12/06/2010 - 11:22

ماذا بعد المأساة - البطولة../ عوض عبد الفتاح

ماذا بعد المأساة - البطولة../ عوض عبد الفتاح
الحفرة التي حفرتها إسرائيل لغيرها في عرض البحر فسقطت فيها لن يُعاد رتقها بسهولة، بل ربما لن يتم ذلك أبدًا. فحتى لو عادت الدول إلى مواقفها السابقة، وهي التي اضطرت للتنديد بالجريمة الإسرائيلية، فإن صورة إسرائيل البشعة أصبحت محفورة في الذهن العالمي.

لم يعد المرء يوهم نفسه بحدوث تغيير جدي وحاسم في مواقف العرب الرسميين، أو غالبيتهم، تجاه إسرائيل وحصارها لغزة ومجمل سياساتها الكولونيالية ضد الشعب الفلسطيني. فالمواقف التي صدرت، وهي ثمرة الصمود الفلسطيني في غزة، وثمرة التضامن العالمي الجريء الذي يحركه هذا الصمود، وتحركه أيضًا جرائم إسرائيل، ليست إلا تراجعًا اضطراريًا ومؤقتًا عن حالة الذل والخنوع. فالمسألة ليست فتح معبر رفح على أهمية هذه الخطوة التي لم تكن لتحصل لولا أسطول الحرية، إنما المسألة أن هناك حصارا لفلسطين برمتها، ونحتاج إلى تحطيمه.

والمفارقة أنه رغم هذا الإنحطاط العربي الرسمي، فإننا نجد قوى عالمية مساندة لمبادئ الحق والعدالة، والمناصرة لحق شعب في الحرية، لديها الحافزية لـ"تغامر" وتخاطر بنفسها في معركة أخلاقية ضد المحتل الإسرائيلي. لقد جاء الأسطول الأخير، تتويجًا لحملات التضامن التي تجددت بعد الحصار الإجرامي المفروض منذ أكثر من أربع سنوات وقبل استيلاء حماس على السلطة. ونـُذكـّر أن حركة التضامن العالمي كانت من ضحايا اتفاقية أوسلو التي أوهمت العالم أن قضية فلسطين قد حُلـّت، لتكتشف هذه الحركة أو الحركات أن القضية لم تـُحلّ بل تم تفكيكها تمهيدًا لتصفيتها النهائية. لقد جاءت الإنتفاضة الثانية لتعيد رسم معالم الصراع في فلسطين ولتعيد إسرائيل إلى الصورة التي عرفها العالم: دولة احتلال، دولة كولونيالية ونظام أبارتهايد خاص.

الأمر الملفت للنظر هو أن منظمات المجتمع المدني المناصر للحرية، لم ينتظر إنهاء الإنقسام ليتحرك لفك الحصار، بل إن نشاطه جارٍ على الرغم منه. ولم يحول دونه تخاذل وتواطؤ جهات عربية وفلسطينية مع الحصار. كما لم يمنع تجدد وتطور النشاط التضامني حملة شيطنة حركة حماس التي تشنها إسرائيل والدوائر المتحالفة معها في الغرب. والناشطون من الأمم الغربية المختلفة من كافة الديانات، والعرب والفلسطينيون "في الشتات"، لا يفعلون ذلك من أجل هذا التيار أو ذاك، ولكن من أجل القضية الفلسطينية لأن الإنسان الحرّ يدرك أن منظومته القيمية الإنسانية لا تكتمل بدون التماثل والتضامن مع حرية الآخرين. وهذا درس مهم يُفترض أن يستمد المرء منه التشجيع والحافزية لنفض حالة القُعود والإستكانة وحالة الندب واللطم التي يمارسها البعض كتبرير لسكونه في غالب الأحيان.

المأساة – البطولة لأسطول الحرية، أثارت الشارع من جديد ضد الإحتلال، وأثارت خليطا من المشاعر لدى الشارع: غضب، حزن، وشعور بالإستنفار.. والشيء الجديد هو أن هذه التجربة تمد بالإيمان بفاعلية وأهمية حركة التضامن العالمية، وبالإمكانية للتأثير على إسرائيل وعلى المجتمع الدولي.

ولكن ما يجب التحذير منه هو إعلان أطراف وقوى عربية رسمية أو غير رسمية، عن عزمها دخول هذه الحلبة، حلبة أساطيل كسر الحصار عن قطاع غزة، في حين أن دورها مفترض أن يكون في مجال آخر هو المقاومة. يجب أن يبقى هذا النوع من النشاط التضامني السلمي والمدني مقصورًا على حركات التضامن العالمية، والمنضوية فيها بالطبع قوى فلسطينية تسكن في الغرب، أو قوى غربية وإسلامية مدنية بالإضافة إلى عرب 48، وهنا تكمن قوتها.

يجب ألا نقع في الوهم وكأن هذه الأساطيل ستحرر فلسطين.. وتهدم نظام الأبارتهايد. إنها عامل مساعد مهم، لإزالة ما تبقى من مساحيق عن إسرائيل، فالنضال في نهاية المطاف ليس إنسانيا في الأساس بل هو سياسي يهدف إلى إنهاء الإحتلال وتحقيق العدالة لشعب فلسطين. ليس هناك بديل عن النضال داخل فلسطين ولا بديل عن الدور العربي.

