28/10/2010 - 14:14

نعم،"أزمة يسار".. لكنها ورطة العمل الوطني../ ناصر السهلي

-

نعم،
في الثمانينيات، وحتى الاجتياح الاسرائيلي للبنان، ساد عمل بين مختلف فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها اليساري المسلح، في صفوف اللاجئين والشتات في أوروبا والأمريكيتين، عمل يقوم على "الخدمة الوطنية"!
كان الطالب الجامعي والعامل والطبيب يترك مكان إقامته، أينما تواجد، للقدوم إلى لبنان للخدمة دفاعا عن الثورة والمنظمة.
 
الكادر الحزبي كان يتوجه إلى حيث مطلوب منه أن يكون دفاعا وانسجاما عن ومع العمل التحرري. تجربة الاجتياح توقف عندها البعض ومر عليها البعض الآخر سريعا.. فقد حملت مشاهد مروعة لكادر أصيب بالجبن وتبين أنه لا يستحق أن يكون حيث وُضع.. شكلت تلك حالة من التأزم الداخلي عند البعض الذي "حاسب" بطريقة سطحية وغير عميقة للظاهرة الخطيرة.. في الظاهر تلك أزمة خرج منها اليسار، بطريقة أو أخرى، في أواسط وأواخر ذلك العقد.. في العمق تبدو الأزمة أعمق من مجرد تعمية وحلول ترقيعية..
 
----------------------------------------------------------------------------------- 
 
قبل أيام كتبت مادة عن دور حركة فتح في إيقاف المسلسل المتهافت لقيادة حركة تحرر وطني تعيش أزمة أعمق من الظاهر.. عدت لأوراقي، لأكثف قراءتي لهذا الواقع المر.. ثم جاءت مادة الأستاذ حسام كنفاني " أزمة يسار" لتفتح كوة في النقاش الجامد.. المؤجل أحيانا.. حول ( ليس أزمة اليسار فحسب) مجمل الحركة الوطنية التي تحولت إلى تنافس على تسجيل المواقف واستصدار بيانات..
 
السؤال المطروح على لسان عزام الأحمد هو نتاج ليس فقط لحالة الرغبة بالاستئثار، ولا توجه عند المتنفذين الذين يخلطون أساسا بين المنظمة والسلطة رغبة في مزيد من الهيمنة، بل لنهج تاريخي متأصل ومتفجر منذ نشوء السلطة الفلسطينية.. وقد يجلس عزام الأحمد في رام الله أو دمشق مع أقطاب هذا اليسار ويشرح رؤيته والتفسير "الخاطئ" لتساؤل " بريء" في الظاهر وخبيث في العمق.. ثم، بيان تطييب خواطر وقبل موزعة أمام العدسات وحديث عن الدور النضالي التاريخي لهذا اليسار للحفاظ على " المنجزات الوطنية"..
 
ما يدور في خلد الأحمد عن "المنجزات الوطنية" هو الأزمة بعينها، فالترديد المتواصل لمسائل: المصالح الوطنية العليا والمنجزات التاريخية، يُراد له أن يؤجل أو يحسم أي جدل أو نقاش حول ماهية هذه المنجزات المختزلة هذه الأيام بالحديث عن "السلطة الوطنية الفلسطينية" كنتاج أولي لإتفاق المبادئ في "أوسلو"..
 
من منا لا يتذكر مواقف اليسار من "أوسلو"؟
 
قبل أيام كنا مجموعة ( مكونة من مجموعة من قيادات وكوادر يسارية ونحن البشر العاديين) نخوض نقاشا حول هذه المواقف فاكتشفت بأن الخوض في هذه الأزمة يخلق أيضا اختلافات داخلية.. أي أنني حين كنت أتلقى بعض العتب الشخصي على نقدي لحال هذا اليسار وسياساته، والتي كانت تُنشر في السنوات الماضية، فيبدو مرد هذا العتب إلى أنه حتى في فصائل اليسار ( المنضوية في م. ت. ف) ما يزال هناك "رفاق" لا يرون مشكلة في الالتصاق الفولاذي بالفكر القائم على التنظير بدياليكتيك معين، يبرر مثلا التحالف مع الكومبرادور الذي يهيمن على المؤسسة التمثيلية، ويصيغ البرامج والسياسات ويخلط بشكل ممنهج بين المنظمة كمنجز تاريخي بحق وبين هيكلية السلطة بما تفرضه من صوغ العلاقة على أساس الولاءات لما تراه قيادة السلطة والمنظمة من "حق" في السياسات كلها..
 
