31/10/2010 - 11:02

90 عاماً من الانكسارات المتناسلة../ ماجد الشيخ*

90 عاماً من الانكسارات المتناسلة../ ماجد الشيخ*
من «وعد بلفور» إلى «وعد بوش»، و«التاريخ التحويلي» لهزائم مجتمعاتنا العربية، يحيل على نكسات مترامية الأطراف، على كلّ الأصعدة: العسكرية والتعليمية والتربوية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والفكرية والتنموية والتحديثية. كل هذه الأصعدة حوّلت حياتنا كلّها وبالتراكم البطيء من نكسة أو نكسات عابرة إلى هزائم مقيمة، تفعل فعلها وتمارس تأثيراتها الهائلة في مجرى حياتنا المعاصرة.

تسعون عاماً على الوعد الأوّل شهدنا في ثلثها الأوّل كارثة النكبة، وفي أثناء ثلثها الثاني كانت الهزيمة العسكرية الأولى (1967)، وفي ثلثها الأخير كان «وعد بوش» يسجّل شهادته الأثيرة بحقّ جزار صبرا وشاتيلا (آرييل شارون) الذي أُطلق عليه وصف «رجل السلام»، في الوقت نفسه الذي كانت الدولة الموعودة (الفلسطينية) تغرق في بحر من دم الشعب الموعود بإقامة مثل هذه الدولة.

ولئن كنّا نعيش اليوم على أبواب وعد جديد، هو في كل الأحوال لا يرقى إلى ذاك الوعد الذي سجّلته الإمبراطورية البريطانية يومها عبر رسالة وزير خارجيتها. «وعد بوش» الذي أراد صاحبه أن يبدأ في أواخر أيّام ولايته مفاوضات غير ملزمة، نتائجها غير ملزمة كذلك، رؤيتها غائمة ليست جلية ولا واضحة، منذ الآن حتى الوصول إلى أنابوليس التي تبدو الطريق إليها أيضاً غير واضحة البتّة، على أنّ طريق «وعد بوش» غير سالكة إلا في اتجاه «الغموض البنّاء» على ما درجت لغة الإمبراطورية في إطلاقها التسميات المتناقضة من قبيل الفوضى «الخلاقة» أو «البناءة» و«الاحتواء المزدوج»... تلك التي تكشف ازدواجية في المعايير «خلّاقة» في انحيازاتها الواضحة، كما هي «خلاقة» في اصطفافاتها الفاضحة.

من هنا راهنية السؤال الدائم: متى يستعيد الشعب الفلسطيني وطنه التاريخي من أجل أن يقيم فوق أرض هذا الوطن دولته الوطنية المستقلة؟ كيف يُسمح لهذا الشعب أن يقيم «دولة» له فوق جزء من أرض وطنه التاريخي، فيما يتشارك معه في الوطن عدو غاصب، يسعى إلى تحويل دولة الاستيطان الإحلالي إلى دولة لليهود، عنصرية فاشية لا دولة ديموقراطية لكلّ مواطنيها.

أربعون عاماً من معاصرتنا لهزيمة لا تني تستوطن ديارنا، وتقيم بين ظهرانينا، فاعلة في قصم ظهور شعوبنا ومجتمعاتنا كأقسى وأقصى ما يكون القصم: قصم كان بمثابة إعلاء لقيم التخلّف والاستبداد، وإفشاء لحال الخوف والرهبة من لدن أنظمة بيروقراطية بوليسية، سرعان ما استطاعت أن «تتكيّف» وروح الهزيمة، مستعيدة قوّة قهرها وغلبتها، في تجاوز شكلاني لحال الانتكاس أو «النكسة» التي أسبغتها وروّجت لها بعض دوائر الثقافة السياسية وبعض المثقّفين العرب.

هل الهزيمة وحدها هي التي حالت وتحول بيننا وبين الحداثة، أو هي التي فرضت وتفرض علينا تحديثاً هو الأقرب إلى الرثاثة؟
أربعون أو أكثر بالتأكيد، منذ بدأنا نقدّم إسهامات هزيمتنا للحداثة والمعاصرة، وذلك عبر جعلهما هدفاً لإصرار عجيب على التمسّك بتلابيب التخلّف وتغييب الرؤى الاستشرافية، واستبعاد الرؤى النقدية، في ظلّ استحضار كلّ ما يناقض العقل والعقلانية، ويحطّ من قدر الإرادة وقدرتها على إدارة شؤوننا العامّة، فإذا نحن قاصرون عن بلوغ الحكمة، هاربون من دروب الرشد، فاعلون في خلق نقمة وفتن التشظّي والتفتيت السياسي والمجتمعي، وأخيراً معادون للثقافة والفكر وكل منتجات الحضارة الإنسانية المشتركة.

