31/07/2010 - 11:09

المستقبل الفلسطيني بدأ بالأمس المقاوم../ قاسم عزالدين

المستقبل الفلسطيني بدأ بالأمس المقاوم../ قاسم عزالدين
ما أفضت إليه «عملية السلام» من تهويد القدس وحصار غزة وتوسّع المستعمرات في الضفة، وكذلك إلغاء الحقوق الفلسطينية والقضاء على منظمة التحرير، هو نتيجة من نتائج ما يسمى «حل النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني» في دولتين.

فما اتفقت عليه السلطات العربية، ثم السلطة الفلسطينية مع «المجتمع الدولي» في هذا الحل، هو في عمقه وأبعاده اتفاق على استمرار الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين، وعلى إلحاق السلطة الفلسطينية والسلطات العربية لحماية توسع الاستعمار، حسبما ترى الدولة الاستعمارية حماية أمنها ومصالحها الحيوية.

فكل «عملية السلام» بين السلطات العربية وإسرائيل محدودة في هذا الإطار المرجع للبحث عن «حل المشكلة الفلسطينية»، وعلى الرغم أن بعض بنود اتفاقيات أوسلو يتطرق إلى ما يمكن تأويله «بتنازلات إسرائيلية»، لكنها بنود قابلة للبحث «على طاولة المفاوضات» ومرجعيتها الأساس ما يمكن أن تقبله إسرائيل في «تسوية المشكلة الفلسطينية» لا حل مشكلة إزالة استعمار الدولة الصهيونية.

ولا ينحصر التوافق في حماية السلطات العربية والسلطة الفلسطينية بقاء الاستعمار الإسرائيلي وتوسع أمنه ومصالحه، بل إن هذا الأمر هو فرع من أصل التوافق على احتلال «المجتمع الدولي» فراغ الدول العربية في سياساتها الدفاعية وأمنها القومي، وفي سياساتها الخارجية وسياساتها الاقتصادية ـ الاجتماعية. لذا فإن توافق السلطات العربية والسلطة الفلسطينية مع «المجتمع الدولي» وإسرائيل على إلغاء الحقوق الفلسطينية، هو جزء من كل التوافق على إلغاء حقوق الشعوب العربية في حريتها وسبل معاشها وأسباب عمران دولها، وفي هذا المستوى من الترابط والتداخل يمكن إعادة الاعتبار إلى حقوق الشعب الفلسطيني في إزالة الاستعمار وبناء دولته الديموقراطية بالترابط والتكامل مع حقوق المجتمعات العربية، في التحرر من احتلال «المجتمع الدولي».

لم تستقل الدول العربية في الحرب العالمية الثانية بدفع من حركات استقلالية قوية وثورات وطنية كبرى. فقد نشأت (عدا ثورة الجزائر التي أُجهضت في تقسيم المغرب العربي) بفعل انحسار الأمبراطوريات القديمة وتحوّل المعسكَرَين نحو إزالة الاستعمار القديم. لكن هذا الاستقلال السياسي ولد ملغوماً من المعسكرَين في إنشاء دولة استعمار استيطاني للمتعصبين البيض، أثناء إزالة الاستعمار بالضبط.

ولم يكن من الممكن أن تحفظ الدول العربية الناشئة استقلالها السياسي دون استكمال إزالة الاستعمار، وتوحيد مصالحها الحيوية للحد من التبعية الاقتصادية والأمنية الاستراتيجية في النظام العالمي بعد إعادة تقسيم الأسواق والنفوذ.

وقد حاولت بعض السلطات الوطنية خلال أقل من عقد ونصف، الحدَّ من الإلحاق والتبعية، لكنها انهزمت في الحرب عام 67. ولم تكن هذه الهزيمة العسكرية الساحقة حتمية بحسب مذكرات موشي دايان الذي تفاجأ بنتائج الحرب. ولم يكن ما أدت إليه من هزيمة سياسية ساحقة قدراً كما روّج مثقفو «النقد الذاتي بعد الهزيمة». فالهزيمة السياسية الساحقة هي نتيجة نجاح انقلاب من داخل السلطة، على السلطة المهزومة عسكرياً واحتمائه بالانفتاح على «المجتمع الدولي»، مثل توأمه في باقي السلطات العربية التي لم تناوئ يوماً الاستعمار والتبعية، وعلى هذه الهزيمة السياسية ثبّتت إسرائيل مشروعها الاستعماري في توسع احتلال الأراضي، وأثبتت «للمجتمع الدولي» أن القاعدة العسكرية الاستعمارية التي أنشأها في الشرق الأوسط تحظى بكفاءة إرغام السلطات العربية على التبعية، في استجلاب وضع اليد، على مصالح دولها وحقوق مجتمعاتها. فانحياز «المجتمع الدولي» السافر إلى إسرائيل، ليس بدون سبب، ولعل استناد اللوبيات الصهيونية وهيئات وشركات دول «المجتمع الدولي» إلى نجاح الكفاءة الحربية الإسرائيلية في تأمين مصالحها الحيوية والاستراتيجية، هو إلى اليوم أهم ورقة ضغط على حكوماتها، في دعم توسع الاستعمار الاستيطاني وحماية أمنه.

