13/09/2010 - 10:55

التنازلات المتمادية قدر تاريخي أم أحوال قاهرة؟../ صقر أبو فخر

التنازلات المتمادية قدر تاريخي أم أحوال قاهرة؟../ صقر أبو فخر
لم أقفز عن الكرسي جــذلاً، ولم أرم قبعتي في الهواء فرحاً بقرار الرئيس محمود عــباس الالتــحاق بالمفاوضات المباشرة مع إسرائيل. لكنني، في الوقت نفسه، لن أنضمّ إلى جوقة الذين اعــتادوا رفـض أي شأن حتى لو كان إيجابياً، أو الذين أدمنوا الاستكانة والسلبية وعدم المبادرة إلى أي جـهد فعّال ما عدا استسهال الخطب المشيخية والبيانات الساذجة عن الحقوق والثوابت والنضال، والتي لا تقول شيئاً في نهاية المطاف.

إن منظمة التحرير الفلســطينية تــذهب، هذه المرة، إلى المفاوـضات وهي مجـرورة من أذنها، والتهديد الأميركي فوق رقبتها. وها هي الــدول العـربية المؤثرة تدير ظهرها للفلسطينيين، وتستقبل الإسرائيليين بوجه بسّام وثغر ضاحك؛ فقد صار لكل دولة «فلسطينها». و«فلسطين الجديدة» هي إما «الجزر العربية الثلاث» في الخليج العربي، أو «الخطر الإيراني» أو «القاعدة» أو «الحوثيون».

هذه الصورة البائسة لا تمنح، ويجب ألا تمنح المفاوض الفلسطيني أي ذريعة أو حجة في ما لو أقدم على التنازل عن المطالب الوطنية المعروفة. فالتفاوض الآن، استناداً إلى موازين القوى السيئة جداً، يجب ان يتحول إلى مجرد إجراءات ومباحثات: إما أن يفشل، فيعود الأمر إلى ما كان عليه سابقاً، أو ان يرسم «خريطة طريق جديدة» للتسوية، وهذه النتيجة تكاد أن تكون من المحال. وفي جميع الأحوال سيكون من الضروري جداً الاستعداد، منذ اليوم، للاجابة عن السؤال التالي: إذا لم تسفر هذه المفاوضات عن أي نتيجة كما هو متوقع، فما العمل في اليوم التالي؟

لعل العودة إلى مسيرة التفاوض الفلسطيني ـ الإسرائيلي تزودنا ببعض علامات الطريق ذات الدلالات السياسية.

منذ نحو سبعة عشر عاماً، أي منذ توقيع اتفاق أوسلو في 13/9/1993، لم تتمكن المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية من ان تغلق ملفاً واحداً من الملفات الشائكة الكثيرة كالقدس واللاجئين والحدود والمياه والأمن والسيادة. ومنذ سبعة عشر عاماً والولايات المتحدة الأميركية وأوروبا والاتحاد الروسي والأمم المتحدة، والعرب معهم، يحاولون، كل بطريقته، ان يدفعوا المفاوضات إلى نهاياتها. غير انهم، جميعاً، عجزوا عن ثني إسرائيل عن التهام الأرض الفلسطينية. ومع ذلك فإن المفاوض الفلسطيني الذي يعود إلى المفاوضات المباشرة الآن، يعرف أن هذه المفاوضات لن تؤدي إلى أي نتيجة حاسمة.

يكاد يجمع معظم العارفين ببواطن الأمور على أن لا تسوية ممكنة في المنطقة قبل انقشاع الرؤية في العراق وفي أفغانستان، وقبل حلّ معــضلة المشروع النووي الإيراني، أي أن التسوية، باختصار، ما زالت بعيدة المنال.

وفي خضم هذه الحال، فإن المفاوض الفلسطيني بات بلا أوراق قوية ما عدا ورقة القضية الفلسطينية نفسها، وهي ورقة قوية جداً في حسابات السياسة الواقعية والمستقبلية معاً. ومع ذلك، فإن هذا المفاوض مرغم على تقليص شروطه وتوقعاته، لأن النظام الرسمي العربي بات هلامياً، ومن غير هيكل عظمي، وهو عاجز عن شد أزر الفلسطينيين وعن مساعدتهم في هذا المنعطف الخطير.

