31/10/2010 - 11:02

15 عاما على اتفاق أوسلو../ ماجد كيالي

15 عاما على اتفاق أوسلو../ ماجد كيالي
شكّلت المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية حالة فريدة من نوعها، في مجال العلاقات الدولية، وفي شأن التسوية بين أطراف دولتية متصارعة، كما في موضوعاتها، ومداخلاتها الدولية والإقليمية، ورموزها السياسية والأخلاقية والتاريخية، بسبب من عوامل عدة أهمها:

1 ـ إن هذه المفاوضات تجري بين طرفين لا يعترف أحدهما بالأخر تماماً، بما لذلك الاعتراف من معنى قانوني وسياسي وأمني وتاريخي وأخلاقي؛ وفي اعتقاد كل من الطرفين، بأن أي اعتراف تام بالطرف الأخر سيرتب على الطرف المقابل مسؤوليات سياسية وأخلاقية وقانونية، كما سيرتب عليه مراجعة روايته التاريخية. وبالتالي فإن هذه المفاوضات تنطلق من رؤية مسبقة، لدى كل من طرفيها، مفادها أن أي مكسب للطرف الأخر سيكون على حساب وجوده، أو نفياً له، أو على الأقل تحديدا لهذا الوجود.

2 ـ هذه المفاوضات هي مرجعية ذاتها، أي أن التوافق بين طرفيها هو أساس العملية. وفي ذلك بديهي أن إسرائيل، من موقعها القوي والمسيطر، هي التي تتحكّم بمسارات العملية التفاوضية، وقضاياها، وأولوياتها، ونتائجها، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، التي باتت راعية ما يسمى عملية السلام، لاسيما انها القطب المقرر على الصعيد الدولي. وتفيد التجربة التفاوضية برفض إسرائيل المستمر لتدخل أي طرف بشأن مفاوضاتها مع الفلسطينيين، من الأمم المتحدة إلى أوروبا، وحتى أنها مانعت عديد من التدخلات الأمريكية، التي كانت تجد أنها لا تتلاءم مع تعريفها لأوضاعها ومصالحها. وفي كل ذلك كان الفلسطينيون عرضة لاستفراد إسرائيل، وتحت رحمة ابتزازاتها، فهي التي تقرر ما تعطيه وما لا تعطيه، وما تبحثه أو ما لا تبحثه في المفاوضات؛ فليس ثمة مرجعية قانونية أو دولية، بالنسبة لإسرائيل.

3 ـ تفتقد هذه العملية أيضا لأي جدول زمني، على المستويين التفاوضي والتطبيقي، فمنذ أن قال اسحق رابين (رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق) بعدم وجود مواعيد مقدسة، بات لا أحد يعرف متى تنتهي المفاوضات الانتقالية أو النهائية، وبديهي أن لا أحد يعرف متى يتم تطبيق ما يتم الاتفاق عليه!!

4 ـ لا يوجد البتة أي تكافؤ في القوى بين الطرفين المعنيين بالمفاوضات، بل ثمة اختلال كبير في القوى والمعطيات الإقليمية والدولية لصالح إسرائيل، التي تسيطر على الأرض وتتحكم بمناحي الحياة لدى الفلسطينيين؛ وهذا يخل تماما بأسس التفاوض، التي تفترض وجود نوع من التكافؤ ولو النسبي.

5 ـ إن هذه المفاوضات تجري في ظل معطيات دولية وعربية مواتية لإسرائيل، خصوصا في ظل هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي، وحال العطب والتشتت في النظام العربي، ومناخات الحرب الدولية ضد الإرهاب، والاحتلال الأمريكي للعراق.

6 ـ إن إدارة الفلسطينيين لهذه المفاوضات اعتورتها عديد من النواقص، ضمنها تخلف الإدارة، وضعف التنظيم، والطريقة الفوقية لصنع القرارات، والانقسام الداخلي، وغياب حالة من الحراك في حقل التفكير السياسي، التي يمكن تولد الأفكار وأن ترشّد العملية التفاوضية، بين مسائل أخرى.