أنجزت دول وهيئات وشركات «المجتمع الدولي» خلال ثلاثة عقود ونيف بفضل التهديد الحربي الإسرائيلي، وضع يدها على السياسة الدفاعية والسياسة الخارجية والسياسة الاقتصادية ـ الاجتماعية في الدول العربية. فترعرعت مصالح شرائح واسعة من زبائنية السلطة ومحابيها ومثقفيها ورجال الأعمال والريع والعقار، تحت جناح احتلال «المجتمع الدولي» فراغ مصالح الدول العربية وأمنها القومي وحقوق مجتمعاتها.

ثم تطوّرت هذه السياسات والمصالح منذ قفزة العولمة النيوليبرالية أواسط التسعينيات في أيديولوجية شديدة الصلابة في إلغاء الحقوق الطبيعية والمكتسبة سواء كانت وطنية وسياسية أو اجتماعية وثقافية منها: أن مشاكل دول «العالم الثالث» هي نتيجة «تخلف» مجتمعاتها في «التنمية الاقتصادية»، وفي الاستبداد السياسي و«العقل الجمعي» وعدم تقبلها «للتقدم والحداثة»، وبما أن هذه المشاكل تؤثر على الحضارة الإنسانية ينبغي على «الأمم المتحضرة» أن تتحمل مسؤولية «رسالتها الإنسانية»، وتقوم في فرض حزمة من الحريات هي: حرية السوق والتجارة، وحرية الاستثمار والمنافسة في السوق الدولية، وحرية البقاء للأقوى سواء في الاستعمار أو في احتلال مصالح الدول في الأمن الغذائي والثروات الطبيعية والوفاق الاجتماعي والأمن الوطني.. وهذه «الرسالة» تصحبها مظالم لكنها ضرورية لإنتاج حلول فضلى على المدى الأبعد، إذا توفر للحلول «نبذ العنف» وتقديس «المجتمع الدولي» بل تقديس الاستعمار الذي كان له فضل تحديث البلدان المتخلفة على قول ساركوزي.

وحيث تدير «اليد الخفية» التحوّل نحو «الازدهار والديموقراطية» تقوم السلطات المحلية التي تحب الحياة، في تسهيل وضع اليد وفي خوض الحرب لحماية أمن «الحضاريين» واستقرارهم. وإذا كان لا بد من خلافات «طبيعية» في ما بينهم، لا بد من حلها «على طاولة المفاوضات» ولا بد أن تُحل هذه الخلافات بين «الحضاريين» يوماً ما «لأن الديموقراطيات لا تلجأ أبداً إلى العنف في ما بينها»!

وقد ألغت هذه الأيديولوجية الحقوق الوطنية الفلسطينية مثلما ألغت الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية العربية، لكنها خلقت رباطاً وثيقاً من المصالح بين الفئات المستفيدة من الإلغاء، ورابطاً وثيقاً آخر من المصالح بين الأغلبية الساحقة المتضررة منه.

والخلاف أن النُخب المستفيدة، تنتج أيديولوجية وسياسات وثقافة وآليات على أوسع مدى من الكوني إلى المحلي، فيما تتأثر نُخب المتضررين إلى حد كبير في هذه الأيديولوجية وفي السياسات الناتجة منها. ولم تستطع إنتاج رؤى وسياسات بديلة ولا تسعى إلى إنتاج آليات عمل لا سيما في التكامل مع المقاومة المسلحة وفي تكامل الحقوق الفلسطينية والحقوق العربية، وفي تكامل حق كل فئة اجتماعية في إزالة الاستعمار وفي إزالة احتلال «المجتمع الدولي».

ففي سياق رد الفعل الشعبي على الهزيمة، انفجر المد السياسي العربي وصعدت المقاومة الفلسطينية على صداه. ثم نالت منظمة التحرير الفلسطينية اعتراف السلطات العربية «بالتمثيل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني» في بداية «انفتاح» السلطات على «المجتمع الدولي». لكن المنظمة التي لبت طموح الشعب الفلسطيني في هوية وطنية، وقعت في فخ السلطات للتخلص من عبء الحقوق الفلسطينية، وورثت إرث السلطات العربية في فصل الحقوق الوطنية عن الحقوق الاجتماعية والسياسية الفلسطينية وعن الحقوق العربية.