والرئيس محمود عباس نفسه الذي كان التزم شروطاً محددة للعودة إلى التفاوض المباشر (تجميد الاستيطان، وتحقيق تقدم في مسألتي الحدود والأمن، وتحديد مرجعية المفاوضات بالاتفاق سلفاً على أن هدفها هو الوصول إلى دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967) ها هو يعود إلى المفاوضات من دون أن يحصل على أي تقدم في تلك الموضوعات.

إن سلسلة خفض الأهداف الفلسطينية معروفة. وهي قديمة، وربما كانت قانوناً في تاريخ الحركة الوطنية المعاصرة. فالمقاومة الفلسطينية حين انطلقت في 1/1/1965، وكانت عبارة عن مجموعات مقاتلة ضعيفة التدريب والتسليح، وضعت لنفـسها هدفــاً وحـيداً وكبيراً هو تحرير فلسطين كلها من البحــر إلى النهر، علاوة على إعادة اللاجئين إلى ديارهم الأصلية.

وحين قويت شوكتها بعد هزيمة الخامس من حزيران 1967، ثم بعد معركة الكرامة في 21/3/1968، بدأت أهدافها تنحسر، تدريجاً، وراحت أفكار أقامة الدولة الفلسطينية على جزء من الأرض الفلسطينــية تطل برأســها أو تتوارد في رؤوس القادة الكبار. وكان أشهر تلك الأفكار ما حمله معه روجر فيشر في سنة 1970 عندما جــاء إلى عمان ليعرض على المقاومة إنـشاء دولة على الــضفة والقطاع، لكن معظم الفلــسطينيين رفـضوا العرض آنذاك. وكان لا بد من حدث كبير لإخراج الفـكرة من الرؤوس إلى التطبـيق.

وجاءت حــرب تشرين الأول 1973 لتجعل فكرة الدولة المســتقلة على الـضفة والقطاع ممكنة. وقد وقع هذا التراجع بعدما صارت منظمة التحرير الفلسطينية لاعباً أساسياً في العالم العربي، ولا سيما في لبنان، وتمكّنت من انتزاع مكانتها كممثل شرعي للشعب الفلسطيني في قمة الرباط في سنة 1974 بعد أن فشلت تصفيتها في لبنان في أيار 1973.

وكان من عقابيل ذلك أن ياسر عرفات تمكن من اختراق الحرم الأميركي، وألقى خطابه المشهور في الأمم المتحدة في ذلك العام. وما إن اندلعت الانتفاضة الأولى حتى استعادت منظمة التحرير مكانتها الدولية والعربية التي فقدت جزءاً منها بعد الخروج من لبنان في سنة 1982، وتمكنت من حجز مقعد خلفي لها في مؤتمر مدريد. لكنها في اتفاق أوسلو قبلت ما يشبه الحكم الذاتي، وهو أدنى مما كان مقبولاً في سنة 1974، أي برنامج النقاط العشر. وهكذا كان سُلّم الأهداف الفلسطينية يتجه نزولاً كلما قويت شوكة منظمة التحرير التي انتقلت من برنامج التحرير الكامل إلى برنامج الدولة على الضفة والقطاع، ثم إلى خطة الحكم الذاتي.

لماذا كانت الأمور تجري على هذا النحو؟ لعل الاصطدام بالواقع، وعدم القدرة على تغيير الواقع كان لهما الشأن الكبير في هذه التنازلات. وينطبق الأمر نفسه على أي حركة سياسية أخرى كحركة حماس مثلاً. فحماس كانت حتى سنة 2000 تطالب بفلسطين كلها من النهر إلى البحر باعتبارها وقفاً إسلامياً. وفي سنة 2002 صارت تقبل حدود 1967 لقاء هدنة طويلة، بشرط عدم الاعتراف بإسرائيل. وفي سنة 2004، بعد فشل استراتيجية العمليات الاستشهادية في إرغام إسرائيل على الانسحاب من الضفة الغربية، بدأت تعرض وقف النار لقاء الإفراج عن الأسرى. وفي سنة 2005 صارت تطالب بالعودة إلى 28/9/2000، أي إلى ما قبل اندلاع الانتفاضة الثانية لقاء وقف النار. وفي سنة 2008 بات مطلبها الرئيس وقف النار لقاء وقف النار، أو ما عُرف بـ«التهدئة العسكرية».

