11/06/2010 - 10:40

مرثيـة "اليسار" الإسرائيلي!/ أنطـوان شلحـت

مرثيـة
(*) مرة أخرى أثبت اليسار في إسرائيل أنه ضعيف الفاعلية والقيادة والأجهزة والقاعدة الشعبية. ولعل هذا هو ما حدا بأحد أبرز رموزه الإعلامية، الصحافي غدعون ليفي من "هآرتس"، بعد أن تملكه شعور عميق بـ "المأساوية" اختلط فيه الغضب بالأسى، إلى كتابة ما يشبه المرثية لهذا اليسار في ضوء الاستنتاجات التي خلص إليها من تظاهرة قامت بها بضعة تنظيمات يسارية، مساء يوم السبت 5 حزيران 2010، في تل أبيب، بمناسبة ذكرى حرب حزيران 1967، والتي تحولت إلى تظاهرة احتجاج على عملية إسرائيل القرصانية ضد سفن المساعدات الإنسانية إلى غزة.

ومما كتبه ليفي، الذي كان في عداد المشتركين في التظاهرة، في هذا الشأن: تنطوي هذه التظاهرة على إشارات من شأنها أن تومئ إلى احتمال استرداد اليسار الإسرائيلي أنفاسه، لكن يتعين علينا تذكّر أن المظاهرات التي شهدتها عواصم أوروبية على غرار تل أبيب، خلال الأسبوع الذي سبقها، والتي احتجت على الاحتلال الإسرائيلي بعد عملية اختطاف السفن في عرض البحر، كانت أكبر كثيرًا وأشدّ صخبًا وغضبًا... لقد سارت تظاهرة تل أبيب وهي مطوّقة بقوات غفيرة من الشرطة أكبر من أي مرة فائتة، ولعل ذلك هو من إحدى علائم الزمان الحالي أيضًا، وهتف المشتركون فيها شعارات ممجوجة هي نفسها المكرورة منذ ثلاثة وأربعين عامًا، ومنها شعار "دولتان لشعبين"، الذي أصبح شعار رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو (في إثر الخطاب الذي ألقاه في حزيران 2009 في جامعة بار إيلان)، وشعار "ضد الحرب ومع السلام"، والذي هو شعار أي مواطن إسرائيلي عادي. وفي واقع الأمر فإن هذه الطريقة لا يمكنها إسقاط حكومة ولا رفع الحصار عن غزة. يجوز أن اليسار في إسرائيل ما زال قادرًا (في أقصى حدّ) على تنظيم تظاهرة، إلا إنه ما زال متنائيًا عن التحوّل إلى حركة فاعلة مؤثرة في المشهد السياسي السائد.

فضلاً عن ذلك فإن الفيصل بين المتظاهرين من حركة "السلام الآن"، الذي حملوا الأعلام الإسرائيلية، وبين المتظاهرين من الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة (الحزب الشيوعي الإسرائيلي وحلفاؤه)، الذين حملوا الأعلام الحمراء، وهم عرب في معظمهم، كان فيصلاً واضحًا للغاية، في رأي ليفي. وبينما حاول المتظاهرون من الفئة الأولى إبراز المشاعر الوطنية الإسرائيلية التي يتحلون بها، كما عكس ذلك شعار فحواه "نفتخر بالجنود ونخجل بالحكومة"، وأطلقوا هتافات ضد نتنياهو ووزير الخارجية الإسرائيلية أفيغدور ليبرمان، وتحاشوا إطلاقها ضد وزير الدفاع إيهود باراك، رئيس حزب العمل المعدود على اليسار "الوطني"، فإن المتظاهرين العرب رددوا الهتاف التالي: "كم ولدًا قتلت يا وزير الدفاع؟".

وخلاصة القول، في قراءة ليفي، فإن تظاهرة يوم السبت لم تشفّ عن الغضب الحقيقي المطلوب في مثل هذه الحالة، والذي في وسعه التأدية إلى إسقاط حكومة أو إلى وضع حدّ للاحتلال. وبناء على ذلك فلا بُدّ من القول إن بإمكان الحكومة الإسرائيلية امتصاص مظاهر الاحتجاج الخجولة والمضي قدمًا في سياستها الهوجاء، علمًا بأنها لا تفعل ذلك حتى. وفي تصعيد الحملة المكارثية الشرسة على جمعيات تعنى بحقوق الإنسان وبالحقوق الديمقراطية عامة، مثلاً، ما يدلل على وجود نية حازمة نحو قمع هذه المظاهر، وهي حملة تتغيّا أكثر من أي شيء آخر تشويه جوهر حملة النقد الداخلية والخارجية لسياسة حكومة نتنياهو، بواسطة عرضها على أنها تُضمر الكراهية لشعب إسرائيل، علاوة على كونها تؤكد ما يلي:

