02/06/2010 - 11:55

دولة إسرائيل "الدفاعية"../ فواز طرابلسي

دولة إسرائيل
«الصبر والسخرية ميزتا المناضل البلشفي» (لينين)
إسرائيل دولة قائمة على «الدفاع». إسرائيل دولة لها مبرر وجود أوحد يتلخص في مفردة واحدة: «الدفاع». ولدفاع إسرائيل ـ عن نفسها طبعا ـ تاريخ ووقائع وأشكال وأدوار.

منذ أن كان الاستيطان الصهيوني والقوم «يدافعون». وفَدَ مستوطنون يهود إلى بلد يزعمون أنهم غادروه عنوة على يد الرومان منذ نيف وألفي سنة. قدموا بناء على وعد وتشجيع من دولة استعمارية احتلت ذلك البلد. ومنذ اللحظة الأولى بدأ المستوطنون يدافعون عن أنفسهم ضد «السكان الأصليين». يشترون قطعة أرض، أو يحتلونها احتلالا، ويحرسونها بالسلاح وبالأسوار وأبراج المراقبة. ثم يروحون «يدافعون» عن أنفسهم ضد أهالي القرية أو القرى العربية المجاورة.

ابتداء بالعام 1936 شكلوا فرقهم المسلحة التي دربها وسلحها ضباط بريطانيون. قادهم هؤلاء ليشنوا الغارات «الدفاعية» على القرى الفلسطينية تأديبا للثوار الذين يرفعون مطالب «هجومية» بل «إرهابية»: الاستقلال ووقف الاستيطان.

في العام 1947 أدت تلك الفرق المسلحة مهمات «دفاعية» عديدة مثل نسف «فندق داوود» واغتيال الوسيط الدولي الكونت برنادوت، وطبقت خططا لاحتلال الجليل الواقع داخل الدولة العربية، حسب قرار التقسيم، ولتطهير الدولة اليهودية من العرب، فأجلت عشرات الألوف من الفلسطينيين من قراهم وأراضيهم، بوسائط «دفاعية» صرفة كالاغتيالات والمجازر.

وفي العام 1948 عندما أعلنت دولة إسرائيل، تكرست الوظيفة «الدفاعية» لتلك القوات بتعميدها أخيرا باسم «جيش الدفاع الإسرائيلي». ومن فرط «دفاعية» ذلك الجيش، كانت التقارير الرسمية الأميركية تؤكد أنه ليس فقط أقوى عددا وعتادا من كل الجيوش العربية مجتمعة، وإنما كانت على يقين أيضا من أن النصر «الدفاعي» معقود له.
وكان عرب يظنون أنفسهم هم المهاجمون والحربجيون ولا يزالون.

بعد ذلك تتالت الأعمال «الدفاعية»: احتل جيش «الدفاع» الإسرائيلي سيناء عام 1956 وصولا إلى قناة السويس لكي «يدافع» عن أمن إسرائيل ضد قرار جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس.

وتوسعت الأعمال الدفاعية لجيش «الدفاع» الإسرائيلي عندما احتل ما تبقى من فلسطين التاريخية عام 1967 ومعها صحراء سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية قبل ان يلحق بها أجزاء من الأراضي الأردنية ونحو عشرة في المئة من الأراضي اللبنانية.

أما سائر الحروب «الدفاعية» ومعها المجازر من صبرا ـ شاتيلا إلى جنين فقانا الأولى وقانا الثانية والحرب على لبنان 2006 وعلى غزة 2008 فمنسوب «الدفاع» فيها عال بحيث لا يحتاج إلى الكثير من التفاصيل.

لكن ما كان مجرد «دفاع» اختياري عن النفس، سرعان ما دخل في حومة «الاضطرار». خلال الانتفاضة الأولى، كان الأطفال والصبية والفتيان الفلسطينيون يضطرون الجنود الإسرائيليين إلى إطلاق النار عليهم «دفاعا» عن أنفسهم بعد أن يئسوا من إقناعهم بالحسنى بوقف الاعتداء عليهم بواسطة... الحجارة.