7 ـ فوق ذلك كله فإن إسرائيل، وبغض النظر عن واقعة قيامها، ترفض الاعتراف ولو بمجرد كونها دولة محتلة لأراضي الفلسطينيين في الضفة والقطاع (عام 1967)!، فكيف يمكن تصور مفاوضات في ظل هذا الواقع، التي تنطلق من هذه البداية غير المنطقية؟

8 ـ منذ البداية ظلت هذه المفاوضات مرتهنة للاعتبارات الإسرائيلية ولتبدلات الحكومات الإسرائيلية، وكأن هذه المفاوضات تجري بين الإسرائيليين أنفسهم، وليس مع طرف أخر! هكذا ضيع نتنياهو ثلاثة أعوام من عمر التسوية، بعد أن شكل الحكومة الإسرائيلية، إثر سقوط حكومة حزب العمل (1996ـ1999)، وهكذا جمد باراك التسوية الانتقالية بدعوى الذهاب للتفاوض على قضايا الحل النهائي، ما أدى إلى اندلاع الانتفاضة اثر فشل مفاوضات كامب ديفيد2 (يوليو2000)، وهكذا تم تقويض اتفاقات اوسلو في عهد شارون (2000ـ2005) ومعاودة احتلال مناطق السلطة، وطرح فكرة الانسحاب الأحادي من قطاع غزة (2005).

على ذلك، وباختصار، فإن المفاوضات التي لا تعترف فيها إسرائيل بمكانتها كدولة استعمارية محتلة، ولا بأية مرجعية دولية وقانونية، وحيث تتمتع بتفوق في القوى، وتسيطر على الأرض وعلى حياة الفلسطينيين، الذين يعيشون تحت رحمة إسرائيل والدول المانحة، هذه المفاوضات لا يمكن أن تجلب سلاما، ولا حتى تسوية متوازنة ونسبية، ولكنها يمكن أن تقدم مجرد تسوية جزئية ومؤقتة وسطحية، فقط، وهذا هو التفسير الممكن لهذه العملية التفاوضية.

والمفارقة أن إسرائيل، وعلى رغم الاختلال في موازين القوى لصالحها، لم تقتنع بصدقية توجه الفلسطينيين (الطرف الضحية الذي يخضع للاحتلال) بالقبول بحلّ وسط تاريخي يتأسّس على تقسيم أرضهم التاريخية إلى دولتين: إسرائيلية وفلسطينية، والرضوخ بمجرد قيام دولة لهم بالضفة الغربية وقطاع غزة.

وتواظب إسرائيل على التشكيك بنوايا الفلسطينيين، انطلاقا من مسألتين، أولاهما، ربط الفلسطينيين قبولهم بحل الدولتين، باعترافها بالقرار 194، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، والقاضي بالسماح للاجئين بالعودة إلى ديارهم، التي شردوا منها عام 1948، والتعويض على من لا يرغب بالعود. وثانيتهما، أن الكيان الفلسطيني الناشئ، بالنسبة للفلسطينيين، هو بمثابة حصان "طروادة"، غرضه تهديد الدولة الإسرائيلية، وفق عقلية المراحل، التي تعني أخذ ما يمكن أخذه في هذه المرحلة، للانتقال إلى مرحلة مطالب أخرى.

وبنظر إسرائيل فإن الإصرار على حق العودة للاجئين هو مجرد محاولة فلسطينية لتقويض الطابع العبري للدولة الإسرائيلية، أما قبول الفلسطينيين بقيام دولة لهم في الضفة والقطاع، فهو ليس إلا نوع من التحايل على موازين القوى، والمعطيات الإقليمية والدولية الراهنة.

طبعا لا يفوت إسرائيل أن تؤكد وجهة نظرها هذه بنمو نزعات التطرف والتشدّد والعنف في الساحة الفلسطينية، على حساب نزعات الاعتدال والمفاوضة، كما تدلّل على ذلك بصعود نفوذ حماس، وبتوجه عديد من الجماعات الفلسطينية، نحو انتهاج المقاومة وفق نمط العمليات التفجيرية في المدن الإسرائيلية.

أما في السلوك التفاوضي الإسرائيلي، فمنذ بداية العملية التفاوضية، التي انطلقت من مؤتمر مدريد (1991)، ولاسيما منذ لحظة توقيعها اتفاق اوسلو مع الفلسطينيين (1993)، تعمدت إسرائيل التملص من الاستحقاقات المطلوبة منها في هذه العملية، بحيث أن الفلسطينيين لم يسيطروا إلا على حوالي 27 بالمئة من أراضي الضفة الغربية، بصورة مباشرة وغير مباشرة، طوال المراحل التفاوضية السابقة.

