09/10/2010 - 07:43

وقفة بين الماضي والحاضر../ عوني فرسخ

-

وقفة بين الماضي والحاضر../ عوني فرسخ

 

منذ صدور صك انتداب بريطانيا على فلسطين سنة 1922، متضمناً وعد بلفور بإقامة “الوطن القومي اليهودي” فيها، وجد بين النخب العربية، دعاة تقبل الواقع المستجد. وذلك برغم كون القرار الدولي مناقضاً لحق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير المصير، بحجة أن الممانعة والمقاومة في مواجهة القوى الدولية راعية مشروع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، مغامرة غير محسوبة، وتصرف انفعالي، مضرين بالتوجه العقلاني لصناع القرار الدولي وتبصيرهم بمراعاة مصالحهم غير المحدودة في الوطن العربي. ولما يزل لدعاة هكذا “واقعية” وجودهم المؤثر في صناعة القرارات العربية ذات الصلة بالصراع العربي الصهيوني . ما يستدعي الوقوف مع مقولاتهم التي يغلب عليها جهل ثلاثي الأبعاد: جهل بدلالة الواقعية بالمفهوم الانساني، وجهل بحقائق الصراع العربي الصهيوني، وجهل بمعطيات الواقع.

فالواقعية بمفهومها الانساني ما كانت بالخضوع القدري لأحكام الأمر الواقع، والتسليم بالعجز عن امكانية تجاوزه. فالبشر منذ وجدوا على الأرض تميزوا عن الحيوانات بالنظر بعمق في واقعهم لتحديد ما يحتويه من نقاط قوة وضعف، وإعمال إرادتهم الفاعلة وعقلهم المبدع في تعظيم مصادر القوة، ومعالجة عوامل القصور، وبهذا تحقق التطور الذي أوصل الانسان لارتياد الفضاء. وعلى مدى التاريخ الانساني كان التقدم والنجاح رهناً بكفاءة توظيف الامكانات المادية المتوفرة، والقدرات البشرية المتاحة، في الاستجابة للتحديات. ثم إن الواقعية الحقة تتعاطى مع الواقع بعمق وشمول، بما يكفل الاحاطة بأكبر قدر مستطاع من ظواهره، وتقصي مسبباتها، خاصة الظواهر السلبية.

ولا خلاف أن يهود أوروبا وأمريكا حققوا، تقدماً طردياً في مكانتهم على مختلف الصعد، بحيث غدوا مؤثرين في مجتمعاتهم. ولا ينكر أنه تنامى في أوساط نخبهم الإدراك بأن تعزيز قدرات الكيان الصهيوني يرتد عليهم بتعظيم منزلتهم في مجتمعاتهم. غير أن هذه الحقيقة وتلك لا تعني أنهم باتوا الأشد تأثيراً في السياسات الخارجية الأوروبية والأمريكية. وليس من الواقعية في شيء الظن بأن دولة عظمى، كبريطانيا غداة إصدارها وعد بلفور، أو الولايات المتحدة عندما فرضت إقرار الأمم المتحدة قرار التقسيم، فعلت ذلك بتأثير فعالية اليهود، التي لا تنكر، عند صناع قرارها، وليس استناداً لقرار استراتيجي يرى في الوجود الصهيوني في قلب الوطن العربي، وفي جوار مصر صاحبة الدور القومي التاريخي، الأداة الأمثل لتأصيل استغلاله موقعاً وموارد وأسواقاً وقدرات بشرية، بما يخدم المصالح الكونية للقوى الأشد تأثيراً في صناعة القرارات الأوروبية والأمريكية.

كما أنها غير واقعية المراهنة على مواقف متوازنة أو غير منحازة، مرتجاة من الادارة الأمريكية والحكومات الأوروبية، ما دام النظام الاقليمي العربي فاقداً الفعالية والتأثير، لتناقض مثل هذه المراهنة مع حقائق الصراع العربي الصهيوني . فالوجود الصهيوني على التراب العربي في فلسطين إنما هو صناعة بريطانية خالصة، بدءاً من وعد بلفور، وانتهاء بحيازة الحركة الصهيونية عشية انتهاء الانتداب كل مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها جيش جيد التدريب والتسليح تجاوز منتسبوه الستين ألف شاب وفتاة، ما لم يكن متوفراً مثله، عدداً وعتاداً، لأي من أعضاء جامعة الدول العربية يومذاك. ثم إنه لولا مداخلات وضغوط، وتهديدات، ادارة الرئيس ترومان، لما حظي قرار التقسيم بأغلبية ثلثي أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة اللازمة لاقراره. ما يعني أن الادارة الأمريكية هي المنشىء الحقيقي للكيان الصهيوني. فضلاً عن أن اعتراف ترومان بدولة “إسرائيل” بعد إحدى عشرة دقيقة من اعلانها في 15 مايو/ أيار ،1948 متجاهلاً تجاوز القوات الصهيونية حدود التقسيم، واقترافها جرائم التطهير العرقي بالتسفير القسري “الترانسفير” لغالبية مواطني المدن والقرى العربية التي احتلتها، أرسى قاعدة التزام الإدارات الأمريكية المتعاقبة بتغطية تجاوزات الصهاينة القرارات الدولية، وممارساتهم العنصرية.

فضلاً عن لاواقعية تقويم دعاة الواقعية لما هو عليه راهناً ميزان القدرات والأدوار في الصراع . ذلك لأن أنظار غالبيتهم الساحقة ما زالت مسمرة عند انتصار “إسرائيل” في يونيو/حزيران 1967 . إذ يغلب على مقولات أكثريتهم الساحقة تجاهلهم المريع لمتغيرات ومستجدات الصراع منذ باشرت مصر حرب الاستنزاف قبل أن ينقضي اسبوعان على النكسة، والتي توجت بصمود المقاومة اللبنانية في صيف 2006 ما أفقد “إسرائيل” قوة ردعها، وعجزت عن استردادها بالمحرقة التي اقترفتها في قطاع غزة المحاصر سنة 2009 . فضلاً عما أصاب الحلف الاقليمي الذي أقامته بدعم أمريكي في خمسينات القرن الماضي. إذ انهى سقوط الشاه حلفها مع إيران، وبالتحولات في ميزان القوى التركي لغير صالح العلمانيين، المعادين للعروبة بما لا يقل عن عدائهم للاسلام، بات حلفها مع تركيا يواجه تحديات مقلقة، فيما تهدد حلفها مع إثيوبيا تفاقم حدة الصراعات في القرن الإفريقي. علاوة على انكشاف طبيعتها العنصرية، وتنامي إدانتها عالمياً، خاصة في عمقها الاستراتيجي الأوروبي والأمريكي.
 
وبالمحصلة لم يعد ميزان القدرات والأدوار مختلاً لصالح الكيان الصهيوني كما كانت عليه الحال عشية نكسة 1967 . فيما غدت قوى الممانعة والمقاومة العربية رقماً صعباً في معادلة الصراع. وهذا ما لا يأخذه في حسبانهم الواقعيون، وبخاصة منهم الذين أدمنوا تقديم التنازلات في مفاوضاتهم المتوالية، أو داعميهم المهرولين للصلح والتطبيع مع كيان لم يعد الزمن يعمل لصالحه.
"الخليج"

التعليقات