31/10/2010 - 11:02

«عرقنة» الديمقراطية التوافقية/ جابر حبيب جابر

-

«عرقنة» الديمقراطية التوافقية/ جابر حبيب جابر
الهجوم الذي شنه رئيس الوزراء المالكي ضد الديمقراطية التوافقية، والذي انبرى قادة المكونات بالرد عليه، بقي حيوياً كون يلحظ أن الرئيس الطالباني لا يزال لا يفوت أي لقاء له، حتى وإن ابتعد موضوعه، إلا ويذكر بأهمية الديمقراطية التوافقية وأنها مرحلياً تمثل ضرورة لازمة العراق، لذا فأستطيع من ذلك أن أوجد وإن بصعوبة مشتركا بين الأطروحتين، وهو أن هذا الجدل لا يراد به اليوم بل الغد، ولكن لكل غده، فغد المالكي هو بعد الانتخابات القادمة التي لا يفصلنا عنها إلا سبعة شهور، في حين القائلين بالتوافقية فإنهم إذ لم يميلوا إلى رسوخها لكي لا يظهروا بأنهم يكرسون نموذجا للحكم صورته المتبناة في المنطقة هي ليست مثالية أو حتى ناجحة لتحتذى، فهم يرونها صالحة بل وضرورية حتى يتجاوز المجتمع العراقي عدم استقراره ويعبر المخاوف.

إذاً فلم التبكير إذ كان أول استحقاق عملي لإعادة النظر فيها هو بعد الانتخابات العامة مطلع العام القادم، المالكي الذي يرى بأنه ولكونه ابن تجربة تراكمت له لأنه أول من سيكمل دورة حكم بعد التغيير وواجه في أثنائها اختلالات هذه الديمقراطية وخبر قدرتها على شل وإعاقة التقدم، وإذا ما كانت الحاجة إليها لغرض طمأنة الشركاء فقد تحقق ما أمكن من ذلك ، إلا أن الاستمرار بها بات يمثل الضد لعملية الاستقرار السياسي، لذا لا بد من الانتهاء من التوافقية والمحاصصة، في حين أن خصومه يرون بأن هذا ميل للاستفراد بالسلطة، وأن الدعوة لحكم الأغلبية هي بقصد تهميش المكونات الأخرى في مجتمع منقسم إثنياً وثقافياً وطائفياً، يغيب عنه التجانس حيث إن الأقلية فيه لا سبيل لها لأن تتحول إلى أكثرية لتحكم إلا بنمو ديموغرافي متسارع.

وكما بين العالم ارنت ليبهارت فإن الديمقراطية التوافقية تقوم على أربعة عناصر، حكومة ائتلافية موسعة تضم حزب الأكثرية وغيره من الأحزاب، حق الفيتو المتبادل سواء للأكثرية أو الأقلية لتطمين المصالح الحيوية للأقلية من أن تُفرض عليها قرارات وفقا لقاعدة الأغلبية، وثالثا النسبية للتعيينات في الخدمة المدنية وفي توزيع الموارد وتخصيص الأموال العامة وأيضا كنظام انتخابي، حيث تستطيع بالتالي الجماعات أن تؤثر في القرارات وفقاً لثقلها العددي، وأخيراً الإدارة الذاتية والاستقلال لكل جماعة في إدارة شؤونها الداخلية.