أربعون عاماً كانت كافية كي تنهض اليابان من كبوة هزيمتها المرّة، ودمار القنابل النووية الأميركية وتقييدها بدستور سلمي وضعها تحت الحماية العسكرية الأميركية في ما يشبه استمرار الاحتلال. على رغم ذلك فإن الإرادة الحرّة وانتفاضها النابع من إرث الأمّة اليابانية التاريخية استطاعت أن تبني، بل أن تنجز حداثتها الخاصة بنكهة يابانية، في تجاوز حاد وإعلان قطيعة مع ماضيها الاستعماري، وتجاوزاً لهزيمتها العسكرية. وإذ تقتفي النمور الآسيوية بما فيها كوريا (شمالاً وجنوباً) خطوات اليابان نحو البناء الحداثي المنسجم وقدرة وتطلّعات هذه الأنظمة وشعوبها، فلأن إرادتها وإرادة شعوبها سبقت إرادات الآخرين في فرض نوع الحداثة التي تتطلّبها حلقة التطوّر الذاتي والموضوعي لتلك الدول - الأمم.

أمّا عندنا فإن هزيمتنا مقيمة، ما دام المشروع الغربي المتحقّق بأبشع ما تكون تحقّقات ما بعد الكولونيالية، والتحقّق الاستعماري المتواصل (الحفاظ على وجود إسرائيل)، والتحقّق الاستشراقي عبر أشكال الهيمنة والتبعية والإملاءات، كلّ هذا لا ينفكّ يساهم في سدّ الطريق أمام مشروعنا النهضوي والتنويري الحداثي الذي يساهم ويشارك في انسداده وعدم تحقّقه، قوى لا حصر لها محلياً، يحيلها التسلّط والاستبداد إلى قوى سلطوية، على رغم عدم امتلاكها أي سلطة، ولا هيمنة ولا نفوذ لها سوى بعض رأسمال رمزي يعمل على إحالة وإضافة رصيدها المادي والمعنوي موضوعياً، إلى جانب هيمنة ونفوذ قوى السلطة التقليدية المؤيّدة بقوّة الغلبة وغلبة القمع، وهي القوى الحاكمة في الدواخل الوطنية ولكن بامتياز تبعيتها للخارج.

إذاً، هي الهزيمة مستمرّة ومتواصلة، نراها في مرآة أنفسنا كشعوب مزّقتها الأحاديات الطائفية والمذهبية والفئوية على اختلافها، وكمجتمعات تمزّقها أحاديات السلطة الاستبدادية، وكسلطات تخشى التغيير والإصلاح، وبينها وبين الديموقراطية عداء من كره متأصّل في كل سلوكها وممارساتها السلطوية.

وفي الأربعين توشك روح الهزيمة أن تطيح المشروع الوطني الفلسطيني، أو تسجّل لتراجعه، لا عن منطلقات ريادته وأهدافه، بل عن أولى المنطلقات والأهداف والمبادئ التي يستحيل وجود الوطنية الفلسطينية الجامعة من دونها، علاوة على استمرارها الفاعل الرئيس الموحّد لكلّ مكوّنات الشعب، حيث توشك السلطة كرمز سيادة غير متحقّق أن تطيح وحدة هذه المكوّنات، في ظلّ التمنّي الجائر أن يشكّل الاحتلال عامل توحيد، بدل أن تكون السلطة عامل فرقة وانقسام وربما افتراق.

تسعون عاماً من الانكسارات المتناسلة، خمسون من النكسات، أربعون من الهزائم، وكأنها كانت بالأمس... لم تزل طريّة... هزائمنا تتكرّر، تكرّر ذاتها كل جيل، وكأنّنا أمام امتحان لا ينتهي إلا ليتجدّد. كلّ جيل يقدّم امتحانه من دون أن تتغير الأسئلة، أو يتغيّر تكرار الأجوبة. إنّها المحنة بأجلى ما تكون المحن، محنة أمّة تُقاد للذبح من دون أن تعترض أو تصدر آهاتها توجّعاً، بل استعذاباً للقتل أو التضحية، فأيّ جريمة أصلية ارتكبتها كي تستحقّ مثل هذا العقاب: أن تُقاد من هزيمة إلى هزيمة، وأن تنكسر أو تكسر إرادتها دورياً، وتكراراً بين أوهام نكسة أو نكسات لا تني تراكم انهياراتها كوابيس لا تنتهي.

