17/07/2010 - 14:30

أبو داود.. نخلة عمّان أرضعته يهودية من سلوان../ صقر أبو فخر

أبو داود.. نخلة عمّان أرضعته يهودية من سلوان../ صقر أبو فخر
في خضم أي جمهور محتشد يمكن تحديده من بين الآلاف، بل يمكن الإشارة إليه بسهولة فائقة: طويل القامة... على عينيه نظارة سوداء... ولديه شاربان من طراز «ثمانية وثلث» وبيده عصا.

وقد شاعت في سنة 1973 رواية تقول إن الشاعرة الفلسطينية مي صايغ كانت تقصد أبو داود بالتحديد في إحدى قصائدها التي تضمنت البيت التالي: «يا ظريف الطول يا طول النخل/ يا رايح عمان تتلم الأهل».

وقد اقترن اسم أبو داود (محمد داود عودة) بالعنف كسلوك سياسي. وكان هذا الأمر بدهياً في القرن العشرين، ولا سيما في ميدان التحرر الوطني. فالعنف ارتبط بفكرة الثورة والحرية والعدالة، وكان يستمد شرعيته الأخلاقية من حق الناس في مواجهة عنف السلطات، أو في مواجهة عسف الاستعمار.

في خمسينيات وستينيات القرن العشرين المنصرم، احتدمت مخيلة شبان تلك المرحلة بأسماء مبجلة لملوك العنف الثوري أمثال غيفارا ووديع حداد وكارلوس وأوكاموتو وأندرياس بادر وأولريكه ماينهوف وماريغويلا وهوشي منه والجنرال جياب، وبأسماء الحركات الثورية أمثال «التوباماروس» و«المونتينيروس» و«الساندينستا» و«الفارابوندو مارتي» و«الزاباتيين»، وبأسماء أخرى لكنها محتقرة من أمراء القمع أمثال تشومبي وبينوشيه وبول بوت وفرانكو وسالازار ولاكوست والموساد والسافاك وغيرها.

وفي جميع الأحوال، شتان بين العنف الثوري الذي أطلقه في سماء فلسطين ياسر عرفات وجورج حبش وخليل الوزير ورفاقهم، والإرهاب الأعمى الذي نشره في ربوعنا صبري البنا (أبو نضال) وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأمثالهم من عباد الرحمن الذين خرج بعضهم على البشرية من كهوف «تورا بورا» في بلاد الأفغان.
لولا عملية ميونيخ في سنة 1972، وعملية التسلل إلى الأردن في سنة 1973، لظلت سيرة أبو داود عادية تماماً، مثلها مثل سيرة أي فلسطيني ناضل في صفوف حركة «فتح» أو في خلايا «الجبهة الشعبية» أو غيرهما، وربما انطوت الأسرار، كما تطوى عادة، بموته. لكن أبو داود كان طرازاً مختلفاً، فقد شاء أن يكشف أسراره وأسرار بعض العمليات الخاصة في كتاب أصدره في سنة 1999 بعنوان «فلسطين: من القدس إلى ميونيخ»، الأمر الذي أثار عليه نقمة الجميع: إسرائيل بالطبع، وألمانيا، وحركة فتح، والسلطات الأردنية أيضاً.

اتُهم أبو داود بإسالة «الدم اليهودي» في ميونيخ وبـ«كراهية اليهود». لكن هذا الفتى المولود في 19 أيار 1937 في حي سلوان المشرف على القدس أرضعته، في صغره، امرأة يهودية. وكان جيرانه من يهود اليمن، وطالما لعب مع أبنائهم وشاركهم طعامهم، واحتفل معهم بأعيادهم، ولا سيما عيد «البوريم» الصاخب (عيد المساخر).

