31/08/2010 - 10:10

قضية فداء الشاعر: جدلية الجولان المحتلّ وعرب 48../ ورد كاسوحة*

قضية فداء الشاعر: جدلية الجولان المحتلّ وعرب 48../ ورد كاسوحة*
ليس مطلوباً أن تكون حالتا فداء الشاعر وحنين زعبي متموضعتين في الخانة ذاتها إزاء ما يفترض أنه عدوّهما المشترك. وهما ليستا كذلك على أية حال. لكن السياق التاريخي الذي أفضى بهما إلى هذا النسق من الاختلاف أمر، وتدخّل إسرائيل السافر لتغيير وجهة السياق ذاك، أمر آخر تماماً.

في هذه الحال لا يعود «الاختلاف» بين أهالي الجولان المحتل ونظرائهم في أراضي 48 ملتبساً فحسب، بل يغدو الالتباس في حدّ ذاته ذريعة ممكنة لتصحيح الوقائع التي فرضتها علينا إسرائيل بقوة السلاح والدعم «الدولي».

وحتى لا نذهب في سياق هذا التصحيح إلى تعميمات لا تفيدنا في شيء، دعونا نعد إلى مثالي فداء الشاعر وحنين زعبي بوصفهما صورة واقعية عن الفصل الذي تحاول إسرائيل إقامته بين توأم الاستيطان الكولونيالي في الجولان وأراضي 48. ففداء الشاعر مواطن سوري من الجولان المحتل مارست عليه إسرائيل عنفاً أمنياً، هو في عرفها ضروري حتى لا تخرج حالة فداء عن «حيزها الموضعي»، وتعيد وصل ما انقطع من مقاومة جولانية «منظمة» للعنف الكولونيالي الصهيوني (أحداث مجدل شمس في أوائل ثمانينيات القرن الماضي). ذلك أن إسرائيل تفضّل عزل ما يحدث في الجولان المحتل عن تراكمات مماثلة تحصل في أراضي 48. تراكمات لاح شبح عودتها مجددا بعد انفجار قضية فداء وصيرورتها مع الوقت مشكلة حقيقية لإسرائيل.

فعودة الحراك الجولاني، وان عبر اشتباك موضعي مع الاحتلال، تعني أن كل ما فعلته إسرائيل في الحقبة الماضية لتدجين الحالة الجولانية قد ذهب أدراج الرياح. طبعا المبالغة في إلحاق واقعة مجدل شمس بسردية المقاومة في المنطقة لن تؤتي أكلها، ما لم توضع الواقعة في سياقها المنطقي. فالاشتباك الذي وقع على مقربة من بيت فداء الشاعر بين جنود الاحتلال وأهالي مجدل شمس يشبه كثيرا ما يحدث اليوم في القدس المحتلة والضفة الغربية، وما كان يحدث بالأمس في جنوب لبنان (قبل التحرير). إذاً هي حالة لا ينفصل فيها الخاصّ عن العام.

هنا لا بدّ من التفصيل أكثر حتى نفهم تماما جدلية العلاقة بين الاثنين: فعمومية الحالة متأتية عن اندراجها في سياق مواجهة إسرائيل. أما خصوصيتها، فولدت نتيجة التماسّ المباشر مع تجارب النضال تحت الاحتلال في جنوب لبنان (سابقا) وأراضي 48. ولهذه الأخيرة قدر من «الفرادة» يجدر بأي متابع لتجارب مماثلة أن يتوقف عنده. ومن جملة ما يمكن الوقوف عنده كمّ التنظير الذي أتيح لهذه التجربة أن تنطوي عليه. والفضل في ذلك يعود إلى مجموعة من النشطاء والمناضلين والكتاب الذين أثروا الفضاء العربي بمساهمات نضالية وسجالية ونقدية تراكمية. والى هؤلاء تحديدا تنتمي الناشطة والكاتبة والمناضلة حنين زعبي. أولا بوصفها عنصرا فاعلا في هذا التراكم، وثانيا بوصفها عضوا في الحزب (حزب «التجمع الوطني الديموقراطي») الذي أسّسه عزمي بشارة لهذه الغاية، أي لجعل التراكم ذاك فعلا منتجا وذا جدوى نضالية.