شخصيا لا أعتقد أن هذا اليسار عانى الكثير في السابق من مسائل النقاش الداخلي، بل المعاناة في تحويل الجدل والنقاش إلى مواقف واضحة و قرارات تنفيذية تلامس ما هو أبعد من إرضاء الرغبة عند القيادة هنا أو هناك وتنسجم مع خلق حالة نهضوية وريادية تعمل بين الجماهير بصدق وتفان، ولا تكتفي بما أُطلق عليه " نضال البيانات" و "المسيرات الموسمية" و التحرك كردة فعل للقول: نحن هنا!
 
بالعودة إلى السؤال السابق عن موقف اليسار من " أوسلو" يمكن أن نكتشف عمق أزمة اليسار، هذه الأزمة ليست بالضرورة تنظيمية داخلية في المستوى القيادي الذي يمكن أن يتوافق على مجموعة من النقاط المشتركة، بل أزمة سياسات حقيقية وأزمة برامج وعلاقات بالواقع الفلسطيني.. فبينما كان التنظير ضد المشروع الأسلوي وتوجهات اليمين المتنفذ يأخذ طريقه إلى الجماهير التي تلمست منذ البداية كارثة ما نحن فيه، نجد ما يشبه التراضي مع "النهج الأوسلوي".. بل الأنكى أنه تحت شعار " التركيز على الداخل" ( وكأن العمل بالأصل لم يكن من أجل الداخل) جرت عملية انتهازية كبرى للالتحاق باليمين وبمشروع أوسلو ولو تدريجيا..
 
وبالعودة إذا إلى المقدمة عن " الخدمة الوطنية" ومقارنتها بالشكل الإنتهازي والانتقائي لمسألة إرسال الكادر إلى مناطق السلطة فسنجد فرقا كبيرا بين الأمرين، وكل منهما له علاقة بماهية أزمة الحاضر. الظاهر أن خطاب اليسار الذي كان ينتقد "القيادة المتنفذة" إما أنه كان للتعمية على حقيقة غائبة عنا أو أنه نقد إبتزازي لا علاقة له بالفكر اليساري، فممارسات بعينها تتماهى والطبقة البرجوازية والإمعان في خوض تجربة سلطوية متناقضة مع المطروح من شعارات ضد عملية التسوية التصفوية للقضية الفلسطينية، إضافة إلى عامل النرجسية القاتل، أدت في معظمها إلى حالة تهكم ونقاش في الشارع، أكثر مما خلقت حلقات حوار في صفوف اليسار التنظيمية، وبالتالي ليس غريبا أن تجد "رفيقا" يعيش حالة نضالية بمرتبة "مدير عام" من الدرجتين "ألف" و"باء" في سلطة هي نتاج أوسلو..
 
حين يتهكم الشارع المؤيد لهذا اليسار على التحولات الطبقية عند الرفاق فهذا يعني أن خللا كان لا بد من نقاشه لتصحيحه.. فبينما كانت الخدمة الوطنية في الثمانينيات تعتمد على الإيمان المطلق بالثورة وأدواتها، وبالعمل النضالي المضحي في سبيل الأهداف دون إنتظار لراتب يعوض عن خسارة الدخل في مكان العمل أو العيادة، تحولت البيئة المحتضنة لتطلعات الباحثين عن تعزيز المكانة والامتيازات إلى تربة خصبة لانتهازية وشللية تجعل من النضال حالة ترف فكري..
 
يسود اليوم خطاب انعزالي وانهزامي عند من كان اليسار يُطلق عليهم يوما "اليمين"، فهؤلاء يحاولون اسكات أي صوت فلسطيني أو عربي أو أممي تحت شعار " نحن من يعيش الواقع تحت الاحتلال" ( هم لا يقولون أن هذا الواقع خلقته مراهناتهم الانتهازية) وهم يدعون الناس للتوجه إلى مناطق السلطة للمساعدة في النضال ضد الإحتلال ( لكنهم لا يعترفون بالحقيقة الممارسة على الأرض لخنق هذا النضال تحت مسمى التنسيق الأمني)..
المذهل ليس في وضوح هذا الخطاب الإنهزامي، فهو لا يحمل جديدا طالما أنه نابع من تربة مستعدة للتحالف مع أي كان لصون مصالحها في الإيهام بأنها تحولت من منجز إلى منجزات، بل المذهل هو التحول الذي صارت الجماهير الفلسطينية تلمسه عند " الرفاق"..
 
الطبطبة على النهج والخطاب الانهزامي يؤدي بالبعض مثلا إلى السكوت على الإهانات الشخصية والسياسية، بفعل انفضاح دور المال السياسي كأداة من أدوات الذيلية والتبعية، حين كان يُمعن هؤلاء في الاختيارات الدقيقة والتشريحية لكي لا تُزعج دوائر صنع القرار والمال السلطوي..
 