ويمكن تحقيب العملية التفاوضية الفلسطينية ـ الإسرائيلية، في المسارات والتحولات التي مرت فيها، بخمسة مراحل:

الأولى، (1993ـ1996)، أي من التوقيع على اتفاق اوسلو، إلى حين سقوط حزب العمل وصعود "الليكود" إلى رئاسة الحكومة. وهي مرحلة مهدت لقيام السلطة الوطنية، بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من المدن الفلسطينية، كما شهدت إجراء انتخابات المجلس التشريعي (1996). لكن حزب العمل لم يذهب في هذه المرحلة نحو تحقيق انسحابات واسعة وجدية من الضفة الغربية وقطاع غزة، ولم تجر حلحلة لموضوع المعابر. وفي تلك المرحلة ابتدع اسحق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، مقولة أن "ليس ثمة مواعيد مقدسة" في التفاوض مع الفلسطينيين، للتملص من استحقاقات الانتشار في المرحلة الانتقالية.

المرحلة الثانية (1996ـ1999)، وهي بدأت مع صعود نتنياهو وحزبه الليكود إلى رئاسة الحكومة، إلى حين سقوطه في الانتخابات. وقد بيّنت تلك المرحلة أن طبيعة النظام السياسي الإسرائيلي تساعد على التملص من الاتفاقات التي تم التوقيع عليها، كما بينت أن الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكن أن تذهب بعيدا في الضغط على إسرائيل، لإرغام حكومتها على تغيير موقفها، مراعاة لحساسياتها، وأيدلوجيتها، وطريقة عمل نظامها السياسي. وفي هذه المرحلة ابتدع بنيامين نتنياهو فكرة "التبادلية"، بحيث ضيّع ثلاثة أعوام من عمر عملية التسوية، في الجدل بشأن امكان الانسحاب من 13.1 بالمئة من أراضي الضفة والقطاع، مع تحويل 3 بالمئة منها إلى محمية طبيعية. وهذه المرحلة شهدت انتفاضة النفق (المسجد الأقصى) واتفاقي الخليل (1997)، وواي ريفر (1998).

ويمكن التأريخ للمرحلة الثالثة من المفاوضات باحتلال باراك (زعيم العمل)، موقع رئاسة الحكومة (1999ـ 2001)، حيث استمرت التملصات الإسرائيلية المتعلقة بتنفيذ استحقاقات اتفاق اوسلو الانتقالية. وفي هذه المرحلة برز طلب باراك المتعلق بالتحول نحو التفاوض على قضايا الحل النهائي مباشرة ومرة واحدة، الأمر الذي تم له بدعم أمريكي، في مفاوضات كامب ديفيد2 (تموز/يوليو 2000). وفي الحقيقة فإن باراك حينها لم يكن متحمسا للتسوية، بقدر ما كان يريد تجنّب استحقاقات المرحلة الانتقالية، وتجنيب إسرائيل المسؤولية عن انهيار اتفاق اوسلو، وتحميلها للفلسطينيين. وهكذا عندما باءت مفاوضات كامب ديفيد بالفشل، بسبب المناورات والاملاءات الإسرائيلية، قامت إدارة كلينتون بتحميل المسؤولية عن ذلك للقيادة الفلسطينية، من غير وجه حق. وفي هذه المرحلة اندلعت الانتفاضة، في محاولة من الفلسطينيين للمزاوجة بين الانتفاضة والمفاوضة، كذلك فقد شهدت هذه المرحلة مفاوضات طابا (2001)، وتم بعدها إطلاق مقولة عدم وجود شريك للتسوية في الطرف الفلسطيني.

