18/08/2010 - 09:51

الرهان على أمريكا حرث في البحر../ علي جرادات

الرهان على أمريكا حرث في البحر../ علي جرادات
يوما بعد يوم تبرهن الوقائع العملية أن ضمان تفوق إسرائيل على ما عداها من دول وقوى شرق أوسطية، يشكل ثابتا من ثوابت السياسة الأمريكية في المنطقة، إذ بالإضافة إلى سخاء وثبات وتزايد ما تحظى به إسرائيل من دعم سياسي ومالي وعسكري أمريكي، فإن البيت الأبيض لا يجد حرجا في اشتراط دعم حلفائه الإقليميين بالسكوت على العدوانية الإسرائيلية والتغطية على جرائمها، حتى لو أرْتُكِبت بحق هؤلاء الحلفاء وسيادتهم ومصالحهم واستقرار مجتمعاتهم ، أي بما يتجاوز اشتراط دعم الحلفاء بالسكوت والتغطية على ما أرتُكِبَ وما يزال يرتكب بحق الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية من جرائم، فاقت في فظاعتها كل تصور، وطال أمدها قرابة قرن من الزمان.

في سياق هذه السياسة الأمريكية الخارجية عموما، والشرق أوسطية خصوصا، تأتي إعادة البيت الأبيض النظر في "فتات" تسليح الجيش اللبناني بعد إقدام قوة منه بممارسة حقه في الرد الدفاعي عن حدود وطنه، على إثر التحرش الذي قام به الجيش الإسرائيلي في قرية العديسة الحدودية، تحت ذريعة اقتلاع شجرة يُدَّعى أنها تعيق تصوير ما يجري خلفها، وكأنه جرى اكتشاف هذه الشجرة لأول مرة، بل كأنها تقف عائقا منيعا أمام أحدث الوسائل التكنولوجية الإستكشافية.

وفي ذات السياق يندرج إنذار البيت الأبيض لتركيا بإعادة النظر في تزويد الجيش التركي بمعدات عسكرية تلزمه في مواجهته مع حزب العمال الكردستاني، واشتراط تزويده بهذه المعدات بتوقف تركيا عن مواقفها الأخيرة تجاه إسرائيل، هذا علماً أن الموقف التركي لم يصل حد مناصبة إسرائيل العداء، ولم يتعرض جوهريا لما هو قائم بين البلدين من علاقة تحالف وتعاون عسكري إستراتيجي، بل جاء في إطار الحق السيادي بالمطالبة بتشكيل لجنة تحقيق دولية في المجزرة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بقرار سياسي مبيت بحق سفينة مرمرة التركية، وهي المجزرة التي راح ضحيتها تسعة مواطنين أتراك، ونالت إدانة إقليمية ودولية غير مسبوقة، على الصعيدين الرسمي والشعبي، ما وضع قادة إسرائيل في عزلة سياسية، قادتهم إلى إرباك حد إقدامهم على اللجوء إلى لعبة تقاذف كرة المسؤولية عن هذه الجريمة كجريمة حرب موصوفة.

على الرغم من جلاء أهداف عدوانية التحرش الإسرائيلي في لبنان التي تتجاوز موضوع بقاء الشجرة أو إزالتها، وعلى الرغم من أن رد الجيش اللبناني جاء رداً دفاعيا على اعتداء إسرائيلي واضح، إلا أن البيت الأبيض لم يأخذ ذلك بعين الاعتبار، بل انحاز إلى وجهة النظر الإسرائيلية التي تفترض أن ليس من حق الجيش اللبناني الرد على اختراقات واعتداءات وتحرشات الجيش الإسرائيلي، وما أكثرها. وبنفس الطريقة تصرف البيت الأبيض، ولم يأخذ الحق السيادي التركي بعين الاعتبار، رغم ما انطوت عليه الإدانة العالمية للمجزرة من دلالات، بل انحاز أيضاً لسفور قناعة الإسرائيليين العنصرية المبْنِيّة على منطلق أن لهم الحق في عمل أي شيء، حتى لو كان جريمة حرب موصوفة، وأن ليس من حق أحد الاعتراض، باعتبار أن دولتهم فوق القوانين الدولية الناظمة لعلاقة دول العالم بعضها ببعض،

