاه التجمعات الفلسطينية المحاطة بأسلاك وأسوار، غير جدار الفصل العنصري..عليها تسلط أضواء كاشفة كبيرة!

2. يلفت النظر شبه انعدام لحياة بشرية للفلسطينيين في مساحات شاسعة ممنوعة على شعبها وأصحابها، سوى بعض حياة "بدائية" فرضها الترحيل وعدم وجود خدمات وبنية تحتية.. في الأفق القريب تنعم المستعمرات بالمياه وخدمات كاملة ممنوعة على الشعب الفلسطيني الذي يكابد قبل وبعد نشوء السلطة للبقاء فوق أرضه..

الحواجز المقامة على الأرض الفلسطينية المحتلة فاقت الستمائة حاجز، عدا عن الحواجز التي تقام بشكل فجائي، ومهمتها الأساسية مرتبطة تماما بالمشهدين الجغرافي والديموغرافي المذكورين آنفا.. المطلوب وبشكل غير معلن أن تسري حالة فلسطينية يستحيل معها البقاء في الأرض، وبالتالي يجري فتح طريق وحيد: التهجير الداخلي نحو المدن الكبرى.. عراق بورين وعصيرة الشمالية مثلان صارخان على بقية البقعة الجغرافية التي يهدف المستوطنون وبحماية الأوامر العسكرية الاحتلالية فرضها..

تلك الحواجز بالتأكيد ليست "أمنية" على الإطلاق، وبعيدا عن تكرار أسطوانة اتفاقية جنيف الرابعة وعدم شرعية الاحتلال وممارساته كلها، فالمقصود منها أن يُفرض مشروع الأمر الواقع الذي لم تخفه الحكومات الصهيونية المتعاقبة بمن فيهم نتنياهو وقبله تسيبي ليفني. التي يعول عليها البعض في المعسكر الفلسطيني الذي يرى في المفاوضات نمط حياة.. الحواجز حالة لا آدمية لاصطياد الفلسطينيين وخلق "دولة المستوطنين" في الضفة الغربية وحدود " القدس الكبرى"..

اجتهد البعض في تفسير ما يجري، بيانات السلطة ودائرة التفاوض في م ت ف اعتبرت أن ما يجري حملة تطهير عرقي.. وحملة ترانسفير بحق الشعب الفلسطيني.. لست في وارد مناقشة الإستراتيجية الفلسطينية التفاوضية منذ أوسلو والتحول إلى صيغ "التحذير والاستنكار والاستهجان!".. ولست في وارد مناقشة الاعتقاد القائل بأن الهدف من القرار هو "الضغط على السلطة للعودة للتفاوض".. فالتفاوض أو الحوارات إن شئتم لم تنقطع، وتجري في عواصم مختلفة والتسريبات الكثيرة لم يجر نفيها..

ولست في وارد مناقشة ما قاله صراحة نبيل شعث وغيره من القيادات بأن "الضفة كلها تحت الاحتلال" ومناقضته لسياسة فياض وتصريحات عدنان الضميري أثناء الهبة الشعبية نصرة للقدس بأنه "لا يوجد احتلال".. ولست في وارد مناقشة التضليل الذي تمارسه السلطة حول " تصعيد المقاومة الشعبية السلمية" في حين تجري ملاحقة وتضييق على رموز لجنة مقاومة جدار الفصل العنصري وفعاليات شعبية يجري إجهاضها أمنيا وإعلاميا.. ولا التنسيق الأمني الذي تقوم به الأجهزة الأمنية إلى حد البحث عن أي سلاح وتسليمه لقوات الاحتلال والقيام باعتقال من يطلق سراحه من سجون الاحتلال وبالعكس.. هذه قضايا تم تسجيلها والتثبت منها من منظمات حقوقية فلسطينية..

الأخطر في الأمر ليس في أين سيتم تنفيذ الأمر العسكري ( أو حتى تجميده) ، بل بما يحمله من إستراتيجية ثابتة وواضحة:

قضية الترانسفير ليست بالضرورة أن تتم بإبعاد الفلسطينيين إلى خارج فلسطين، فقد نجد أن غزة يجري تحويلها إلى سجن يُنفى إليه الآلاف.. وقد نجد بأن المشروع الصهيوني للحل يجري تنفيذه عبر مشروع نتنياهو ذاته، كانتونات تتمتع بحكم ذاتي و"سلام اقتصادي".. كانتونات مقطعة الأوصال في سجون كبيرة يتطلب التنقل فيما بينها الحصول من دولة الاحتلال على "تصريح"..

المشروع يفتح الطريق أمام حالة تفسيرية للقرار العسكري ،غير الشرعي بكل القوانين، بأن تصبح عملية الفصل العنصري مقوننة وموافقا عليها سياسيا لتطال فلسطينيي الداخل والقدس تحديدا..

إن العودة إلى مجلدات عبد الجواد صالح حول "الأوامر العسكرية الإسرائيلية" يمكن أن يكشف بالتفصيل بأن السياسة المتبعة من قبل الاحتلال لم تتغير كثيرا حتى في ظل "أوسلو".. فـ " المناطق" و " يهودا والسامرة" ما تزال هي ذاتها وإن تغيرت الأدوات والوسائل، فالثابت أن بأن الأرض الفلسطينية المحتلة بكل تصنيفاتها المخادعة بألف وباء وجيم هي في الحقيقة وحسب الواقع والقرارات تخضع للحكم العسكري الإسرائيلي.. وكل الحديث عن عدم وجود سياسة إسرائيلية واضحة تجاه " السلام" أمر غير صحيح..

