31/10/2010 - 11:02

11 أيلول: الإمبرياليّة ووهم الانقلاب التاريخيّ../ هشام البستاني*

11 أيلول: الإمبرياليّة ووهم الانقلاب التاريخيّ../ هشام البستاني*
في فندق فيرمونت في سان فرانسيكو، أواخر أيلول عام 1995، اجتمع خمسمئة من قادة العالم في مجالات السياسة والمال والاقتصاد بدعوة من المعهد الذي يترأسه ميخائيل غورباتشوف، والذي تبرّع بتكاليفه بعض الأثرياء الأميركيين (ربّما عرفاناً لخدماته في الاتحاد السوفياتي السابق). كان المطلوب من هذا الجمع «أن يبيّن معالم الطريق إلى القرن الحادي والعشرين، هذه الطريق التي ستفضي إلى حضارة جديدة».

في هذا المؤتمر الذي لم يكن للتسامح مع ضياع الوقت فيه أي مكان (5 دقائق للمتحدث، ودقيقتان للمداخل)، كانت النتيجة التي اختزل بها هؤلاء البراغماتيون المستقبل كالتالي: العددان 20 و80، ومصطلح Tittytainment.

بالنسبة إلى العددين، فهما يمثّلان حالة «العمل والبطالة» في المجتمع المستقبلي، حيث يعتقد المجتمعون أن نسبة «20% من السكان العاملين ستكفي في القرن القادم للحفاظ على نشاط الاقتصاد الدولي»، أما باقي الـ80% فهم سيواجهون «مشاكل عظيمة». ستكون المسألة بحسب أحد مدراء شركة «صن» (Sun) هي «إمّا أن تأكل أو أن تؤكل» (To Have Lunch Or To be Lunch).

أما بالنسبة للـTittytainment، فهو مصطلح طرحه زبغنيو بريجنسكي الأشهر من أن يعرف، وهو منحوت من كلمتي Entertainment أي تسلية، وtits أي أثداء (إشارة إلى حليب المرضع). والـTittytainment هذه هي الخليط من «التسلية المخدرة والتغذية الكافية» التي بإمكانها «تهدئة خواطر سكان المعمورة المحبطين». وبإمكان المهتم مراجعة تفاصيل هذا المؤتمر الرهيب وأبعاده في الكتاب الهام «فخ العولمة: الأعتداء على الديموقراطية والرفاهية» (تأليف هانس بيتر ـــــ مارتن وهارالد شومان، ترجمة د. عدنان عباس علي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 238).
ولكن ما علاقة كل ذلك بموضوعنا؟
لعلّ أول الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها الكاتب أو المحلل هو اعتبار 11 سبتمبر فاصلاً بين عهدين، أو علامة تاريخية فارقة أحدثت انقلاباً كلياً ما بعدها. والمقارن ما بين سبتمبر 1995 (مؤتمر فندق فيرمونت) وسبتمبر 2001 (هجمات نيويورك وواشنطن) وما تلاها، قد لا يجد اختلافاً بيّناً في نوعية السياسة الأميركية والرأسمالية الغربية عموماً، المسألة هي مسألة كمية وحسب.

إن أميركا بصيغتها الحالية: الإمبراطورية ذات القوة الغاشمة والإيديولوجيا النيوليبرالية، كانت لا شك قادمة مع أو بدون 11 سبتمبر. ولو لم تحدث هجمات 11 سبتمبر، فأغلب الظن أننا كنا سنعيش الحقبة التي تلتها، ولكن متأخرين قليلاً.

إنّ ما قد يرقى إلى مستوى التحول التاريخي هو النقطة التي انتصرت عندها المنظومة الرأسمالية على الاتحاد السوفياتي و«الكتلة الاشتراكية». وليس الانتصار بحد ذاته هو العلامة الفارقة، بل هو التحول المطّرد والمتسارع نحو التخلص من دولة الرفاه الاجتماعي و«كلفها» العالية.