إن الذي حدث مع سفينة مرمرة التركية، وكذا التحرش الإسرائيلي بالجيش اللبناني، ليس غريبا على سياسة الاستعلاء الإسرائيلية المَبْنِيّة على ثقافة عنصرية ترى في الآخرين مجرد أدوات في خدمة ممارسات توجهاتها الإحتلالية العدوانية، لكن المُستغرب أن تصل التغطية الأمريكية لهذه التوجهات والممارسات حد عدم مراعاة ولو إلى الحد الأدنى من التوازن المطلوب لقوة عظمى، هي وإن كانت في حالة تحالف إستراتيجي مع إسرائيل، إلا أن استقرار مصالحها الإستراتيجية في المنطقة على علاقة بمصالح واستقرار دول وقوى أخرى، بمعنى أن سفور الانحياز الأمريكي لثقافة سياسة الاستعلاء الإسرائيلية، لا يمكن فهمه حتى من زاوية المصلحة الأمريكية البحتة.

في السياق حريٌّ التذكير بالانتقادات الأمريكية الداخلية والدولية الحليفة لإدارة الرئيس الأمريكي السابق بوش وسياستها الحربية فائقة الجنون، والمُرتكزة على قاعدة: مَن ليس معي فهو ضدي، وأن ما لا يحل بالقوة، يحلُّ بمزيد من القوة، ما قاد إلى تشكيل لجنة بيكر-هاملتون التي قدّمت توصياتها القاضية برسم سياسة أكثر توازناً تراعي مصالح الآخرين وتأخذها بعين الاعتبار، فضلاً عن الانتباه إلى أهمية المعالجة السياسية التي يأتي استخدام القوة في إطارها، وليس العكس.

تفاعل العالم مع هذه التوصيات (الانتقادات)، وما أفضت إليه مع غيرها من العوامل من رحيل إدارة المحافظين الجدد بقيادة بوش عن سدة الحكم، وحلول إدارة أوباما مكانها، بل، وتوقع الكثيرين أن تكون سياسة الإدارة الجديدة للبيت الأبيض أكثر توازنا، لا لجهة تبني قيم العدالة والدفاع عنها والتوقف عن سياسة ازدواجية المعايير، بل، في أقله، عدم الجنوح بهذه الازدواجية حد السفور، الأمر يتعارض مع استقرار المصالح الأمريكية أولا وقبل أي جهة أخرى.

هكذا كانت التوقعات والآمال مع بداية عهد إدارة أوباما، خاصة بعد ما أبداه خطاب الرئيس الأمريكي الجديد من اعتدال شكلي وظاهري في التعامل مع ملفات المنطقة، وفي المقدمة الصراع العربي الإسرائيلي، وجوهره القضية الفلسطينية، غير أنه لم يمضِ زمن طويل حتى جرى تبديد تلك التوقعات والآمال، بعد أن استدارت إدارة الرئيس أوباما استدارة كاملة عما بشرت به من رؤى وسياسات جديدة. ففي الشهور الأخيرة، عادت وقائع السياسة الخارجية الأمريكية، والشرق أوسطية منها تحديداً، إلى اعتماد ذات القواعد التي ارتكزت إليها سياسة المحافظين الجدد، إن لم تكن أشد سفوراً في بعض أوجهها ومحطاتها، وخاصة فيما يخص الملف الفلسطيني. ويبرهن على ذلك ما جرى من إعادة للنظر في تسليح الجيشين اللبناني والتركي، واشتراط هذا التسليح بعدم الاعتراض على العدوانية الإسرائيلية، حتى لو ارتكبت جريمة حرب نالت ما نالت من الإدانة الدولية، على المستويين الرسمي والشعبي، كتلك المجزرة التي تعرضت لها سفينة مرمرة التركية.

والخلاصة، إذا كان التمني بأن تتخذ الإدارة الأمريكية سياسة أكثر توازناً انطلاقا من مصالح الولايات المتحدة واستقرارها غير وارد، كما برهنت على ذلك الوقائع الأخيرة للسياسة الخارجية الأمريكية، فإن الرهان على إمكانية أن تكف الإدارة الأمريكية عن سياسة ازدواجية المعايير، هو كرهان ذاك الذي أراد يوماً حراثة البحر. وعليه، فإن على كل مَن يريد أن تصبح السياسة الأمريكية أكثر توازناً، فما بالك أن تصبح عادلة، أن لا ينتظر حتى تقوم الإدارة الأمريكية بذلك من تلقاء نفسها، بل عليه استخدام أوراق قوته في مواجهتها، وإلا فإن عليه الانتظار إلى ما لا نهاية، كانتظار مَن يريد حراثة البحر، الأمنية العبثية المستحيلة.

التعليقات