لقد كشف القرار الأخير، وما سبقه طوال الأعوام الماضية من تعزيز الاستيطان وبناء الجدار ومحاصرة وسرقة الأراضي والممتلكات الفلسطينية، بأن السلطة الفلسطينية لم تكن أكثر من أداة وظيفية في القراءة الصهيونية الإستراتيجية لمستقبل الأرض والشعب.. ما تم هو استبدال اسم شلومو ايليا رئيس ما يسمى الإدارة المدنية لمنطقة يهودا والسامرة و اوري اور ورفائيل فاردي ودافيد هغوئيل.. إلخ.. والأوامر الصادرة مباشرة عن "الإدارة المدنية" و"جيش الدفاع" فيما يخص كل صغيرة وكبيرة متعلقة بحياة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال بمراسيم وقوانين تحمل اسم "السلطة الفلسطينية"..

مجموعة القرارات، بما فيها إطلاق يد منظمات الاستيطان في شرقي القدس ومناطق الضفة الغربية المحتلة، تكشف مدى استهتار دولة الاحتلال بكل ما نشأ منذ 1994 بما فيها السلطة ذاتها.. وربما يكون الخطأ الفادح الذي ارتكبه الساسة الفلسطينيون طيلة السنوات الماضية هو في استمرارهم بتكرار المادة 49 من اتفاقية جنيف لسنة 1949 " لا يجوز لدولة الاحتلال أن تُرحل أو تنقل جزءا من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها" فيما هي تستمر في مفاوضات مع دولة احتلال لا تعترف ولا تطبق هذه الاتفاقية على الأراضي المحتلة.. القانون الدولي يشترط أن تدار الأراضي المحتلة لمصلحة " السكان المحليين"، أي الشعب الفلسطيني في حالة الضفة والقدس، وبالرغم من ذلك أدرك المفاوضين الفلسطينيين بأن "السكان المحليين" أصبحوا المستوطنين ( هذا الأمر عائد لسنة 1971 بحكم صادر عن محكمة العدل العليا الإسرائيلية لمصلحة مستوطني كريات أربع في قضية شركة كهرباء القدس) وتم الاستيلاء على الأراضي المحتلة في ذات الوقت الذي كانت تجري فيه مفاوضات.. لم تجر مراجعة واحدة للمادة 52 من اتفاقية لاهاي..

استراتيجيات الاستيطان والتهويد تعتمد على خطة آلون وغوش ايمونيم باعتبار الضفة جزءا من "أرض إسرائيل"، وعليه لا يمكن فهم كيف يدعي "رئيس وزراء فلسطيني" بأنه لا مشكلة عنده مع التعريف الصهيوني التوراتي للأرض وهي بالضبط تعمد إلى خلق واقع بانتستونات محاصرة بسجن السكان فيها تحت مسمى " بناء مؤسسات الدولة"..

السؤال المنطقي، ما الذي يمنع دولة الاحتلال من أن تقوم بكل ما من شأنه فرض الأمر الواقع طالما أنه يوجد في الجانب الفلسطيني من لا يتردد في القفز عن القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة وفتوى لاهاي بشأن الجدار، والاعتماد طيلة سنوات التفاوض على ضمانات فارغة وشفوية من واشنطن وبعض العواصم التي كان همها الرئيس في ضمان سير " العملية السياسية" بينما البلدوزر يستمر في الهدم وإعادة هيكلة لكل الأرض ولكل التركيبة السكانية؟ وما الذي يمنع الاحتلال أن وأذرعه الاستيطانية بالاستهتار بكل الحالة الفلسطينية إذا كان هذا الاحتلال غير مكلف بالأساس، وخصوصا حين يسود وهم وهوس الالتزام الأمني الفلسطيني تجاه ما هو غير شرعي على أراضي الشعب الفلسطيني المحتلة، فبينما تدعي سلطة الشعب الفلسطيني ولايتها على الناس تقف عاجزة وغير قادرة حتى قانونيا في مسألة حماية وجود شعبها فوق أرضه؟

يا لها من مفارقة عجيبة..
بينما تحاط السجون الكبيرة في الضفة المحتلة بحواجز ومعابر عسكرية ومستوطنات تلتهم وتتمدد باتجاه أراضي المزارعين الممنوعين من الوصول إلى أراضيهم، نجد أن القرار العسكري يعتبر الفلسطيني "متسللا" يُحكم عليه ماديا وبالسجن والإبعاد تقابله ممارسات سلطة فلسطينية مشجعة لهذا الاستيطان، وإن بشكل غير مباشر، عبر حزمة من الأوامر التي تجعل من ثمن الاحتلال صفرا.. بل الأنكى في ذلك أن المستوطنين الذين " يضلون طريقهم" يجري تقديم القهوة العربية لهم وإعادتهم معززين مكرمين إلى مستعمرات أقيمت على أراضي محتلة ومنهوبة من الشعب!

البعض يطرح بديلا في ظل هذا الانفلات الكامل لسياسة السلطة والاحتلال.. أن تقوم م ت ف بحل هذه السلطة التي باتت في الإستراتيجية التهويدية للأرض الفلسطينية مجرد غطاء لا غير.. ترى هل هذا الطرح يعتبر تدميرا لما يسمى "منجزات" أو " إنجازات"؟

قبل الإجابة على ذلك يفترض بالبعض أن يطرح بشكل صادق ماهية الانجازات تلك.. والتفكير مليا بدور م ت ف في قيادة عملية لا شعاراتية لنضال شعبها في التحرر من هذا الاحتلال ومستعمريه.. إن الثمن الذي يمكن أن يدفعه الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال المباشر ليس بجديد إلا في أنه ثمن مستتر لا يكلف الاحتلال سوى وجود سلطة باتت بنظر الاحتلال غطاء أمام القانون والشرعية الدولية باعتبار القضية كلها محل تنازع يجري التفاوض لحله..

التعليقات