والنضال «هنا» في الداخل يكتسب معنى مغايرا لنضالات من هم خارج فلسطين المحتلة. فهو فاعل بقدر ما يجرّد الاحتلال من أدوات سيطرته على السكان الأصليين. وهذا يعني أن فعاليته تزداد كلّما ازدادت موضعيته، وكلّما أظهر الاحتلال «استعداداً» للتراجع عن مواقع خسرها بفعل نجاعة المقاومة اليومية. هذه باختصار هي فلسفة عزمي بشارة ورفاقه. فلسفة تكاد تنقض كل المغالطات التاريخية التي سيقت بحقّ العرب الفلسطينيين في أراضي 48، وبحقّ نضالهم اليومي في مواجهة الهمجية الاسرائيلية. وحين يصل المرء إلى قناعة كهذه لا يعود بحاجة إلى تفحّص جنسيات أولئك المناضلين، ولا إلى تعييرهم «بإسرائيليتهم» كما تفعل الآن بعض الأبواق النيوليبرالية المستاءة من اصطفاف هؤلاء إلى جانب مناوئي إسرائيل في المنطقة (وقد ووجهت حنين زعبي بترّهات مماثلة بعد عودتها من رحلة أسطول الحرية). كان يجدر بالأبواق «الليبرالية» التي تعيّر عزمي بشارة بما ليس فيه، وتسمه مرّة «بالنائب الإسرائيلي» ومرّة أخرى «بالهارب من المواجهة» أن تدقّق جيدا في «المصادفات» التي تجعل من صحافتهم ملاذا لكلّ من يريد تتفيه فكرة التحالف بين إسرائيل والديكتاتوريات العربية (النفطية وغير النفطية). فمن ينظّر لتحالف كهذا حتى من دون أن يدري، يفقد تلقائيا القدرة على إقناع القارئ «بإسرائيلية» هذا و«صهيونية» ذاك. والاثنتان تنتميان الى نسق فرض بقوة السلاح على أهلنا في أراضي الـ48. ولولا تقاعس الأنظمة العربية وتواطؤها مع إسرائيل لأمكن تفكيك هذه الثنائية وإعادة هؤلاء الناس إلى حيث يجب أن يكونوا. لكنهم مع ذلك لم يستسلموا. فلا إسرائيل أمكنها احتواؤهم وضمّهم إلى سرديتها عن الصراع، ولا السلالات العربية الحاكمة استطاعت تطويعهم كما فعلت مع كثير من الفصائل الفلسطينية.

وحدها العروبة المفارقة للنظام «العربي» استطاعت أن تقدم لهم احتمالا ممكنا للعيش والبقاء في الأرض. واللافت أن التنظير لهذا النّسق المتقدم من العروبة لاقى قبولا معقولا لدى بيئات شقيقة لم تكن تشاطر عرب 48 احتياجاتهم وهواجسهم. وكعادتها دوما تسقط الأحكام المسبقة أمام اختباري الزمن والواقع. سقوط أتاح لكثيرين منّا أن يبدوا إعجابا معينا بعروبة ديموقراطية لم نكن نعتقد أنها قد وصلت إلى «قلب إسرائيل» (اقرأ: فلسطين المحتلة)! عروبة أقنعنا عزمي بشارة ورفاقه مراراً بأنها كفيلة إذا ما أتيحت لها شروط النضوج بتفكيك ثنائية المواطنة المصطنعة التي يحملونها: فلسطيني ـ إسرائيلي.

والى أن يحصل ذلك ويتحقّق حلم الدولة الواحدة بجناحيها الفلسطيني واليهودي (بعد تفكيك صهيونيته) لا بد من الاعتراف لأهلنا في أراضي 48 بأنهم أنجزوا ما لم يستطع غير الخاضعين للاحتلال إنجازه. وهو إنجاز لم تفلح إسرائيل رغم محاولاتها المتكرّرة في إبقائه عند حدود معينة. وهذا ما يفسّر دأب هؤلاء المتواصل على توسيع حدود إنجازهم ذاك. ونقض أسطورة «الديموقراطية الصهيونية» هو جزء مكوّن في هذا التوسيع.

وقد أفضى نقضهم هذا إلى بناء أطروحة متماسكة تقول بوجوب أن تكون «دولة إسرائيل» دولة لجميع مواطنيها، لا دولة اليهود فحسب. قد لا يبدو هذا المكسب مهمّاً لمن ينظر إلى القضية الفلسطينية بوصفها قيمة متعالية ومجرّدة تماما، لكنه بالنسبة لمن يعيش المعاناة من الداخل ويعرف جيدا ما معنى فرض وقائع يومية (حقوقية وقانونية) على إسرائيل، أمر يدخل في باب «الفرادة» ذاتها. «فرادة» جعلتهم ينجحون حيث «لم يستطع» آخرون. آخرون قد يكون أهلنا في الجولان المحتل من بينهم.

