31/10/2010 - 11:02

5 حزيران: تطرف النصر والإنهزام../ علي جرادات

-

5 حزيران: تطرف النصر والإنهزام../ علي جرادات

المعرفة هي تأثير الواقع في الفكر الانساني، وترتبط ارتباطا لا ينفصم بالممارسة، وهي متطورة، وتقاس صحتها بمدى اقترابها من الواقع، وتبلغ ذروتها عند تطابقها مع الواقع. أما عندما يحاول أصحاب المعرفة فرضها على الواقع، وكأنها الواقع، فذلك هو منبع الخرافة التي تشكل الطفولة الإنسانية.

وفي السياق، يبدو أن حرب 5 حزيران عام 1967 كمحطة في الصراع، قد لعبت دوراً أساسياً في تشكيل وعي الطفولة الإنسانية لدى غالبية القيادات الإسرائيلية والقيادات الرسمية العربية على حدِّ سواء. فقد قادت النتائج الحادة للحرب إلى تنامي الوعي الخرافي عن النفس والآخر عند طرفي الصراع. فبينما ساد الشعور بالذات المتخضمة لدى الطرف المنتصر، وقع الطرف المهزوم أسير شعور بالعجز. فغالبية القيادات الإسرائيلية المشحونة أصلاً بوعي عنصري خرافي، أصيبت ب"الثمالة" عندما هَزَمَ جيشُها ثلاثة جيوش عربية، وإستولى خلال ست ساعات على أراضٍ تفوق مساحتها ثلاثة أضعاف المساحة التي تم الإستيلاء عليها عام 1948. وبالمقابل، فقد قَلَبَت الهزيمةُ وعيَ عنترية "تجوع يا سمك القرش" إلى إستكانة أن "الجيش الإسرائيلي لا يقهر"، الخرافة التي سكنت وعي ولا وعي غالبية القيادات العربية.

كان يمكن للمرء أن يستوعب هذا المستوى المتطرف مِن الوعي الخرافي لدى قيادات طرفي الصراع، لو أن نتائج جولات الصراع اللاحقة برهنت على صحة ما أفرزته نتائج حرب عام 1967 مِن وعي خرافي لديهما. أما أن يستمر ذاك الوعي الخرافي رغم دحضه بالوقائع اللاحقة، فمسألة تنطوي على غرابة يصعب تفسيرها، وتعكس شكلاً نافراً مِن أشكال فرض الفكر على الواقع، وتحويل وعي حدث إستثنائي عارض إلى قانون ذهني عام مفروض على الواقع.

لقد تجلى وعي العجز العربي مِن خلال الدعوة إلى مقولة "إعرف عدوك"، تلك الدعوة التي، وإن كانت دعوة منطقية بشكل عام، غير أنها أستخدمت، ولا زالت لتضخيم الفارق بين حقائق الواقع والأوهام التي تشكلت إثر الإنتصار الإسرائيلي السريع في الحرب. وبالمقابل، ورغم وجود مراكز التفكير الإسرائيلية المختلفة إلا أن عقلية الإستعلاء ظلت هي القانون الناظم لمنهج تفكير القيادات الإسرائيلية، فقد شكلت هزيمة الجيوش العربية في حرب عام 1967 السماد الذي خَصَّبَ التوجهات اليمينية والعنصرية في المجتمع الإسرائيلي، وتجلى ذلك في بروز عصبة "غوش إيمونيم"، والتمهيد لصعود "الليكود" للحكم عام 1977 لأول مرة منذ قيام الدولة العبرية.

لم يتزحزح وعي القيادات الإسرائيلية قيد أنملة عن أن "جيشها لا يقهر"، تلك الخرافة التي جرى دحضها بالوقائع مثنى وثلاث ورباع، حيث لم ينجح الجيش الإسرائيلي، بل فشل أمام حفنة مِن المقاتلين الفلسطينيين وكتيبة مِن الجيش الأردني في معركة الكرامة عام 1968. وتلقى ضربةً قاسيةً في بداية حرب عام 1973. ولم يتمكن، برغم خذلان الحاضن القومي، مِن الحسم السريع لحربه ضد المقاومة الفلسطينية واللبنانية عام 1982، حين صمدت المقاومة أمام جبروت الجيش الإسرائيلي لمدة ثلاثة شهور، وكبدته خسائر فادحة، قادت إلى تحريك الشارع الإسرائيلي في تظاهرات إحتجاجية ضد الحرب، كانت هي الأوسع في تاريخ دولة إسرائيل. وثلمت الإنتفاضة الفلسطينية الأولى نصلَ الترسانة العسكرية الإسرائيلية وعنجهيتها، وأوقعتها في مأزقين: الأول هو إستطاعة الأعزل الفلسطيني جسر الهوة بين الجندي الإسرائيلي المدجج وإرادة التحرر لدى الإنسان الفلسطيني، والثاني هو إستحالة ضم الأراضي المحتلة عام 1967 لما لذلك مِن أثر على الطابع الديموغرافي لدولة إسرائيل، ما دفع رابين لتمني أن يبتلع البحر غزة وأن يُخرج الجيش الإسرائيلي مِن "عش الدبابير" في نابلس القديمة وجباليا حسب تعبيره. وتكلل دحض الخرافة بخروج باراك مدحوراً مِن جنوب لبنان بفعل نيران المقاومة اللبنانية، ليكون إنتصار المقاومة اللبنانية في تموز 2006، المطرقة التي كسرت جوزة الوعي الخرافي الإسرائيلي.