إن رأس المال - الباحث دائماً عن شروط تعظيم أرباحه - كان يجد عائداً استثمارياً وقائياً من دولة الرفاه ذات الضمان الاجتماعي الممتاز والتأمين الصحي الشامل، والإنفاق العام كان «شراً لا بد منه» للحفاظ على الاستقرار الداخلي، ومنع انتقال أي عدوى من الشرق تتحدث عن عدالة اجتماعية ومساواة ومحو فوارق طبقية وتأمين احتياجات أساسية دون مقابل (مأكل، ملبس، مسكن، تعليم، صحة).

في ظل غياب «قطب آخر»، وانحسار النشاط الاجتماعي/ السياسي لليسار الراديكالي في العالم، وغياب بديل أيديولوجي ثوري ذي حضور، أصبحت دولة «الرفاه الاجتماعي» كلفة باهظة لا مبرر لها (على الصعيد الداخلي)، وأصبح العالم ملعباً مفتوحاً بلا منافسين (على الصعيد الخارجي). هكذا كان على الإمبريالية أن تخلع قناعها «الديموقراطي» و«المتمدن»، وترمي بأسطورة «العالم الحر» بعيداً، وتتمدد داخلياً وخارجياً، وتملأ الفراغات التي تركها «القطب» السابق.

على الإمبريالية في هذه المرحلة أن تفكر في ما ستفعله أثناء سيرها في هذه «الطريق التي ستفضي إلى حضارة جديدة»، وهو ما فعلته في مؤتمر فيرمونت الذي أجاب عن أسئلة التحول الجديد (أي نبذ «دولة الرفاه الاجتماعي» لانعدام جدواها وارتفاع كلفها الاقتصادية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي). إن هذه الحضارة «الجديدة» ليست جديدة بأي مقياس، بل هي استحضار لآليات ما قبل رأسمالية، إنها القوة الغاشمة دون رادع سوى الأرباح، وهذا لا يتناقض مع التطور التاريخي للرأسمالية في مرحلتها النيوليبرالية، فالامبرياليات لا تجد غضاضة في استعمال آليات لا ترقى إلى مستوى تطورها التاريخي ما دام ذلك يخدمها في السياق العام. وكما يلاحظ هادي العلوي «إن أنماط الإنتاج الأكثر تقدماً كانت قادرة دوماً على توظيف أنماط إنتاج منحلة لتنمية نفسها، ولكن هذا لا يشكل إعادة لنمط الإنتاج المذكور، وإنما يتم بتأثير هذه المنظومة الاستغلالية الجامعة» (شخصيات غير قلقة في الإسلام، ص 222).

إن مجتمع الـ 80/20 المذكور سابقاً، هو مجتمع سيُسَيّر بخليط من القوة الغاشمة والـTittytainment، واستعراض الحرب الحديثة بتقنياتها المذهلة وجنودها العصريين ذوي التجهيزات الفضائية، وصور الأقمار الصناعية، وتسجيلات القنابل الذكية وهي تصيب بدقة الأهداف المعادية، كل هذا لا يخدم كأدوات ردع فعلية ونفسية لشعوب الأرض من المضطهدين المنضوين في نسبة الـ80% الآنفة الذكر فحسب، وإنما تُحول الحرب بهذه التقنيات من مأساة إنسانية صارخة، إلى «مشاهدة ممتعة»، أو فيلم هوليوودي، أو لعبة مسلية من ألعاب الفيديو.
إنه السيف ذو الحدين: القتل والتسلية المخدرة، ولكنهما حدّان يقطعان الضحية ذاتها.

استعراض القوة والتخدير هذان لم يبدآ قطعاً في 11 سبتمبر، ورجال مكافحة السموم بملابسهم الفضائية الذين طيّرت صورهم المحطات الأميركية إلى أرجاء الأرض الأربعة في سياق البحث عن «جمرةٍ خبيثة»، جاؤوا بعد صور الإصابات الدقيقة للمنشآت العراقية أثناء حرب الخليج الثانية عام 1991. وقد لا يعلم الكثيرون في الوطن العربي أن شركة العلاقات العامة المعروفة عالمياً المسمّاة «هيل آند نولتون»، كانت هي العقل المدبّر لحملة تسويق حرب الخليج الثانية في الولايات المتحدة (من تقرير: قوة البروباغاندا العالمية، لشارون بيدير وريتشارد غوسدن، مجلة PR Watch 8 (2) 2001)، وهذه الشركة هي جزء من تجمع «دبليو. بي. بي» (WPP) العملاق للعلاقات العامة والدعاية والإعلان، وهو تجمع يرأسه مارتن سوريل، وشغل حوالى 55 ألف شخص في 92 بلداً، وله 1300 مكتب، وحقق عوائد بلغت 5,2 مليارات دولار عام 1999.

