31/10/2010 - 11:02

أجندة تفاوضية بدون تفويض../ خليل شاهين

أجندة تفاوضية بدون تفويض../ خليل شاهين
* لا دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967.
* لا عودة للاجئين إلى الديار التي هجروا منها.
* لا انسحاب إسرائيليا كاملا من القدس الشرقية.

هذه ليست مجرد لاءات إسرائيلية، رغم أنها تبدو كذلك من حيث طبيعة صياغتها على شكل "لاءات". إنها المواقف التي أعلن بعضها مؤخرا الرئيس محمود عباس، وأغناها بمزيد من الشرح والتفصيل رئيس طاقم التفاوض الفلسطيني أحمد قريع، فيما بات يقرأ بقيتها، لاسيما بشأن اللاجئين والقدس، من مؤشرات السياسة التفاوضية الفلسطينية.

لكن برنامج منظمة التحرير الفلسطينية لا يقول ذلك، وقرارات المجالس الوطنية المتعاقبة، بما فيها الدورة الحادية والعشرون في غزة "تحت رعاية" الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، لا تقر ذلك، وتتمسك بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة الكاملة، وعاصمتها القدس، على الأراضي الفلسطينية التي احتلت في حزيران 1967، كما تؤكد أن القدس الشرقية هي أرض محتلة ينطبق عليها ما ينطبق على سائر الأراضي الفلسطينية المحتلة. إنها قاطعة في تأكيدها على قيام الدولة "على حدود" الرابع من حزيران، وليس حتى "ضمن" هذه الحدود.

وجاء في قرار حول مفاوضات الوضع النهائي اتخذه المجلس الوطني في آخر دوراته (الحادية والعشرون): "إن المجلس الوطني الذي وافق على اتفاق إعلان المبادئ في حينه لفتح الطريق أمام عملية السلام يؤكد أن المفاوضات القادمة لحل قضايا الوضع النهائي، وهي القدس والمستوطنات واللاجئون والحدود والعلاقات مع الجوار والسيادة والمياه، يجب أن تقوم على أساس التطبيق التام لقراري مجلس الأمن 242 ، 338 ولقرارات الشرعية الدولية الخاصة بقضية فلسطين، وعلى الانسحاب الإسرائيلي من كامل أرض فلسطين المحتلة في عام 1967، وتأكيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بحرية وإقامة دولته المستقلة والتمتع بالسيادة الكاملة على أرض الوطن".

وبذلك، فإن برنامج المنظمة ذائع الصيت (بغض النظر عن مدى صوابيته)، والمعروف بأسماء أخرى مثل "البرنامج الوطني"، أو "برنامج الإجماع الفلسطيني"، أو "برنامج الشرعية الفلسطينية"، أو "الثوابت الوطنية"، يؤكد أيضا على ركنين أساسيين إلى جانب إقامة الدولة، هما عودة اللاجئين إلى الديار التي هجروا منها وفق القرارين 194 و181، وليس إلى "أراضي الدولة الفلسطينية"، وضمان ممارسة الشعب الفلسطيني (كل الشعب وليس شعب الضفة والقطاع) لحقه في تقرير المصير.

أما البرنامج الانتخابي الذي انتخب الرئيس عباس نفسه على أساسه، فينص على ما يلي: " نضالنا مستمر وسيتواصل لنيل حقوقنا الوطنية الثابتة كما أقرتها أطرنا ومؤسساتنا لإنهاء الاحتلال عن جميع الأراضي الفلسطينية العام 67 وإقامة دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس الشريف عليها، وتحقيق حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين، وفق القرار 194 وعلى أساس قرارات قمة بيروت عام 2002".

وفي السياق ذاته، تتمسك حركة فتح ببرنامج منظمة التحرير، بل واعتبرته ـ ولا تزال ـ شرطا لاستيعاب حركة حماس في إطار منظمة التحرير، ولأي حوار مع "حماس" منذ فوزها في الانتخابات التشريعية الثانية. وقد أكد البرنامج الذي خاضت قائمة "فتح" هذه الانتخابات على أساسه التمسك الحازم بالنضال لإقامة الدولة المستقلة وفق المرجعيات سالفة الذكر.