إذًا ماذا بعد الهجوم الدموي على الأسطول، وبعد ما أفرزه من مناخ من الغضب العارم على الجريمة، ومن الشعور بالإعتزاز وبالقوة في آن؟ كيف يمكن استثمار هذه المشاعر وتحويلها إلى جزء من الوعي المتراكم بإمكانية هزيمة الحصار؟ ومن هي القوى والأوساط والمواقع المؤهلة والمناسبة لاستئناف هذه الحملة المساندة لشعب فلسطين؟! أو بكلمات أوضح من يجب أن ينضم إلى هذه الأساطيل وإلى حملات المقاطعة والمتصاعدة؟ كيف نجعل هذا النبذ العالمي لإسرائيل يتصاعد؟ وكيف نصدّ الحملات الدعائية الصهيونية المضادة؟

تطرح هذه الأسئلة، وصورة الواقع العربي والفلسطيني الرسمي ماثلة أمامنا. أنظمة مستكينة ومتآمرة، وواقع فلسطيني متشظٍ، بين من لا يزال يراهن على الإدارة الأمريكية ويتساهل مضطرًا مع مقاطعة البضائع وبعض المظاهرات ضد الإحتلال، ومن يواجه أزمة في خياره المقاوم بعد أن تحول إلى سلطة تحت الإحتلال في منطقة محصورة.

هذه التجربة هي فرصة أمام الحركة الوطنية الفلسطينية عمومًا، وأمام القوى الوطنية داخل الخط الأخضر للإفادة من الأجواء المواتية التي أفرزتها هذه الجريمة.
لقد صبت إسرائيل جام غضبها، بسبب إخفاقها المدوي في عرض البحر، على عرب الداخل وقياداتهم بصورة عامة، وشنت حملة هستيرية على النائبة التجمعية حنين زعبي، وأرفقت ذلك بحملة تحريض جديدة على التجمع الوطني الديمقراطي. وربما لن يمرّ وقت طويل قبل أن يسقط ضحايا عرب من ممثلي الجمهور العربي ومن المواطنين العاديين في الداخل الفلسطيني.

وراء هذه الهستيريا عدة أسباب؛ الأول: هو تعمق أزمتها وعزلتها العالمية بسبب الإخفاق – الجريمة. الثاني: الضرر الذي لحق بهيبة جيش الإحتلال، وفرقة الكوماندوز البحرية. لم يكن سهلاً على هذا الكيان أن يشاهد جنوده المعتدين يجابهون بدفاع بطولي من قبل أنصار الحرية. السبب الثالث: هو الغضب والحقد المتراكم ضد عرب 48 ودورهم في هذه المعركة السياسية والإعلامية.

إن وجود رئيس الحركة الإسلامية، الشيخ رائد صلاح وممثلة التجمع الوطني حنين زعبي على ظهر السفينة يثير جنون الدولة العبرية بشكل خاص. فالحزبان في نظرها، أكثر الأحزاب تطرفًا ضد نظامها القهري، وقد شخصتهما على هذا النحو منذ هبة القدس والأقصى في تشرين الأول/ أكتوبر 2000 في الجليل والمثلث والنقب والساحل.

ليس التحريض جديدًا، فبعد أن تمكن عرب الداخل من وضع أنفسهم على خريطة العالم منذ الإنتفاضة الثانية، وأماطوا اللثام عن دليل آخر على طبيعة النظام الكولونيالي الإسرائيلي، تحولوا إلى جزء من العدو الفلسطيني العام بصورة علنية. هذا لا يعني أنهم لم يكونوا عدوًا في نظر الدولة العبرية قبل ذلك، وإلا لما فرض عليهم نظام الحكم العسكري وسلسلة القوانين الرامية إلى تصفية أملاكهم وتشويه هويتهم الوطنية منذ عام 1948. ولكن ذلك العداء وذلك التمييز كان يجري تنفيذه على الأرض يوميًا بصورة خبيثة، والذي بسبب العلاقة العضوية مع الغرب الإستعماري، تم تجاهل ذلك أو غض الطرف عنه.

من الواضح أن التحريض الدموي على أعضاء وفد عرب الداخل واتهامهم بالخيانة لن يردعهم ليس فقط عن أداء دورهم الوطني والإنساني، بل سيحفزهم على تطوير هذا الدور. إن هذه الإتهامات ليست مسيئة لنا، بل هي شرف لنا، لأنه لا يمكن للفلسطيني الذي سلب وطنه وحرم من لقاء أخيه أن يكون مواليًا لدولة الإحتلال، برموزها الصهيونية وسياساتها الإستعمارية.

لقد حان الوقت لتطوير العلاقة الكفاحية لعرب الداخل مع كل القوى المحلية والعالمية، بما فيها اليهودية الإسرائيلية وغير الإسرائيلية المعادية للإحتلال وللعنصرية، خاصة تلك الشخصيات التي تشارك بفضح إسرائيل عالميًا. وبحيث تصبح علاقة منهجية وثابتة.

من نتائج مشاركة وفد عرب الداخل، ومن الهجوم الدموي على الأسطول، هو إعادة طرح موقع هذا الجزء من شعب فلسطين على خريطة العالم. لم يعد بالإمكان الحديث عن حل القضية الفلسطينية دون التطرق إلى واقعه. فها هو الرئيس الأمريكي، أوباما، يتحدث اليوم عن حقوق هذا الجزء، وإن كان جاء في سياق "دولة اليهود"، ولكن هذا يدل أن كفاح هذا الجزء الذي كان يجري منذ عقود وفي ظل تعتيم وعزلة وانقطاع، أتى ثماره وبعد أن اتضح لمن لم يكن يعلم أو يتجاهل أو لا يريد أن يعلم، دور وعلاقة هذا الجزء بالصراع ومساهمته اليومية في المعركة ضد الصهيونية، فقد أصبح الباب مفتوحًا على مصراعيه لإعادة صياغة العلاقة المصيرية مع بقية أبناء الأمة.

التعليقات