إن التقرير المذكور سابقاً يقول عن شركة (WPP) إنها «مستودع كامن للقوة، آلة بروباغاندا عملاقة، وتملك من المهارات المنسقة في مجال التلاعب بالناس ما يسمح لها بالسيطرة على عقول وقلوب كل سكان العالم». وهي، إضافة إلى منافستها «أومنيكوم» (Omnicom)، تسيطران على سوق الإعلان والدعاية والعلاقات العامة في العالم لصالح الشركات العملاقة، والحكومات في بعض الأحيان.

ومنذ أوائل الثمانينيات، صرح أحد مدراء شركة جي والتر ثومبسون (J.Walter Thompson) وهي شركة إعلانات اشترتها (WPP) عام 1987 بما يلي: «إن في أيدينا أعظم أداة شاملة للتعليم الجماعي والإقناع شهدها العالم، إنها قنوات الاتصال الإعلانية، نحن نملك القوة، فلم لا نستعملها؟»، إن نبوءة هذا الشخص تجد صداها في الآلية التي اقترحها بريجنسكي في مؤتمر فيرمونت، وتطبيقها في الحقبة المتوحشة للإمبريالية الأميركية بعد انقلاب «نهاية دولة الرفاه»، أواخر ثمانينيات القرن الماضي.

هذا أحد جوانب المسألة. أمّا الجانب الآخر فهو أن صقور الحرب في الإدارة الأميركية ذوي النزعات اليمينية المتطرفة لم يولدوا في الفراغ، ولم يهبطوا بمركبات فضائية قادمين من مستودع للراديكاليين الأميركيين على المريخ مخصص لحالات الطوارئ.
لقد كانوا في صلب المؤسسات الأميركية منذ أمد طويل، وخصوصاً تلك المعنية بإحداث تغييرات خارجية، مثل مؤسسة بيت الحرية (Freedom House)، التي تعرّف نفسها بأنها منظمة غير حكومية، تأسست عام 1941على يد النيور روزفلت (زوجة الرئيس الأميركي المعروف) وويندل ويلكي (منافس زوجها الخاسر في الانتخابات)، وتعنى بخلق التغيرات الديموقراطية في العالم عبر إنشاء شبكات مرتبطة بها في المناطق المستهدفة، وهي كذلك تعمل من أجل «سياسة أميركية خارجية متدخّلة» (Engaged)، ومن أجل إدخال «إصلاحات السوق الحرة»!

إذا فككنا شيفرة الجمل المذكورة أعلاه، والمستقاة من النشرات التعريفية بـFreedom House، نكتشف أن المسألة برمّتها هي مسألة «تدخل» من أجل المصلحة الإمبريالية. وربما لن نستغرب كثيراً إذا علمنا أنها استهدفت بشكل رئيسي منطقة وسط وشرق أوروبا، وكان لها دور كبير في إحداث الزلزال هناك، حيث موّلت ولا تزال عشرات المنظمات غير الحكومية في تلك البقعة من العالم.

إن هذه المؤسسة الهامة ذات النزعة «الديموقراطية» (المفترضة طبعاً)، تحوي في هيئة أمنائها أشخاصاً غير ديموقراطيين تماماً: دونالد رامسفيلد، بول وولفوتز، ومنظرهم الأول صامويل هانتنغتون! لقد كان هؤلاء، إضافة إلى ما يمكن أن نصنفه الآن من «المعتدلين» كبريجنسكي، طرفاً فاعلاً في البنية الاستراتيجية الأميركية قبل أن يكونوا في صف صنع القرار الاول، وصعدوا إلى مواقع القيادة والتأثير عندما أصبح الظرف الموضوعي يستدعي وجودهم، والظرف الموضوعي هذا هو 11 سبتمبر. بهذه الصورة، تمهد «الإمبراطورية» لنفسها على المدى الاستراتيجي.