فما الجديد إذن؟

* منظمة التحرير لم تعقد دورة جديدة للمجلس الوطني لتقر الهبوط بسقف برنامجها الوطني، أو لتدخل تعديلات على "حدود" الدولة، أو لتشطب حق عودة اللاجئين إلى الديار التي هجروا منها، أو لتلغي حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، أو حتى لتعيد "صياغة" وثيقة إعلان الاستقلال. كما أن اللجنة التنفيذية للمنظمة "لا تزال" تفوض رئيسها بالتفاوض وفقا لما يعرف بالثوابت الوطنية.

* الرئيس عباس لا يزال يستكمل ولايته الرئاسية التي انتخب لأجلها على أساس برنامج محدد، ولم تجر بعد انتخابات جديدة يطرح فيها تعديلات على برنامجه السابق.

* حركة فتح لم تعقد مؤتمرا عاما بعد ليحدث تعديلا في برنامجها السياسي، كما أن كتلتها في المجلس التشريعي لا تزال تلتزم بالبرنامج الذي منحها ناخبوها أصواتهم على أساسه.

والحال هكذا، ما الذي تغير: المنظمة، "فتح"، أم الرئيس؟

الجديد يتمثل في وجود برنامج بديل للرئيس عباس لا يلتزم بما يعرف بالثوابت الوطنية كما أقرتها أعلى هيئات منظمة التحرير الفلسطينية. أي أن رئيس منظمة التحرير لا يحترم برنامجها وهو الذي طالما طالب الآخرين باحترامه.

والجديد أن الرئيس عباس لا يلتزم بالبرنامج الذي طرحه بنفسه عشية الانتخابات الرئاسية، وانتخب رئيسا للسلطة الفلسطينية على أساسه. أي أن الرئيس لا يحترم ناخبيه، ولا يمثل وجهة نظرهم، أو على الأقل معظمهم، في سياق عملية المفاوضات، ولا يبدو أنه فوض أصلا من أحد بالتفاوض على حل نهائي لا يضمن قيام الدولة على خط الرابع من حزيران، ولا يضمن عودة اللاجئين إلى الديار التي هجروا منها، ناهيك عن مسألة حق تقرير المصير.

والجديد كذلك، أن الرئيس لا يلتزم ببرنامج حركة فتح التي يتزعمها، ولا يبدو أن برنامجه التفاوضي ينسجم مع البرنامج السياسي للحركة كما يعرفه أعضاؤها وأنصارها.

وفي تشخيص لهذا "الجديد" لخصه في مقالة له تحت عنوان "الحركة التصحيحية"، قال الكاتب زكريا محمد أن "الحركة الفلسطينية تقاد عبر طريق جديد، أو (طريق ثالث) إذا شئتم، لم نعهده من قبل. طريق لم يعلن عن نفسه رسميا كطريق جديد، رغم أنه طريق جديد فعلا، ورغم أن (الطريق الثالث) للأستاذ سلام فياض، رئيس الحكومة، يقع ضمن هذا الجديد وفي مركزه.. هذا الطريق مراجعة لطريق الرئيس الراحل ياسر عرفات.. وبودي أن أقول أن هذه المراجعة تكاد تكون تامة.. وهي مراجعة تتم باسم حركة فتح، وتتغطى حتى بياسر عرفات نفسه. لا أحد يريد أن يعترف بذلك، لأن الاعتراف سيؤدي لتعقيدات لأصحاب هذا الطريق (هم) في غنى عنها".