فميثاق منظمة التحرير بُني على أساس حركة وطنية ضيّقة الأفق والطموحات في «الثوابت الفلسطينية» ومن ضمنه شعار «دولة فلسطينية ديموقراطية»، لطمأنة الأحزاب اليسارية الغربية على مصير اليهود. ولم يحظَ أي من ثوابت الميثاق برؤية إزالة الاستعمار في تكامل مصالح الدول العربية وحقوق مجتمعاتها أو تحديد آليات العمل مع القوى الاجتماعية المتضررة من الاستعمار في فلسطين.

ولعل الدليل الأكثر مرارة على ضيق الأفق والطموحات أن منظمة التحرير لم تعمل على تعمير وتنظيم الحياة الآدمية في المخيمات الفلسطينية «خوف أن ينسى الفلسطينيون فلسطين». لكن الآفة التي ورثتها منظمة التحرير عن السلطات العربية هي آفة عدم الجدية في القتال. ويصعب اليوم العثور على خطط عسكرية في أرشيف منظمة التحرير أو على استراتيجيات قتالية قياساً إلى المقاومة في لبنان على سبيل المثال.

وعلى الرغم من ذلك احتاجت منظمة التحرير إلى هزيمتين في الأردن عام 69 وفي لبنان عام 82 كي تدخل في سرب الهزيمة السياسية التي منيت فيها السلطات العربية عام 67 رغم نصف انتصار عسكري في حرب 73.

باتت منظمة التحرير اليوم شاهد زور على حماية السلطة الفلسطينية استكمال إسرائيل حربي 48 و67. وباتت فصائل المنظمة كابوساً في نرجسية سلطتها على المخيمات الفلسطينية. فلا أمل يرجى من إعادة إحياء رومانسية فات أوانها وزمانها. ولا أمل في المراهنة على «فضح» السلطة الفلسطينية والسلطات العربية بل على العكس من ذلك يمكن استشراف تحول السلطة الفلسطينية إلى «حركيّ» الجزائر، إن لم يكن بمحمود عباس فبسلام فياض أو محمد دحلان. ويمكن استشراف تحوّل السلطات العربية إلى «بونزات» أميركا اللاتينية فالغريق لا يخشى من البلل.

ولا أمل كذلك في جوقات «الحوربة» المجانية وفي المفكرين المسهبين في شرح «الواقع العربي المأزوم» بانتظار ما تقوم فيه أجيال المستقبل. فهم جزء من الأزمة والمستقبل بدأ أمس في قتال إسرائيل وتلقينها دروس الهزائم في لبنان وغزة. والمستقبل بدأ أمس في التكامل مع المقاومة المسلحة وفي دعمها بالعمل على حق العودة، وفي تجنيد المجتمع المدني العالمي لكسر الحصار وتطوير المقاطعة ومحاكمة المجرمين، وفي تقطيع أواصر دعم إسرائيل في أوروبا والعالم. والمستقبل بدأ أمس في ولادة كادرات جديدة وفاعلين يتشاركون في تنظيم وإدارة هذه الدينامية ويحتاجون إلى مؤازرة فكرية بمستوى هذه الدينامية، وإلى مشاركة في تحمل مسؤولية بناء آليات عمل لتغيير موازين القوى على أوسع مدى ممكن وأوسع تضامن ممكن، بين الفئات الاجتماعية المتضررة من إلغاء الحقوق: في انتخاب هيئات في المخيمات الفلسطينية لتنظيمها وإعمارها، وهي مهمة ممكنة في التوأمة والشراكة التضامنية مع المحليات العربية والعالمية. وفي انتخاب هيئات في بلاد الانتشار تتحمل مسؤولية العمل على حق العودة وهي أيضاً ممكنة في العمل مع الهيئات الحقوقية العالمية الجدية، وفي تنسيق تحمل المواطنين في أوروبا والعالم من أصول فلسطينية وعربية وإسلامية، مسؤولية العمل على تجفيف منابع دعم الاستعمار مع المواطنين في بلدان الإقامة في تضامن مصالح وأهداف مشتركة. وفي التكامل مع المقاومة المسلحة في العمل على تكامل الحقوق الوطنية الفلسطينية وحقوق كل فئة اجتماعية عربية متضررة من تهميش السياسات النيوليبرالية واحتلال دول وهيئات وشركات «المجتمع الدولي». وفي بناء تيار عربي من القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للقيام بهذه المهام وأمثالها، وهذا الأمر قابل للتحقيق على أساس وظائف محددة تتنامى تدريجياً، لا على أساس «شروي غروي» تجمعات الأحزاب وجبهاتها الورقية(...) وفي هذا السياق ضرورة إعادة الاعتبار إلى حل الدولة الفلسطينية الديموقراطية بمعنى حل إزالة الاستعمار لا حل «المشكلة الفلسطينية». وإزالة الاستعمار الاستيطاني لها حل من اثنين: إما الحل الجزائري في عودة المستوطنين والحركيين معهم، وإما الحل الجنوب أفريقي في تفكيك دولة التطهير العرقي والامتيازات العنصرية.
"السفير"

التعليقات