وكان أبناء سلوان يسمونه «شمعون» لالتصاقه بجيرانه اليهود، الذين ما إن غادروا سلوان إلى تل أبيب في سنة 1942 حتى ودعهم، مع أهله، بالحزن والبكاء. وظل يذهب من سلوان إلى حي «ميئه شعاريم» في القدس راكباً الحمار في كل يوم سبت لتسليم الحليب إلى اليهود من بائعي الحليب. وليس غريباً ان يحمل كثير من أعلام الفلسطينيين أسماء يهودية أمثال: موسى كاظم الحسيني، موسى العلمي، أحمد جبريل، طلعت يعقوب، أبو موسى (سعيد موسى مراغة)، هارون هاشم رشيد، موسى أبو مرزوق... الخ.

لم يعرف أبو داود كراهية اليهود على الاطلاق، لكن وعيه السياسي بدأ يتفتح مع تفجير فندق الملك داود في القدس سنة 1947، ومع أخبار مجزرة دير ياسين واستشهاد عبد القادر الحسيني. والطريف أنه اكتشف لينين في السعودية، وقرأ بعض كتب ماركس وأنغلز، بما في ذلك أجزاء من «رأس المال» في مكتبة القصر الملكي حينما كان يدرّس أبناء العائلة المالكة السعودية التي جاءها في سنة 1960. وفي السعودية أيضا تعرف إلى أحمد القدوة (ابن عم ياسر عرفات) الذي راح يطلعه على مجلة «فلسطيننا» التي كان يصدرها في بيروت توفيق حوري وهــاني فاخوري، ويحررها ياسر عرفات وخليل الوزير (أبو جهاد). وكانت بعض مقــالات هذه المجــلة تُذيّل بتوقيع «فتح»، فسأل أحمد القدوة في إحدى المرات عمن يكون السيد «فتح» هذا، فشرح له القدوة الأمر.

وهكذا، بدأت معرفة أبو داود بحركة فتح التي انتمى إليها في سنة 1962. وفي تلك السنة أيضا تعرف إلى أبو نضال (صبري البنا) الذي كان يدير محلاً لبيع الأدوات الكهربائية في الرياض. وهذا الرجل الأمي (لم يدرس إلا ثلاث سنوات من المرحلة الابتدائية) استطاع الانتقال من بيع أدوات الكهرباء إلى كهربة العالم بالإرهاب طوال ثلاثين سنة لاحقة.

عمل أبو داود مع أبو إياد (صلاح خلف) في أمن حركة «فتح» بعد عام 1967 (جهاز الرصد)، ثم التحق بدورة مخابرات في مصر سنة 1968، وكان معه علي سلامة (أبو حسن) ومهدي بسيسو (أبو علي) وفخري العمري (أبو محمد) ومحمد صبيح وآخرون. وفي نهاية الدورة استقبلهم الرئيس جمال عبد الناصر، واحتفى بهم.

انتقل من جهاز الرصد إلى قيادة ميليشيا «فتح» في عمان سنة 1969. وفي هذه المرحلة خطط عملية قصف «الكنيست» بصواريخ الكاتيوشا التي نقلت بالمراكب عبر البحر الميت. لكن مجموعة الفدائيين التي أشرف عليها عمر الخطيب (أبو شامخ) لم تتمكن من إطلاق إلا ثلاثة صواريخ لعطل طرأ على البطاريات بسبب الماء. وهذه الصواريخ الثلاثة عجزت عن إصابة مبنى الكنيست فسقطت إلى الغرب منه.
أصيب أبو داود في معارك أيلول 1970 في الأردن في فخذه، ومع ذلك تابع قيادة الميليشيا في هذه المدينة التي لم يلبث الفدائيون أن خرجوا منها بحسرة غامرة، بعد معارك دامية أوقعت نحو أربعة آلاف ضحية فلسطينية.

وكان من عقابيلها ان البعض بادر إلى تأسيس منظمة سرية للانتقام من المسؤولين عن كارثة «أيلول الأسود». وكان أبو داود، إلى جانب أبو إياد وفخري العمري، شأن مهم في تأسيس هذه المنظمة التي شاع اسمها كثيراً في المرحلة ما بين 1971 و1975، والتي تمكنت إحدى مجموعاتها من اقتحام مقر الألعاب الأولمبية في ميونيخ سنة 1972، وأسر الفريق الاسرائيلي كله. وكان أبو داود المخطط الرئيس لهذه العملية التي انتهت نهاية دموية.