أزمة اليسار تكمن في علاقته بالشعب والجماهير التي كانت تاريخيا تجده البديل والحصن المنيع للانهيارات التي كانت ذات الشخوص "اليمينة" وذات النهج يسلكانه.. أزمة اليسار تكمن في تلعثمه بفعل مصالح ضيقة للقائمين عليه بالتحول إلى تسجيل مواقف.. أزمة اليسار تكمن في إنسلاخه عن فكره الباحث عن مصالح الفقراء المطحونين من أبناء هذا الشعب.. وأزمته العميقة في القبول بكذبة "الانجاز الوطني الأكبر" ممثلا بسلطة يقول الممسكون بقرارها بأنها أعجز من الاستمرار لولا المال الممنوح..
 
"هذا ليس يسارا"، قالها يساري غربي ممن أفنوا حياتهم دفاعا عن الثورة الفلسطينية، وفي الشرح ما هو مؤلم، أكثر من ألم "رفيق" لم يحظ بوظيفة مرموقة ولم تكن مزاجية من يوقع على أوراق التعيين راضيا عن تنظيمه.. مؤلم أن يقول لك عربي يساري ما يقوله غربي عن هذه التبعية في النظرة الانعزالية التي تسود خطاب ثوري تحرري، إذ كيف يمكن أن تنجز ثورة و حركة تحرر أهدافها وهي تتجه نحو التقوقع والقبول بموقع ذيلي لسياسة عدمية فاشلة؟.. ومن ينظر في العلاقة بين بعض أقطاب اليسار ومكونات الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، في داخل 48 والقوى الوطنية هناك، وفي الاردن ولبنان والشتات الأوربي سيكتشف عمق عقم التحالفات التي نشأت على أوهام ليس لها من سند سوى التماشي مع النهج المهيمن على م. ت. ف وتمثيلها المُغَيب لهذا الشعب.
 
أزمة اليسار ليست فقط بما وصلت إليه نقاشات وحوارات المحاصصة بين حماس وفتح، فالمحاصصة هذه تشكل أيضا عدم قبول عند كثير من أقطاب الحركة الوطنية الفلسطينية، من الجهاد مرورا بالصاعقة وليس إنتهاء بالجبهة الشعبية- القيادة العامة، فمن لا يقبل المحاصصة بين طرفين يجب أن لا يقبلها أيضا حين تكون ممارستها من قبله..
 
نحن لسنا أمام حالة معزولة ممثلة بعزام الأحمد وسؤاله التهكمي وليس الاستنكاري فحسب، البعض عمل ويعمل بشكل ممنهج لتحويل هذا اليسار إلى تكملة في "ديكور الديمقراطية الفلسطينية".. وعليه إذا كان البعض من الشعب والأصدقاء والحلفاء يسأل أين هو اليسار الفلسطيني، فليس بالضرورة أن يتوافق سؤالهم مع أسئلة النهج الأوسلوي، هؤلاء يسألون لأنهم يبحثون عن يسار فلسطيني أضاع بوصلته في دهاليز "يا وحدنا" و "فلسطين أولا" ( على طريقة موضة الرفاق السابقين في عدد من أقطار العرب: قطرنا أولا!).. ولو كانت حركة التحرر الوطنية أنجزت مشروعها وأهدافها ( حتى المرحلية منها) لكنا وجدنا لغة أخرى أشد مما يرمى بوجوهنا هذه الأيام.. فالذي يقول لأبناء شعبه في الشتات: من لم يتغبر حذاؤه بتراب فلسطين لا يحق له التدخل بشأننا" ( وقبل أن يتذكر أنه أيضا عاش بين هؤلاء وعاد قبل أعوام ولم ينزل من سيارته المصفحة على طريق ترابي قرب الحواجز) لم يجد من يقول له: فلسطين ليست مجرد ثرى، وشعبها هو كل من انتمى اليها.
 
نعم اليسار الفلسطيني يعيش أزمة عميقة جدا، بعمق أزمة المشروع الوطني، وسيظل غارقا في أزمته طالما بقي اصحاب القرار فيه مكتفين بالمكاتب والبيانات وحفلات الاستقبال والاطلالة التلفزيونية بين فترة وأخرى.. فهكذا يبدو المشهد المؤلم حين يقبل البعض بالتزوير التاريخي لحركة تحرر وطني تعري نفسها من كل بدائلها، وعلى رأس تلك البدائل شعبها وكل الأحرار الذين انتموا لفلسطين وقضيتها بالنضال.  

التعليقات