وإن كان انفراد قوة عظمى بالعالم مشكلة حقيقية، فإن هذه المشكلة تتحول إلى كابوس مرعب إذا كانت هذه القوة إمبريالية بأيديولوجيا نيوليبرالية، ولا تلتفت إلى شيء سوى الأرباح والأسواق والنفط، ويصنع قرارها مديرو الشركات العملاقة بعد أن تحولوا سياسيين.
تثبت لنا الحقائق حجم تمثيل مدراء الشركات الكبرى في الإدارة الأميركية الحالية (بعضهم ترك موقعه). فالرئيس دبليو بوش هو المدير السابق لشركة «هاركين» للنفط؛ نائب الرئيس ديك تشيني هو الرئيس السابق لشركة «هاليبيرتون» للنفط؛ وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد هو المدير السابق لشركتي «جنرال أنسترومنتس» الصناعية و«سيرل» الصيدلانية؛ وزير الدفاع الحالي روبرت غيتس كان عضو مجلس أمناء شركة «فيديلتي» للاستثمارات، وعضو مجالس إدارات الشركات التالية: NACCO الصناعية، شركة برنكر الدولية، شركة باركر للتنقيبات، شركة التطبيقات العلمية الدولية؛ وزير الخزانة السابق بول أونيل هو المدير السابق لشركة «الكوا»؛ وزير الخزانة الذي تلاه جون سنو هو رئيس سابق لشركة CSX؛ وزير التجارة السابق دون إيفانز هو المدير السابق لشركة «توم براون» للنفط؛ وزير الخزينة الحالي هنري بالسون هو رئيس سابق لـ«غولدمان ساكس»، رئيس موظفي البيت الأبيض السابق أندرو كارد هو الرئيس السابق لجمعية مصنعي المركبات الأميركيين؛ وزير الجيش السابق توماس وايت هو مدير سابق في شركة «أنرون» للطاقة؛ وزير الجيش الذي تلاه فرانسيس هارفي هو رئيس سابق لمجموعة IT المتخصصة بالتعهدات الدفاعية؛ وزير القوات الجوية السابق جايمس روش هو مدير سابق في شركة «نورثروب غرومان»؛ غوردون أنغلند وزير البحرية السابق ونائب وزير الدفاع الحالي هو رئيس سابق لشركتي جنرال داينامكس ولوكهيد، أما وزير البحرية الحالي دونالد ونتر فهو مدير كبير سابق في شركة «نورثروب غرومان»!

كل هؤلاء من أقطاب الشركات، ومنهم عدد لا بأس به من المديرين السابقين لشركات النفط والطاقة، وذوي علاقة عضوية بالمجمع الصناعي - الحربي الأميركي، إلى الدرجة التي دعت شركة «شيفرون» للنفط لإطلاق إسم «كوندوليزا رايس» على إحدى ناقلاتها النفطية!

ولتأكيد ما ذهبنا إليه في ما سبق، سأستدعي أجزاءً من مقال لجيمس بتراس، أستاذ علم الاجتماع السابق في جامعة بنغهامبتون في نيويورك، نشر بتاريخ 4/11/2001 تحت اسم: «11 سبتمبر، ما وراء المأساة الإنسانية».

يكشف بتراس في هذا المقال حقائق فظيعة يخلص منها الى فرضيات لا تقل فظاعة، وهي في واقع الأمر نتائج مبنية على أدلة ملموسة. فمثلاً، يقول بتراس: «إن انفجار مشاعر الحرب في واشنطن [يقصد الإدارة الأميركية] ربما كانت له علاقة بنوعية الضحايا ومقدار تأثيرهم على الأسواق المالية العالمية، لا بعدد هؤلاء الضحايا، حيث إن الكثير منهم كانوا من المحللين وراسمي السياسات المالية والمضاربين»!