وفي شباط 1973 تسلل إلى الأردن من الأراضي السورية، وكان الهدف السيطرة على معتقل الجفر الصحراوي، وإطلاق الفدائيين الفلسطينيين المعتقلين فيه، والتفاوض على إطلاق غيرهم. وقد فشلت العملية واعتقل مع رفاقه، وحكم بالإعدام. لكن الملك حسين زاره في السجن قبيل اندلاع حرب تشرين الأول 1973 وأطلق سراحه بنفسه.

لكن الموساد لم ينسَ أبو داوود، ففي سنة 1981، وفي أحد مقاهي وارسو، أطلق عليه أحد العملاء سبع رصاصات في مختلف أنحاء جسده، لكنه هجــم على القاتل وهو يحمل جروحه. وعندما فرّ القاتل من أمامه، لحق به محاولاً إمساكه، غير أنه سقط على الأرض ونجا. وبعد عشر سنوات اعتقل مطلق النار وتبين أنه فلسطيني وعميل للموساد، فأُعدم.
وقع أبو داود في أغلاط سياسية ما كان عليه الوقوع فيها. إنها قلة النباهة السياسية أحياناً. وأحد هذه الأغلاط تحالفه الخفي مع أبو نضال المطرود من حركة «فتح» في سنة 1974، والذي لم يترك جهة استخبارية لم يمد يده إليها.

ومن شواهد هذا الغــلط العــجيب ما جرى في سنة 1978، إبان الاجتياح الاسرائيلي للبنان. فقد تقاطر المتطوعون على مكاتب المقاومة الفلسطينية للقتال وصد الاجتياح. واستغل أبو نضال هذا الوضع لإرسال مجموعات تابعة له من العراق إلى لبنان. وتولى ناجي علوش وأبو داود تأمين دخول هذه المجموعات، واختــيار المواقع لها. وقد انكشفت هذه الخطة، وجرى تطويق تلك المجموعات واعتقالها، وسقــط خلال ذلك بعض الضحايا. وقد كانت تلك الغلطة علامة سوداء في مسيرة أبو داود، فهذا السلوك غير المحسوبة عواقبه تماماً كان ينم عن أمية سياسية بالغة، وعن عقلية تآمرية برع أبو نضال فيها كثيراً.

إنها المصائر المتعاكسة التي تزداد إيلاماً كلما ازدادت الغربة قسوة. ها هي أحوال الناس الذين تكسرت أحلامهم التي حمّلوها للثورة الفلسطينية، وجميع من كانوا أصدقاءه تحولوا بعيداً عنه: منير شفيق الشيوعي الذي أثر كثيراً في أبو داود منذ أيام التدريس في رام الله صار إسلامياً، أبو نضال صار إرهابياً وانتهى مقتولاً في بغداد، سعيد موسى مراغة (أبو موسى) قريبه وصديقه انشق على «فتح» وانتهى أمره عاطلاً عن النضال في دمشق. ناجي علوش عارض ياسر عرفات واختار لمعارضته الالتحاق بصبري البنا، ثم عاد خائباً فمريضاً. أبو إياد وفخري العمري وأبو حسن سلامة وأبو جهاد اغتيلوا جميعاً... وحتى ياسر عرفات اغتيل. وهو نفسه بات طريد المدائن، فقد منعته اسرائيل من العودة إلى رام الله في 13/6/1999 بعد صدور كتابه «من القدس إلى ميونيخ» الذي كشف فيه تفصيلات عملية ميونيخ ودوره في العملية. واضطرت حركة فتح، تحت ضغط الإحراج، إلى فصله من عضويتها بعدما فضح أسرار تلك العملية ولا سيما أدوار أبو مازن وياسر عرفات في ترتيب خطة العملية وتمويلها وتجهيزها، فلجأ إلى الاقامة في عمان التي لم تلبث ان طلبت منه الرحيل، ولم يجد غير دمشق لتحميه وتؤويه، فأقام فيها حتى رحيله في 3/7/2010، ودفن في مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك.

التعليقات