حتى انتصاراتنا التكتيكية الصغرى، لم يجر البناء عليها، بل كتب لنا أن نبقى نراوح نكوصاً وقعوداً عن استكمال ما يمكن البناء عليه من مشروعنا العربي الموحَّد الوطني الديموقراطي التحديثي التحريري النهضوي. غياب هذا المشروع للأسف حوّل الانتصار التكتيكي ذاك، كما في حرب أكتوبر 1973 إلى هزيمة لم تزل تقيم بين ظهرانينا كأنها طازجة. وهي طازجة وآنية بمعنى أن حرب تموز عام 2006 قد أصابها ما أصاب تلك الحرب، بل كان اللؤم والخبث السلطوي العربي وبمشاركة النخب السلطوية والمالية العربية، من داخل السلطة ومن خارجها، مساهماً أوّلاً في التعميق من سابقة تلك الحرب، التي شارك فيها النظام الرسمي العربي إلى جانب الثقل الشعبي، الذي خذله ذاك النظام بتواطئه مع العدو، عبر تقديمه انتصارنا التكتيكي الأول في التاريخ العربي الحديث، بل والتضحية به لمصلحة ذاك العدو، وعبر انحدار النظام الرسمي العربي نحو الهشاشة، وصولاً إلى رثاثته التي أخرجته من كل موازين القوى التي باتت متهالكة، ولا يمكن ترميمها، بل المطلوب تغييرها وإصلاحها إصلاحاً جذرياً.

إنّ تغيير المعادلة الاستراتيجية في عالم متغيّر، أدّى ويؤدّي إلى إنتاج شكل جديد من الوعي بالهوية في ظل «صراع الهويات» الذي احتدم منذ أيلول 2001 والذي يوصف زوراً بأنه «صراع حضارات» حسب هانتنغتون الذي فهمت مقولته خطأ للأسف، وذلك عبر إنتاج هويات ضيقة محلية تشظّت بفعلها الهوية الوطنية والقومية الجامعة، إلى حدّ تحول فيه الصراع العربي - الصهيوني من المركزية إلى الهوامش المحلية والإقليمية، بحيث بات محصوراً في دروب وزواريب ضيقة، ضيّقت وضاقت معها سمات الشمول الوطني والقومي، وباتت سمات الهويات الأضيق هي الحاكمة ويُراد لها أن تحكمنا حكمها المبرم أو المطلق.

ذاك كان حزيرانهم/حزيراننا. أما تموزنا فهو بالتأكيد ما لا يليق بهم، فقد جاءهم بالنصر على طبق من ذهب فقدان وانكسار هيبة وقوة الردع الاسرائيلي، فأبوا مستكبرين أو مستصغرين إلا أن يرفضوه، وها هم يستخذون أمام أطباق من «تمر انتصاراتهم» الموهومة، كيف لا وهم النظام، هم حثالات السياسة ورثاثاتها، هم الطغمة التي لا تبحث في الدولة إلا عن سلطة تحقّق عبرها المزيد من مراكمة سطوتها وثرواتها، وفي الاقتصاد إلا عن إنماء هذه الثروات، وملء جيوبها ولو على حساب دماء وعرق الشعوب ومعاناتها وتضحياتها وانتصاراتها المسلوبة منها، الانتصارات التي تليق بها وبحقّها، لا بحقّ الخارجين عن وطنياتهم ومن صفوفها إلى العدم: عدم الانحراف والتحريف والزور والتزوير والحول والتحويل والصرف والتصريف، حيث تتحوّل الهزيمة إلى نكسة والنصر إلى هزيمة، ولا يبقى في سوح «الكفاح» الطغموي الانكساري المهزوم، سوى تلك الوجوه الكالحة للبزنس الذي انحطّوا أو نجحوا في تحويله إلى عنوان لمرحلة عولمية تماري أوهاماً إمبراطورية لا تني تحفر عميقاً دربها المفضي حتماً نحو الأفول.
"الأخبار"

التعليقات