- إن الإجماع الصهيوني القومي وتضخيم المخاوف من حملة الانتقادات الدولية يدججان مناخًا مهيمنًا في إسرائيل ينتج عنه كمّ الأفواه، الأمر الذي يجعل من المستحيل طرح أسئلة وإثارة شكوك بشأن عمليات إسرائيل وممارساتها في المناطق المحتلة، حتى من جانب فئات قليلة تتمسك بهذه المقاربة.

- هذه الظاهرة في حالات مثل عملية السيطرة على السفن، كما في أثناء الحرب على غزة، تصبح أكثر خطورة، حيث يهيمن الإعلام والمؤسسة العسكرية على طرح الجمهور بأسلوب أكثر وقاحة وصخبًا، وفي ضوء ذلك فإن أي فكر معارض يعتبر وبشكل فوري أشبه بـ "الخيانة الوطنية" (أحد المعلقين الإسرائيليين المنخرطين في حملة الهجوم على أصحاب الفكر النقدي كتب مثلاً: كثر هم أعداؤنا، والأكثر عداوة بينهم هم الذين في داخلنا، وهم وشاة، حاقدون، مفترون، جواسيس، متآمرون، مقاطعون).

- تقبّل الإجماع في إسرائيل، في أثناء تلك العملية وفي أعقابها، ومن دون أدنى تشكيك، تصريحات الناطق بلسان الجيش فيما يتعلق بكل شيء حدث خلالها، وبذا استنسخ تصرفه الأرعن خلال الحرب على غزة وبعدها.

- ليس هناك ما هو أسهل من الوقوف إلى جانب الجيش الإسرائيلي وضباطه والاختباء وراء الشعار القائل بأنه "أكثر جيوش العالم أخلاقية"، في ظل غياب أي رغبة حقيقية في التحقيق أو التمحيص، وفهم كيف أدارت إسرائيل فعليًا حربها ضد حركة السفن.

- حتى الأسئلة الضرورية بشأن سياسة وحدود استخدام القوة وأخلاقيات ساحة المعركة وشرعية أساليب القتال، التي طُرحت من جانب البعض، استبدلت باتهامات لا ضابط لها ضد المجموعات والأفراد الذين يعارضون المؤسسة الإسرائيلية ويطرحون تساؤلات أساسية فيما يتعلق بالحكومة والجيش.

لكن سواء أكان غدعون ليفي قد هالته حراسة الشرطة المكثفة لتظاهرة اليسار إزاء حجم استشراء اليمين وتفاقم عدوانيته، أم استفظعته القلة المثبطة لعدد المواطنين اليهود الذين نزلوا إلى الشارع للتعبير عن غضبهم، فإن محصلة ما يقوله هو أفول اليسار في إسرائيل في لحظة اختبار أخرى مهمة للغاية.

ولا شكّ في أن هذا التوصيف يؤكد، من جديد، حقنا الهادئ في التساؤل عما إذا كان ما زال من الممكن والمعقول التعويل على هذا اليسار في المعارك العامة المقبلة، بل كذلك في ما يسمى بـ "معركة توسيع الهامش الديمقراطي" داخل إسرائيل، والذي ثمة تحفظ كبير فيما إذا كان احتمال توسيعه لا يزال واردًا بعد، في ظل الحملة العنصرية المتصاعدة على حقوق الفلسطينيين في الداخل وعلى ثوابت حراكهم السياسي، وفي ظل محاكمة قياداتهم المنتخبة ومحاولة الاعتداء عليها وتهديدها بالقتل. وهو تساؤل ما عاد بالإمكان تأجيله، من دون التقليل من أهمية أي مظاهرة مناهضة للسياسة الإسرائيلية تجري في تل أبيب سواء كتلك التي شهدناها يوم السبت الفائت أو التي قد نشهدها في المستقبل، لكن أيضًا من دون تحميل الحراك السياسي الإسرائيلي الداخلي رهانات تبدو أكثر مما يحتمل فعلاً، هنا والآن، ولو في سبيل درء مرارة الخيبة في وقت لاحق.

التعليقات