أما المرحلة الرابعة فهي التي شهدت صعود نجم شارون واحتلاله موقع رئاسة الحكومة (2001 ـ 2005) ثم تأسيسه حزب كاديما، ثم مجيء حكومة (كاديما ـ العمل) برئاسة ايهود اولمرت. وقد شهدت هذه المرحلة (إلى حين رحيل الرئيس ياسر عرفات) انقطاع المسار التفاوضي، بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومعاودة إسرائيل احتلال مناطق السلطة، ومنعها من أي تواجد أو نشاط سياسي في مدينة القدس، إضافة إلى قيام إسرائيل بتقويض مؤسسات السلطة، وتدمير البني التحتية للأراضي الفلسطينية، وتشديد الحصار الاقتصادي والعسكري عليها، من خلال مئات الحواجز العسكرية وبناء الجدار الفاصل. وفي المراحل الأخيرة لهذه الحقبة، وللتملص من خطة "خريطة الطريق"، التي طرحتها إدارة بوش (2003)، اتجهت إسرائيل نحو طرح خطة الانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة، ونفذتها في العام 2005، ولكن على شكل تحويل قطاع غزة إلى سجن كبير. وبعد ذلك جاءت حكومة كاديما والعمل، على خلفية انقسامات وتحولات في حزبي الليكود والعمل، التي طرحت فكرة الانسحاب الاحادي من الضفة الغربية (بحسب الرؤى الاسرائيلية)، ثم ما لبثت أن طوت هذه الفكرة اثر اخفاق حرب لبنان (2006).

ومعلوم أن هذه الحكومة تلح في هذه الفترة للتوافق على مجرد اتفاق رفّ، ينتقص من الحقوق الفلسطينية (لاسيما بالنسبة لقضيتي اللاجئين والقدس)، ويشرع قضم اجزاء من أراضي الضفة، من دون ان يرتبط ذلك بتنفيذ إسرائيل لانسحابات واسعة في الأراضي المحتلة؛ بمعنى أن إسرائيل تريد موافقة الفلسطينيين على رؤيتها للتسوية، من دون ان تقدم لهم شيئا بالمقابل، ولو كان شيئا ناقصا، بدعوى عدم جاهزية اوضاعها الداخلية.

ومن تفحّص هذه التجربة التفاوضية يتضح لنا، أولا، أن النظام السياسي الإسرائيلي، الحزبي والتداولي، سهّل على إسرائيل تملصها من الاتفاقات الموقعة. وثانيا، بينت كم إن إسرائيل مجنونة بالتفاصيل التفاوضية، بحيث أنها استطاعت تحويل عملية التسوية إلى متاهة يصعب التحرك في دهاليزها، أو الخروج منها، ودليل ذلك أن هذه التسوية التي يفترض أنها تتطلب إنهاء الاحتلال للضفة والقطاع (نقطة وانتهى)، إذ بها تتطلب مئات من صفحات من اتفاقات ومذكرات وبروتوكولات، ومئات من المفاوضين، والجلسات التفاوضية الطويلة، الثنائية والمتعددة والدولية! وثالثا، بينت بأن إسرائيل تتعمد شراء الوقت، وأنها لا تيأس من توليد الاتفاق تلو الاتفاق، والمذكرة تلو الأخرى، والبروتوكول بعد البروتوكول، حول أي قضية، في حين أنها طوال ذلك تتصرف وكأن وجودها الاحتلالي باق إلى الأبد في هذه الأراضي، بدليل مضاعفة المستوطنين والمستوطنات منذ انطلاق عملية المفاوضات (مطلع التسعينيات)، في الضفة الغربية ولاسيما في منطقة القدس، وبدليل تغيير معالم هذه المناطق من خلال شق الطرق الالتفافية والأمنية وإقامة المعابر، على خلافها، وتشييد الجدار الفاصل، الذي يعزل المناطق الفلسطينية ويطوقها من كل جانب، ويفصل أي تواصل بينها.

ويمكن الاستنتاج من ما تقدم، وبحسب التجربة التفاوضية، بأن إسرائيل هي التي عوّقت هذه العملية، وتملصت من استحقاقاتها (أكثر بكثير من الفلسطينيين)، رغم كل الإجحاف الكامن فيها بالنسبة لحقوق الفلسطينيين؛ على خلاف الانطباع السائد، في الساحة العربية، بأن إسرائيل تلهث وراء التسوية، وأن هذه التسوية (على علاتها) مطلب إسرائيلي، ما يؤكد الطابع الملتبس والإشكالي للموقف الإسرائيلي، من هذه القضية.

التعليقات