وتصاعدت اضطرارات الجنود الإسرائيليين للدفاع عن أنفسهم إزاء الاعتداءات التي شنتها عليهم أشجار الزيتون والبرتقال الفلسطينية، ناهيكم عن الاعتداءات التي كانت تشنها البيوت الفلسطينية ذاتها ما يستوجب نسفها.

ولما تعرضت إحدى جرافات جيش «الدفاع» لـ«هجوم» من متضامنة أميركية أخذت تلوح بالكوفية الفلسطينية، «اضطر» سائق الجرافة الى هرس راشيل كوري. والآن يتأهب جيش «الدفاع» الاسرائيلي لـ«الدفاع» عن الثلاثمئة رأس نووي التي يملكها في وجه ترسانة نووية ايرانية تتكون من 5,7 كليوغرامات من اليورانيوم المخصب!

ما جرى خلال الأيام الأخيرة على شواطئ غزة يصعب وصفه بالقرصنة. لأن القراصنة لا يدعون «الدفاع» عندما يهاجمون السفن المدنية فيسبون ويقتلون وينهبون. نحن هنا أيضا في حالة اضطرارية، حيث الجنود الاسرائيليون «اضطروا للدفاع عن أنفسهم»، على ما قال رئيس الوزراء نتنياهو بالحرف.

تصوروا المشهد. المعروف أن القانون الدولي، ومعه قوانين البحار واليابسات، يحبذ كثيرا فرض الحصار على جيب بشري هو أشبه بمخيم واسع، مفقر، دمّره جيش «الدفاع» الإسرائيلي بعد حملة «دفاعية» منذ ما لا يزيد عن سنة ونصف النصف. هكذا وصل إلى ذلك الجيب البشري المجوع والمحاصر بحرا وجوا وبرا، أسطول مدجج بالحرية وبعشرة آلاف طن من المواد الغذائية والطبية لأهالي غزة، وأصر على مهاجمة «جيش الدفاع» الإسرائيلي وهو يؤدي ذلك الحصار «الدفاعي» عن النفس. تصوروا عدوانية «اسطول الحرية» هذا!

عاينوا الصورة التي وزعها الجيش المذكور تدليلا على تعرضه للاعتداء: يد ترفع عصا ـ خشبية او حديدية ـ تهم بالاعتداء الوحشي على أسطول «دفاعي» من بوارج بحرية متنوعة ودزينات من المروحيات وقوات كوماندوس مظلية مجوقلة مكرسة كلها لأغراض «الدفاع». فهل يستغرب أحد أن «يضطر الجنود الإسرائيليون للدفاع عن أنفسهم» ضد تلك الذراع المرفوعة؟ وهل قليل أن يقتلوا عشرين فقط من أصحاب الأذرع الحاملة للعصي ويعتقلوا لا أقل من 480 إنسانا من جنسيات مختلفة ويصادروا قطع «أسطول الحرية» المعتدية بل أن يعترفوا بأنهم قد خربوا بعضها؟

ومع أن هذه الأعمال كلها أعمال «دفاع عن النفس» واضحة مثل عين الشمس، يقرر مجلس الأمن الدولي «التحقيق النزيه» في الأمر، خصوصا لجهة الكشف عما إذا كانت تلك الأعمال «الدفاعية» انطوت على مقادير من «الإفراط في استخدام القوة». ولقد تردد صدى الاحتجاج على «الإفراط في استخدام القوة» في أوساط القوى والدول ذاتها التي رفعت الصوت ضد الإفراط في استخدام القوة في العدوان على غزة.

«الاعتدال» سيد الاحكام في المؤسسة الدولية وفي العلاقات الدولية. ولكن لسائل ساذج أن يسأل هذا العالم الظالم كله، وبإفراط من السذاجة: كيف قياس «الإفراط» في استخدام القوة، عندما يستخدم جنود جيش «الدفاع» الإسرائيلي لـ«الدفاع» عن أنفسهم، في كل مرة، قوة أشد إفراطا في القوة من القوة التي سبقتها؟
"السفير"

التعليقات