إنه، كما يبدو، مع الأسف، قانون تناقص الغلة الفلسطينية في علم الاقتصاد. وعلى هذا المنوال نستطيع القول إن اتفاق أوسلو في سنة 1993 جاء أدنى من إعلان الاستقلال في سنة 1988. وإعلان الاستقلال كان أدنى من برنامج النقاط العشر في سنة 1974. وبرنامج النقاط العشر أدنى من الميثاق الوطني في سنة 1968. وإذا اتجهنا صعوداً، فإن وثيقة طابا في سنة 2000 أدنى من اتفاق أوسلو. وخريطة الطريق في سنة 2003 التي صيغت في معمعان الانتفاضة الثانية وعلى وقع العمليات الاستشهادية والاقتحامات الإسرائيلية معاً، كانت أدنى من وثيقة طابا. والآن، فإن ما يُفرض على المفاوض الفلسطيني من تنازلات تجعل اتفاق أوسلو، أو حتى خريطة الطريق، هدفاً بات نيله يقارب المحال، ولا حتى في الخيال.

لقد جرى التنـازل الــجزئي عن حق العــودة في خريطة الطريق لقاء تنازل الإسـرائيليين عن الاستيطان كله في الضفة الغربية. والمعادلة هـنا متـنافرة المصراعين، أي صفرية تماماً. واليوم، بعد وعود جورج بوش الكاذبة، ووعود باراك أوباما الوهــمية، ثمة كلام على التنازل عن بعض أجزاء من الضــفة الغـربية لقاء ما يعادلها مساحة ونوعية في أطراف غزة (رمال حالوتسا)، وعلى تضمين اتفاقية الإطار ترحيل قضية اللاجئين إلى أجل غير معلوم. لكن القدس تبقى عقدة المشكلات كلها.

من المنصف القول إذاً إن أبو مازن الذي يبدو كأنه قدّم تنازلات كثيرة في التكتيك وفي اللغة السياسية، لم يتنازل في القضايا الجوهرية، أي في الاستراتيجية. ولماذا يتنازل الآن قبل أن يعرف الثمن المعروض عليه؟ ثم مَن يجرؤ على التنازل عن القدس وعن حق العودة؟ حتى ياسر عرفات قال للرئيس كلينتون في قمة كامب دايفيد الثانية حينما دعاه إلى قبول حل وسط في القدس وتناسي عودة اللاجئين: «إنني أدعــوك إلى جنازتي إذاً». وأبو مازن ما زال يرفض الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية ويرفض القبول بدولة فلسطينية موقتة. أما «التنازلات» فقد حدثت منذ زمن بعيد، وقبل أن يكون أبو مازن رئيساً للسلطة الفلسطينية؛ فقد وقع التنازل الأول حينما قبل المفاوض الفلسطيني بعملية تبادل الأراضي (المستوطنات في مقابل الرمال)، وحدث التنازل الثاني حين قال إن القدس الغربية عاصمة لإسرائيل على أن تكون القدس الشرقية عاصمة لفلسطين. أما التنازل الثالث فطــاول القرار 194، فما عاد مطلوباً تطبيق هذا القرار الدولي بحذافيره، بل «إيجاد حل عادل لقضيـة اللاجـئين على أساس القرار 194»، وهو نوع من الاحتيال الإنشائي.
عصارة القول في ذلك كله إن إي تسوية لقضية فلسطين اليوم لن تكون إلا تسوية مؤقتة.

منــذ الآن يجــب أن يكون لدينا الجواب عما سنفعله في اليوم التـالي إذا لم تسفر هذه المفاوضات عن أي نتيجة، وهي لن تسفر عن أي نتيجة في نهاية المطاف.
"السفير"

التعليقات