24/09/2010 - 10:49

عقد على أكتوبر 2000../ د.أمنون راز كركوتسكين*

-

عقد على أكتوبر 2000../ د.أمنون راز كركوتسكين*

لا أحد في إسرائيل، تقريبا، لا يهاجم إيهود براك هذه الأيام، أما الأسباب فلا أهميّة لها. لكن من الممكن أن نفرح. لا يوجد شخص يتحمل المسؤولية أكثر من براك عن سفك الدماء والدمار الذي حلّ على الشعبين في العقد الأخير. لا يوجد شخص يعبّر بعنجهيته أكثر منه عن الغطرسة والوطنية الإسرائيلية المعادية للعرب. هذا الرجل يجب أن يكون مكانه في المحكمة في هاغ.


لكن من المؤسف أن منتقديه من "اليسار" في إسرائيل لم يهاجموه عندما كان يجب في العام 2000، بل كان هنالك من انتقد سلوكه الشخصي، لكنهم أبدوا مساندتهم لسياسته المغامرة، ووفروا الغطاء للقمع الذي مورس ضد الانتفاضة سواء في الأراضي المحتلة عام 1967 أو ضد المواطنين العرب في الداخل. وطالما لم يجر اليسار الإسرائيلي حسابه مع نفسه على ما جرى حينها، فإنّ مهاجمة براك لا قيمة لها.

إن أكتوبر من العام 2000، وبدون شك، هو علامة فارقة مهمة في تاريخ هذه البلاد، لدرجة أنه يمكن القول إن الأمور كانت متوقّعة: حاول كثيرون منا أن يحذّروا من المخاطر الكامنة في اتفاقية أوسلو، ومن مفهوم "معسكر السلام" الإسرائيلي بأن الاتفاقيات تعكس "نهاية النزاع". فقد كان واضحا قبل ذلك أن ما يسمى بـ"عملية السلام" تؤدي إلى تعميق الاحتلال. لكن كان هنالك أمل لتغيير جدّي. غير أن العنف الإسرائيلي غير المسبوق في العام 2000 دمّر هذه الأوهام وقضى على إمكانية الحوار، حيث أنه فضح تماما مفهوم السلام الإسرائيلي الذي يتضمن في جوهره التخلّص من العرب. وقد أدّت نبوءة الفصل العنصري إلى الكراهية وإلى التدهور إلى الواقع الذي نعيشه اليوم.

كان العام 2000 يعني الكثير بوجه خاص، خاصة لأن الأحداث التي وقعت تتحمل مسؤوليتها الحكومة الأكثر "يسارية" منذ قيام دولة إسرائيل. هذه الحكومة "اليسارية" هي من بدأ التحريض ضد القيادة الفلسطينية، وبعدها ضد القيادة الفلسطينية في داخل إسرائيل. و"الحكومة اليسارية" هي من استعمل وسائل وأدوات القمع غير المسبوق ضد الإنتفاضة، من خلال إطلاق النار العشوائي على المواطنين، حتى من المروحيات، إضافة إلى الاغتيالات. حكومة "اليسار" هي المسؤولة عن قتل مواطنين فلسطينيين. فقد كان زعماء "اليسار" شركاء في ذلك. لم يكن حزب "ميرتس" في تلك المرحلة في الائتلاف الحكومي، ولكنه أيد من الخارج. لم تخرج "ميرتس" من الحكومة بسبب قتل مواطنين متظاهرين، ولا من أجل عملية السلام، بل كانت منشغلة بالنزاع مع شاس.

هذه هي ماهية المأساة. فعنصرية ليبرمان لم تنم ضد اليسار الإسرائيلي: فهي استمرار مباشر لها، فليبرمان لم يطلق النار على المواطنين إنما حكومة "اليسار". كان شلومو بن عامي وزير الشرطة والخارجية، وكان يوسي بيلين وزير القضاء، وبحكم هذا فإنه المسؤول عن قسم التحقيق مع الشرطة. لقد وفروا الغطاء للعنف غير المسبوق بما فيه قتل المتظاهرين. حتى أن أحدا منهم لم يناد بالتحقيق في ممارسات الشرطة. من يصف ليبرمان بالعنصرية (وهو محقّ في ذلك) عليه أن يتذكر من المسؤول عن هذه السياسة، حتى لا نقع ثانية بأوهام عبثية. هنالك بعض من هؤلاء الأشخاص تراجعوا فيما بعد، لكن ذلك كان متأخّرا. أما حساب النفس فإنهم لم يجروه حتى الآن.

يجب أن نتذكر أن تحريض حكومة براك – بن عامي – لم يبدأ مع تفجّر الانتفاضة، إنما قبل ذلك ببضعة شهور في أعقاب فشل كامب ديفيد، وامتناع ياسر عرفات من التوقيع على الإملاءات الإسرائيلية. وأدى هذا الرفض إلى حملة تحريض عرض فيها "معسكر السلام" المعارضة الفلسطينية كأنها معارضة لأية تسوية، وبدأوا في حملة تخويف بأن الفلسطينيين لا يريدون اتفاقية الدولتين. وكل هذا قبل أن يرمي أحد حجرا.