وبالمقابل، فإن الوعي الرسمي العربي لم يستلهم تلك الوقائع التي سطرها فعل عربي مقاوم، وواصل الإستغراق في ما أنتجته حرب عام 1967 مِن وعي خرافي عن النفس والآخر، ما قَيَّد مبادرته إلى تفعيل الإمكانيات العربية الواقعية لتجاوز الوعي الخرافي، والتوصل إلى الوعي الواقعي بالممكن في مقدرات أمة العرب الهائلة.

لقد تكامل الوعي الخرافي لدى طرفي الصراع بشكل موضوعي، وتلاقى برغم إختلاف المنطلقات في منع التوصل إلى أي تسوية سياسية للصراع، ففي حين غذى العجز العربي الشروط الإسرائيلية التعجيزية للتسوية السياسية، فقد غذت العنجهية الإسرائيلية الهبوط المستمر في الشروط العربية لهذه التسوية.

وينطوي على دلالة كبيرة أن يوزع بن غوريون على الصحف (بعد اسبوعين على حرب حزيران 1967) مشروعا يستعرض فيه بعض الافكار حول الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة والخارج، ويشمل ضم القدس وقطاع غزة بسكانه الاصليين دون سكان المخيمات، ويقترح فيه إنتخاب ممثلين لسكان الضفة الغربية (بدون القدس)، لتجري إسرائيل معهم مفاوضات حول الحكم الذاتي المرتبط باتفاق اقتصادي مع دولة اسرائيل، بحيث يكون له طريق على ميناء حيفا.

وينطوي على دلالة أكبر أن يقدم يغئال آلون (وزير العمل الاسرائيلي 1967) مشروعا محددا وتفصيليا للتسوية الاسرائيلية – الفلسطينية، وكان ذلك في تموز 1967، وهو المشروع الذي عُرف باسمه. ومع أنه كان وزيرا إلا انه لم يعرض مشروعه رسميا على مجلس الوزراء. واللافت أن كل مشاريع التسوية الإسرائيلية (منذئذ وحتى اليوم) تنطلق من نفس المنطلقات التي وضعها يغئال آلون، وهي:

1: أن الحروب تخلق واقعا سرعان ما يُعترف به، فلو أن إسرائيل سمحت لجيشها عام 1949 باحتلال كامل الضفة الغربية "لما كان يخطر ببال أحد الآن أن يدّعي ضد حق إسرائيل بالبقاء في المدينة القديمة او الخليل او نابلس".

2: "إذا كان لا بد من خلافات في الرأي بيننا وبين واشنطن بشأن مستقبل المناطق التي نحتفظ بها، فمن الافضل ان تنشب هذه الخلافات من خلال إعتراضهم على سياستنا، وليس نتيجة إعتراضنا على آراء متبلورة لديهم، لئلا تختلط مشكلة الهيبة في مجمل الإعتبارات".

3: "فكما أنه لا يمكن الإنتصار في الحرب بدون معارك، لا يمكن كذلك الإنتصار في نضالنا السياسي حول المناطق بدون فرض حقائق إستيطانية. فبما أن موازنات سياسية تفرض علينا أن لا نعلن عن تصريحات ضم مطلق، إلا أن عملية إستيطان واسعة النطاق لا تحتاج إلى تصريحات ضم".

4: "تثبيت الحدود الإسرائيلية مع الدول العربية المجاورة (مصر والاردن وسوريا) بحيث تكون حدوداً يسهل الدفاع عنها، وتحول دون تعاون الفلسطينيين (مستقبلا) مع تلك الدول من أجل اي عدوان على إسرائيل".

5: "عدم المس بحق الشعب اليهودي التاريخي في استيطان ارض اسرائيل".

وقد قال يغئال ألون في أول محاضرة بعد تسلمه وزارة المعارف والثقافة في مطلع 1970 "ولو كنت أشك أن التمسك بالسلام قد يضعف يقظتنا الأمنية وإستعداداتنا العسكرية، لكنت أتوصل حين ذاك الى إستنتاج مؤلم، يقضي بأنه لا مناص من التضحية بالعامل الإنساني الخلقي في سبيل الضرورات الأمنية": ضم أوسع مساحة ممكنة من الارض مع أقل عدد ممكن من السكان، بما يضمن الطابع اليهودي والديمقراطي لدولة إسرائيل، وإمكانية القبول النسبي خارج إسرائيل. اي من أجل قرار ضم أي منطقة يجب أن نأخذ بالإعتبار العوامل الديمغرافية والتاريخية والدينية والسياسية معاً وفي نفس الوقت".

ذلك يعني أن القيادات الإسرائيلية كانت وما زالت مسكونة بإمكانية تصفية القضية الفلسطينية، فيما ساعد العجزُ العربي عن تفعيل إمكانياته القياداتَ الإسرائيلية في تعنتها. وهذا وذاك لم يكن ليكون لولا تطرف النصر والإنهزام في حرب 5 حزيران 1967، وما قادت إليه مِن وعي خرافي لدى طرفي الصراع.

التعليقات