وظاهرة «عجز» الجولانيين عن «اللحاق بنموذج الـ48» لا يمكن عزوها فقط إلى انقطاعهم عن المدى السوري الأوسع، وافتقادهم حاضنة دولتية تتيح لهم إمكانية النضال اليومي. فهذان الشرطان توافرا في مرحلة من المراحل، لكن صلاحيتهما انتهت بمجرد وصول النضال الجولاني الموضعي إلى «خواتيمه»: رفض الجنسية الإسرائيلية والتمسك بالهوية العربية السورية. والمشكلة أن نبل هذه الغاية حال دون إكمال عملية تسييس المقاومة الجولانية للاحتلال.

والتسييس هنا يعني إيلاء الأهمية القصوى لفعل الصيرورة، من حيث كونه فعلاً تاريخياً يطوّر التجربة وينأى بها عن انقطاعات محتملة. عند هذه النقطة افترقت التجربة قليلاً بين المنطقتين الخاضعتين للاحتلال. فالفراغ الذي تركه كمون النضال الجولاني منذ الثمانينيات (لأسباب قاهرة ومتصلة بالعسف الاسرائيلي) ملأته التجربة السياسية الرائدة في أراضي 48. وعودته اليوم مشروطة بإعادة التشبيك مع المفهوم اليومي للنضال. ذلك أن الظروف الأمنية القاهرة التي يعيش في ظلها الجولانيون لا تتيح لهم امكانية تطوير تجارب قتالية منظّمة على غرار ما فعل حزب الله وقبله الحزبان الشيوعي والقومي السوري (وكذا البعث) في جنوب لبنان.

لذا فإن المتاح أمام أهلنا في الجولان الآن هو النموذج الذي قدمه عرب 48، أي نموذج النضال التراكمي اليومي. وتشاء الصدف أن يكون الاختبار الجديد لهذا النموذج مشتركاً بين المنطقتين. فالتهم التي ألصقتها إسرائيل بفداء الشاعر ابن الجولان المحتل قبل أسابيع كانت قد سبقتها تهم مماثلة بحقّ مواطنين من عرب 48: الأول هو أمير مخّول الناشط في «المجتمع المدني» والمدير العام لاتحاد الجمعيات الأهلية (اتجاه)، والثاني هو عمر سعيد العضو في حزب «التجمع الوطني الديموقراطي»!

طبعاً ليست الصدفة وحدها ما جعلت عمر سعيد الموسوم إسرائيلياً «بالعمالة» ناشطاً في حزب أسّسه عزمي بشارة، وجعل من تواصل قاعدته مع لبنان وسوريا أولوية نضالية وإنسانية. فأمير مخّول بدوره (وهو ناشط في «المجتمع المدني») لم يكن بعيداً عن هذا النّسق من التواصل. لكن مهلاً. هناك المزيد من التفاصيل ومن الصدف التي ستتيح لنا رؤية الصورة كاملة، فدعونا ندقّق فيها. والتدقيق يبدأ وينتهي بالتهم التي ألصقت بالمواطنين الثلاثة: الاتصال بعميل أجنبي، والتخابر لمصلحة حزب الله! الحزب ذاته الذي اتهم عزمي بشارة بالاتصال به أثناء حرب إسرائيل الهمجية على لبنان.

يتّضح من ذلك أن إسرائيل باتت أسيرة حلقة مقفلة. فعندما تواجه نشاطاً يحدّ من قدرتها على السيطرة على ما تعتبره «مستعمراتها المأهولة» تعاجل إلى تنميط هذا النشاط وإلحاقه «جرمياً» بما تسميه «قضية عزمي بشارة». وهذه بدورها تقودنا إلى اتهامات نمطية من العيار ذاته: «التخابر لمصلحة حزب الله»... وهكذا دواليك. يبدو أن قدرة إسرائيل الردعية ليست وحدها التي أصيبت بالعطب، فخيال هذا الكيان أصيب بدوره، وبات عاجزاً عن تصدير استراتيجياته الأمنية إلى العالم.

بهذا المعنى بات التصويب على حزب الله وعزمي بشارة معاً دليلاً على ضيق إسرائيل المتنامي بجناحي المقاومة اللذين أوقعا بها أفدح الخسائر: المدني والعسكري. والتحاق فداء الشاعر على طريقته بأحد هذين الجناحين (المدني طبعاً) دليل على عافية أهلنا في الجولان واستعدادهم لاستكمال ما انقطع من مسيرة النضال تحت الاحتلال.
"الأخبار"

التعليقات