في أكتوبر العام 2000 أعلنت حكومة "اليسار" الحرب الشاملة على الشعب الفلسطيني – في المناطق المحتلة عام 67، وداخل الخط الأخضر. وقد محت حكومة باراك هذا الخط (الأخضر) وأكدت أن النزاع هو قومي. وأوضحت أن مفهوم السلام الإسرائيلي ليس مفهوم التعايش القائم على المساواة وعلى الاعتراف بحقوق الفلسطينيين وإنما العكس، فهو قائم على الرغبة بالفصل وعلى رفض قاطع لحقوق الشعب الفلسطيني. إن من خلق موجة القومية الفاشية التي نعيشها اليوم هو "اليسار الإسرائيلي". وهذا سبب اضمحلاله: بعد أن استعجل تفاقم العنصرية ، وبعد أن منح الشرعية لكل عملية عسكرية، وبعد أن حرّض ضدّ المواطنين العرب، لم يعد هناك أي حاجة لهذا "اليسار"، فمنذها لم يعد بالإمكان وقف التدهور.

كان هنالك عضو كنيست واحد (ما عدا اليمينيين بالطبع) لم يصوّت لصالح إعلان براك والمحادثات في كامب ديفيد: عزمي بشارة. ما زال هنالك من يذكر صور حاييم رامون يركض إليه محاولا أن يرفع له يده. لكن بشارة رفض. وحاول أن يحذّر من مغامرة براك وتوجّهه المتعالي ونيته فرض تسوية. لكنه كان الوحيد في الكنيست في ذلك الوقت. بل اعتبروه خطيرا، لكونه، وخلافا للآخرين، رفض قبول إملاءات "اليسار الإسرائيلي". فيما فضّل الآخرون الوهم، وأيّدوا رئيس الحكومة بحرارة رغم أنه لم يخف نواياه، ولمّا استفاقوا كان الوقت متأخّرا.

ليس لدي أي شك في أن براك خطّط لإيصال الأمور إلى حد الانفجار. من الصعب علي أن أصدّق أن أحدا في الزعامة الإسرائيلية اعتقد حقا أن عرفات سيضطر إلى التوقيع على الاقتراح الذي عرض عليه. والأرجح أن براك أدرك أن هذا سيؤدي إلى الانفجار، وهذا ما ابتغاه.

من الممكن ألقول إن الانفجار في العام 2000 كان حتميا لا يمكن تجنبه، حيث أنه فضح الوعي الإسرائيلي الكاذب. فقد أكدت الأحداث أنّه ليس بالإمكان الفصل بين النضال ضد الاحتلال وبين حقوق الفلسطينيين في الداخل. لقد أعلنت إسرائيل في العام 2000 الحرب على الشعب الفلسطيني، وأوضحت أنه من جهة الأغلبية اليهودية لا فرق بين فلسطينيين مواطنين وبين من ليسوا كذلك. وأكدت الأحداث أنه لا يمكن قبول العام 1967 كنقطة انطلاق، إنما تجب العودة إلى جذور الصراع في العام 1948. وأكدت أيضا على المخاطر الكبيرة التي تواجه ما كان يعرّف كحلول "براغماتية" التي لا يعقبها شيء سوى المحاولة الإسرائيلية للمحافظة على التفوّق المطلق.

تعاني إسرائيل ذاتها من أزمة عميقة، كما أن المجتمع الإسرائيلي يعاني حالة انفصام: حياة بذخ في تل أبيب "اللبرالية" تتواصل بدون توقف، وفي القوت نفسه يدمر الجيش الإسرائيلي لبنان وغزة أيضا، وكذلك عندما تصعّد قوات الأمن من ملاحقة المواطنين العرب. غير أن هذا العنف إنما يزيد من مشاعر الخوف لدى الإسرائيليين. والخوف كان دائما أساس الوجود الإسرائيلي، لكنه تعمّق بالتأكيد في السنين الأخيرة. وحاليا، تؤدي الأزمة الإسرائيلية إلى تفاقم وتصاعد التطرف وإلى شرعنة الهمجية.

من الممكن أن ينمو وعي آخر جديد من خلال هذه الأزمة. إعتراف بأنه لا يمكن في الحقيقة الفصل بين السؤالين، وأن الاعتراف بالوجود اليهودي مشروط باعتراف إسرائيلي بالحقوق القومية للشعب الفلسطيني. وكشرط لذلك يجب التوقف عند ماهية العام 2000 – ليس من أجل العودة إلى ما كان سابقا، إنما لكي نتقدم إلى وضع ديمقراطي جديد. وبدون الاعتراف المبدئي بالحقوق القومية، سيظل الفلسطينيون معرّضين إلى خطر دائم. وقد أثبت العام 2000 أنه في حالة الأزمة يقف المواطنون العرب وحيدين.

لا يعني هذا بالضرورة تأييدا لـ"الدولتين" أو "الدولة الواحدة". ولكن هنالك حاجة لتأييد نضال واحد، حيث أنه لا يمكن محاربة الصهيونية على أساس الفصل الذي تفرضه – الفصل بين اليهود والعرب، والفصل بين الأجزاء المختلفة للشعب الفلسطيني.

التعليقات