ويعتمد بتراس الرقم الذي أورده الصليب الأحمر الأميركي لعدد الضحايا (وهو 2563 شخصاً)، مشيرا الى أن 40% منهم من جنسيات أجنبية، أي إن عدد الضحايا الأميركيين الفعلي هو حوالى 1500. ويعزو بتراس الرقم المبالغ فيه الذي روّجه مسؤولو مدينة نيويورك (4964 ضحية) لرغبتهم في الحصول على المزيد من المعونات الفدرالية «لإعادة بناء القطاع التجاري في نيويورك» لا لجهود الإغاثة! مذكراً بإضراب رجال الإطفاء بعد شهرين من الهجوم نتيجة لخفض الميزانيات المخصصة لهم للإنقاذ.

ويرى بتراس أن الإدارة والإعلام الأميركيين «تلاعبا بالمأساة الإنسانية التي تعرض لها مواطنو نيويورك لإزاحة التركيز عن البعد الاقتصادي والعسكري للصراع… وعندما أصبح الضحايا غير مجديين كبروباغاندا لصالح الحرب، تم التخلص منهم ليتحولوا إلى طوابير خارج مكاتب البطالة... فخلال شهر تشرين الأول 2001، فقد أربعمئة وخمسون ألف عامل وظائفهم في الولايات المتحدة، وهو أعلى رقم لفصل موظفين في شهر واحد في التاريخ الحديث».

كما يذكر المقال، نقلاً عن الغارديان البريطانية (عدد 2 نوفمبر 2001) أن مركز التجارة العالمي «كان يحتوي في طوابقه السفلية على مقر للـCIA وأجهزة سرية أخرى، أي إن الـCIA استغلت الغطاء المدني الذي يوفره مركز التجارة لإخفاء مركز تنفيذي ولوجستي تحت الأرض، مما عرض حياة المدنيين الذين يعملون في الطوابق العلوية للخطر دون أدنى حس بالمسؤولية».

ويشير المقال إلى «الحالات العديدة للاحتيال والاستغلال التجاري [مثل] مطالبات التأمين المبالغ فيها، بيع التذكارات، واختفاء ملايين الدولارات من المساعدات المالية التي كان من المفترض أن تذهب لعائلات الضحايا».

إذاً، الأرباح، الحسابات، المضاربات، كلها حاضرة، وهذا ليس بغريب على رأسمالية بحجم الولايات المتحدة، أما أن تكون حاضرة في وسط المأساة التي تخص مواطني المركز الإمبريالي نفسه، فهذا هو التطور النوعي في الآليات الهمجية التي ستنعكس بصورة أشد خارجياً. ولا شك في أننا سنتذكر، عندما نعيد قراءة الرقم الهائل لأعداد الموظفين الذين فقدوا أعمالهم، عبارة جون غايج (John Gage) أحد كبار مديري شركة الكمبيوتر الأميركية «صن مايكروسيستمز» التي أجاب بها عن سؤال في مؤتمر فيرمونت: «لديّ من العاملين 16 ألفاً، وإذا ما استثنينا قلة ضئيلة منهم، فإن جل هؤلاء احتياطي يمكن الاستغناء عنه عند إعادة التنظيم».
يوم 11 سبتمبر، حانت ساعة إعادة التنظيم الكبيرة على المستويين الداخلي والخارجي. داخلياً: فصل العمال من وظائفهم، ودخلت قوانين وإجراءات قمعية جديدة حيز التنفيذ، ودخل الاقتصاد المنهار دورة جديدة لمصلحة شركات النفط والسلاح. أما خارجياً، فقد رأت أميركا أن الوضع بات مناسباً لحسم سيادتها على العالم نهائياً، وخصوصاً في وجه مراكز أمبريالية صاعدة ومنافسة كاليابان وأوروبا.

هذا الحسم لن يأتي إلا بالسيطرة على النفط سيطرة تامة بدأت بحرب الخليج الثانية، وتستمر الآن بزخم متسارع جداً منذ 11 سبتمبر بالسيطرة على نفط حوض قزوين، والاحتلال الذي يزكم الأنف برائحة النفط في العراق، والجاثم الى جوار احتياطات أخرى كبيرة في الكويت والسعودية وإيران.