نعم، نحن أمام سياسة غير معلنة هبطت بسقف "البرنامج الوطني"، رغم أنها تدعي التمسك به، وهي سياسة اصطدمت أصلا بعجز السياسة التفاوضية الفلسطينية عن تحقيق هذا البرنامج فاختارت "تعديله" من دون أن تصادق منظمة التحرير على استبدال "الثوابت الوطنية" بأخرى. بل يحاول المفاوض الفلسطيني أن "يقنع" الفلسطينيين أن الدولة التي ينشدها، وفق حدود غير حدود حزيران 67، وتبادل أراض غير واضح المعالم، مع بقاء الكتل الاستيطانية، ومعظم مسار الجدار الراهن، وعاصمة من دون سيادة فلسطينية على جميع أجزائها المحتلة، ومع عودة اللاجئين إليها لا إلى ديارهم، ومع شطب حق تقرير المصير، وكذلك إحالة المقاومة على التقاعد، هي تطبيق "أمين" لبرنامج الإجماع الوطني، وربما تمسك "خلاق" بالثوابت الوطنية.

نحن أمام برنامج جديد تجري محاولة تمريره تحت وطأة الضغوط الإسرائيلية والأميركية، ومتغيرات الأمر الواقع المفروض إسرائيليا بالاستيطان والتهويد والجدار والطرق الالتفافية والحواجز العسكرية، وتحت تأثير الاختناق المتزايد بفعل الانقسام السياسي والجغرافي الداخلي.

ومثل هذا البرنامج يقف من ورائه تحالف جديد بدأ بالتشكل قبل اغتيال الرئيس عرفات، وتبلور بوضوح في المرحلة اللاحقة، لاسيما منذ ترسخ واقع الانقسام بسيطرة حركة حماس على قطاع غزة. إنه تحالف بين "مثلث" السياسة ورأس المال والأمن في الضفة الغربية أساسا؛ بين من يتحركون سياسيا لضمان تدفق الأموال التي يعد بها مندوب اللجنة الرباعية توني بلير، ومن يستعدون لاستثمارها اقتصاديا من شركات لا تنشد سوى الاستقرار الاستثماري والأمني، بغض النظر زال الاحتلال أم بقي.

وهذا التحالف لم يتخلص فقط، من عبء حركة حماس منذ سيطرتها على قطاع غزة، بل وتخلص من عبء حركة فتح منذ إقصائها عن صنع القرار على مستوى الحكم (حكومة فياض) والتفاوض، فضلا عن إقصائها عن عملية التشريع في ضوء شلل المجلس التشريعي، وحصر عملية صنع القرار في إطار "ثنائية المقاطعة ورئاسة الوزراء". كما تخلص من عبء "المعارضة" منذ بات الالتباس السمة المميزة لدورها، فهي معارضة لحركة حماس في غزة، و"موحدة" في إطار منظمة التحرير على قاعدة "انقسام الوطن" بشكل يحول دون اتخاذها مواقف عملية تسهم في بلورة دورها المعارض المؤثر في مواجهة الانقسام، وكذلك المخاطر التي ينطوي عليها الاندفاع نحو "مؤتمر الخريف" من دون مرجعية "برنامج الإجماع الوطني" أو قرارات الشرعية الدولية.

هكذا يمضي تحالف السياسة والمال الجديد في فرض أجندته السياسية والاقتصادية والأمنية على جدول الأعمال الوطني، بالاستفادة من واقع الانقسام الفلسطيني لا في مواجهته، ومن العجز الداخلي عن توليد آليات عمل، لاسيما على مستوى حركة فتح وفصائل منظمة التحرير، قادرة على أن تكبح أي توجه نحو الهبوط بسقف ما يعرف باسم "المشروع الوطني".

وفي وضع كهذا، حيث "الصمت" سلاح من تم إقصاؤهم عن صنع قرار الحكم والتفاوض، تحت تهديد الاتهام بالاصطفاف إلى جانب "انقلاب حماس"، يصبح الخروج عن برنامج منظمة التحرير وحتى برنامج الرئيس الانتخابي، "أمرا عاديا" لا يكاد يلحظه المشتغلون بالسياسة الوطنية، فيما يتواصل التفاوض وفق أجندة تفتقر إلى أهم عنصر يمنحها الشرعية، وهو غياب التفويض من الشعب الفلسطيني .

التعليقات