حتى مع النقد الذي وجه للديمقراطية التوافقية، فمن غير الممكن ولا العملي ولا حتى الواقعي، على الأقل إلى حين، التحلل منها إنما المراد هو منع تغولها ومن أن تبتلع أي حكم فاعل وتعيق صنع القرارات وتخضعها لسلسلة من المساومات بما يشل حركة المجتمع، فضمانات التوافقية قائمة وثبتت جلها دستورياً بما لا يتيح الخروج عنها دون تعديل الدستور، فحق الفيتو منح لعدد من المستويات فلكل ثلاث محافظات الحق في قبول أو رفض الدستور أو أي تعديل له، والمستوى الثاني لمجلس الرئاسة الممثل للمكونات الثلاث الرئيسية والذي منح كل ممثل لها فيه حق الفيتو الذي سينتقل إلى مجلس الاتحاد بعد إنشائه، وأيضاً تجسد في إدارة كل مجموعة لنفسها مع ضمانة دستورية جعلت أقرب إلى الاستحالة إنقاص سلطات الأقاليم، كما تم الأخذ بقاعدة النسبية والتي ثبتت وجرى العمل فيها سواء للتوازن في تعيينات الوظيفة العامة أم بتوزيع الموارد أو بالأخذ بها كنظام انتخابي يوفر تمثيلاً عادلاً لكل المكونات مهما صغرت وبحسب حجمها.

إنما المستهدف في التغيير فقط هو اشتراط الحكومة أن تكون توافقية أي «تعريق» النظام التوافقي والذي تم قبل ذاك في منطقتنا «لبننته» حيث أثبتت تجربة السنين الماضية أن ذلك كان وصفة مثالية للشلل إذ أصبح الوزراء فيه مسؤولين أمام كتلهم وقادة مكوناتهم وليس أمام البرلمان أو رئيس الحكومة، والتي عليه باتت تقاد باتجاهات متنافرة وأحيانا متشاكسة، أهدرت فيها موارد هائلة لبلد كالعراق، حيث فرضت المحاصصة وزراء محدودي الكفاءة ضيعوا فرص الزمن والموارد، بل ونُزل بهذه التوافقية إلى كل المستويات القيادية الأدنى إلى وكلاء الوزراء والسفراء والمدراء والمستشارين فلم يكف 36 وزارة أوجدت ونصفها لا جدوى منه بغية إرضاء الكتل، فتم إيجاد وبإفراط هيئات مستقلة، ضعوا خطا تحت مستقلة، قاربت 14 هيئة تتكون كل منها من 7 إلى 11 من المفوضين ورئيس يتمتع أعضاؤها بامتيازات وكلاء وزارة ورئيسها بدرجة وزير.
لاحظ أنه بالنتيجة فإن ما يتصارعون عليه لا يزيد على ألفي وظيفة ومنصب، لا نفع للمواطن البسيط منها المشترك في التطلع لسد حاجاته الحياتية عبر حكومة فاعلة وليس غير، والذي من تبرمه بات يرتد للحكم الفردي القوي بعد أن سحقت آماله بالنظام الديمقراطي بسلسلة من الاسترضاءات والمساومات اللامنتهية الشالة والمجمدة لمفاصل الحياة.
بجانب أن الديمقراطية التوافقية يجب أن ننظر لها في نموذجها اللبناني وليس السويسري أو البلجيكي، للتشابه الحضاري وتناظر المكونات وتقارب المستوى الثقافي والاشتراك بنفس البيئة الإقليمية المحيطة، هذه التجربة التي أنتجت نظاماً معاقاً مع مديونية عالية وعطب في التنمية وحروب أهلية وساحة مفتوحة للتوكل على الغير في الصراعات، فديمقراطيتنا التوافقية بنسختها العربية باتت تكرس الطائفية، فبها يصبح البلد متكونا من كتل طائفية وليس من شعب، تعمل على تغييب مفهوم الأمة لصالح الجماعات، وبإعادتها لإنتاج الانغلاق الطائفي والاثني فإنها تصنف الفرد قسراً وتضعه في خانة مرغماً فيكون أسير ماضٍ لا متطلعا لمستقبل، من هنا يجب فهم الدعوة إلى الحد من التوافقية بأنها لا بقصد إلغاء الشريك الآخر بل لتؤسس لبيئة سياسية فاعلة، وهذه تتطلب بلا شك وجود سلطة سياسية مركزية قوية لتصحح الاختلالات السابقة.



(عضو "المجلس النواب العراقي الحالي ")

" جريدة الشرق الأوسط"

التعليقات