كما أكملت أميركا حلقتها النارية الضاربة حول العالم، فهي، إضافة إلى أساطيلها البحرية المتنقلة، تملك قواعد في أوروبا، الجزيرة العربية، وسط آسيا، كوريا، واليابان، معطية لنفسها قوة النار والمرونة الكافيتين لضرب أي دولة «مارقة» أو تنظيم «إرهابي».

حتى منظّرا الحقبة الاميركية الحالية، صامويل هانتنغتون وفرانسيس فوكوياما، رغم اختلافهما المنهجي، يتفقان مع ما عرضناه سابقاً من أن 11 سبتمبر هو حدث في التاريخ لا انقلاب فيه. فهانتنغتون - مستبطناً صراع الحضارات الخاص به طبعاً - يرى أن ما يمكن أن يشار إليه كعلامة تاريخية هو «عصر الحروب الإسلامية» التي «بدأت عندما كانت الحرب الباردة تنتهي في الثمانينيات من القرن الماضي» (راجع مقالة: «عصر الحروب الإسلامية» في مجلة نيوزويك، عدد دافوس الخاص، ديسمبر 2001 - فبراير 2002).

أما فوكوياما فيتساءل عن 11 سبتمبر: «ما الذي يحصل هنا؟ هل سنشهد بداية لعقود طويلة من «صدام الحضارات» واضعة الغرب في مواجهة الإسلام؟... منذ ما يزيد على عشر سنوات، قلت إننا وصلنا نهاية التاريخ... هذه النظرية تظل صحيحة، أن هجمات 11 سبتمبر تمثل [فقط] حركة ارتجاعية عنيفة يائسة ضد العالم الحديث». (انظر مقالته: «هدفهم: العالم الحديث» في عدد نيوزويك السابق الذكر).

هكذا إذاً، يتفق المنظران الرئيسيان لحقبة النيوليبرالية المتوحشة على أن نقطة الارتكاز التاريخية هي نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، أما 11 سبتمبر فهي «حركة ارتجاعية يائسة» كما يراها فوكويوما، أو، برأي هانتغتون، فإن «الحرب الجديدة، كما يسمي مسؤولو الإدارة العنف الذي بدأ في 11 سبتمبر، ليست جديدة على الإطلاق. إنّه استكمال وتصعيد لأنماط سابقة من العنف تورّط فيها المسلمون»، أي الأميركيون، إذا فككنا شيفرة هانتنغتون السحرية!

وهكذا، لنحلل بصورة أكثر صواباً، ولنضع 11 سبتمبر في سياق صحيح، نعيد قراءة جمل فوكوياما وهانتغتون الأخيرة كما يلي: إن هجمات 11 سبتمبر تمثل حركة ارتجاعية عنيفة يائسة ضد الهيمنة الإمبريالية المتوحشة المتمثلة بالولايات المتحدة. و«الحرب الجديدة» أو الحرب على «الإرهاب»، ليست جديدة على الإطلاق، بل هي استكمال وتصعيد لأنماط سابقة من العنف تورط فيها الأميركيون في سياق الهيمنة الامبريالية على العالم، وخدمت أحداث 11 سبتمبر كذريعة لها.

الحرب على «الإرهاب» هي حرب نفط وأرباح وهيمنة بامتياز، لا حرب ديانات ولا صراع حضارات، وهي حرب بدأت فعلياً منذ بدايات انهيار الاتحاد السوفياتي وصعود الرأسمالية النيوليبرالية أوائل الثمانينيات، حين تراجع المفهوم الكينزي في الاقتصاد لمصلحة إطلاق الحرية الكاملة للسوق، كما نظر لها فريدرش فون هايك وطبقها رونالد ريغان في الولايات المتحدة ومارغريت تاتشر في بريطانيا. أما 11 سبتمبر 2001 فهو الدليل الساطع على كفاءة الامبرياليات في استخدام الأحداث، والخداع، ونثر النظريات المضللة لأسس الصراع بما يوافق هوى المتلقي، فتتحول مقاومة الامبريالية من فعل تراكمي إيجابي الى دوران في المكان بقصد البقاء لا أكثر، وهو أمر ينجح في إبقائنا أحياءً، ولكنه غير قادر على تحريكنا إلى الأمام على طريق النصر على الهيمنة والاستغلال.
"الأخبار"

التعليقات