31/10/2010 - 11:02

أمريكا تعاقب فلسطين لارتكابها جريمة الديمقراطية/ مطاع صفدي

أمريكا تعاقب فلسطين لارتكابها جريمة الديمقراطية/ مطاع صفدي
بوش في خطابه الأخير الموجه الى شعبه عن حالة البلاد يقول بالفم الملآن: إن الإنسحاب من العراق سيعرض حلفاءه وأصدقاءه للقتل والإعتقال. هكذا إذن أمسى سبب الإحتلال هو الخوف على الحلفاء والعملاء. كأنما جيش أكبر دولة في العالم لم تعد له من مهمة سوى حماية الأتباع المنزرعين فيما وراء البحار. ذلك اعتراف غير مباشر بأن ما يسمى بالعملية السياسية القائمة اليوم في بغداد برعاية الإحتلال، لا جذور لها في المجتمع الذي من المفترض أن تقوده وتتحكم في شؤونه وترسم له مصيره. إنها عملية مرتهنة مقدماً ببقاء الغزو الأجنبي، الذي بدوره يطور سلطته الى شكل من الاستعمار التقليدي، بحيث تغدو الدولة العراقية محكومة بسلطة ازدواجية، فمن جهة يظهر لها وجه حكومة أهلية يقتصر نشاطها على تصريف الشؤون الإدارية للوزارات، وفي الوقت عينه تمنع الاحتكاك اليومي بين المحتل والشعب، وتضفي ثمة مشروعية زائفة على الوجه الآخر الذي يختفي وراءها، ويشكل سلطة الحكم الإستعماري الفعلية. تلك هي الصيغة التي تنوي إدارة بوش تحقيقها منذ البداية، كغاية مرحلية على طريق الاستراتيجية الأشمل لمشروع الإمبراطورية الهادفة الى السيطرة على إنسانية القرن الواحد والعشرين، وجعله قرناً أمريكياً خالصاً، ومن المدخل العربي الإسلامي دائماً!

لكن استقرار غزو العراق في شكل مستحدث من الإستعمار التقليدي، لا يمكن أن يطمئن الى مستقبله إلا مع تحول العراق الى مركز انطلاق، ومعْبر دائم لإحكام السيطرة السياسية والإقتصادية على كل الوطن العربي، تحقيقاً للإعلان عن قيام (الشرق الأوسط الكبير). ليس هناك من مشروع إمبراطوري إلا بشرق أوسط أمريكي. وهو في الحقيقة شرق أوسط نفطي واستراتيجي. ومن يسيطر عليه يكسب معركة التملك من شريان التفوق الإقتصادي على بقية العالم. وقد اتهم بوش، وفي خطابه الأخير، الشعب الأمريكي بأنه مدمن على النفط. لكنه وعده أن يحرره من الإدمان السياسوي الآخر المضمر في التعلق بالشرق الأوسط، عندما سيتمكن علماء أمريكا من اكتشاف الطاقة البديلة. محدداً تاريخاً للخلاص من هذا الضرب من الإدمان في عام 2025. تلك هي ثقة غيبية لا برهان عليها إلا هذا التأكيد على أولوية المشروع الشرق أوسطي بالنسبة لعقيدة بوش، من ناحية، ومن ناحية اخرى يبشر بوش شعبه والعرب والعالم أن غزو العراق باقٍ عشرين عاماً أيضاً، أو حتى ذلك الحين الذي ستقع فيه معجزة الكشف عن الطاقة البديلة!

ما ينبغي أن يفهمه العربي مجدداً، ومع هذا الخطاب الأخير الغاص برموز المعجزات والنبوءات السحرية، هو أن أمريكا البوشية اليوم، وربما الى ما بعد البوشية، عازمة على ممارسة فعلية لسياسة حرب باردة جديدة، ثنائية القطبية، تشكل هي قطبها الأول، ويشكل النفط قطبها الثاني. لكن وطن النفط مأهول كذلك بالإنسان، بشعوب العرب والإسلام وحضارتهم المستديمة الإيقاع بالقوة والضعف، بالتفوق والتخلف، لكنها المولّدة في مختلف أحوالها، لشتى صنوف الممانعة والتطابق مع هويتها بعد كل مفارقة أو ابتعاد عنها. فالحرب الباردة التي لا تعفّ عن إثارة حروب حارة هنا وهناك، أمست قائمة عملياً تحت تلك التسمية المضللة: الحرب على الإرهاب. فلقد تم افتراض أن الإرهاب يعم العالم كله. وبذلك يصير هذا (العالم كله) في مرتبة العدو اللانهائي لأمريكا الإمبراطورية، مثلما تحتم هي كذلك على نفسها صياغة كيانها كدولة الحرب الدائمة. فاختراع العدو صار حرفة التسويغ التقليدي لعسكرة السياسة وتوجيهها ضد كل دولة أو شعب يقف حجر عثرة في طريق استراتيجية الهيمنة غير المحدودة المكان أو الزمان. لنتذكر المظاهرات المليونية وأشباهها التي شاركت فيها معظم مجتمعات المعمورة ضد غزو العراق. ثمة نوع من رد الفعل الغريزي والإحساس العفوي لدى هذه المعارضة الكونية بأن الغزو هو عدوان على أخلاق الإنسانية وقيمها الطبيعية. هذا يثبت على الأقل نجاح الأمركة بأن تجعل من نفسها عدوة العالم.

ومع ذلك فالغزو وقع واستمر واستشرت تداعياته في أوسع محيط حوله. وكان على العراق الجريح الذي لا يزال يدمره الإحتلال، ألا يستسلم لمصير الضحية المنتهية. اخترع مقاومته سريعاً التي بدورها أحالت تواجد الغزاة الى ما يشبه الإقامة في الجحيم. هكذا دخل العراق والمنطقة معه الى حال من التسابق بين أن يستوطنه الاحتلال وتتفشى أوبئته وسمومه حوله، وبين أن يكتشف كلّ قطر مهدّد نوع مقاومته المطلوبة والمنتظرة. بالمقابل أصبحت السيطرة الأمريكية على الشرق الأوسط ترادف الديمقراطية في الخطاب البوشي، وكأنها حكم مبرم يراد منه معاقبة الشعوب أكثر من كونه تهديداً للأنظمة الحاكمة الفاسدة، صار على المقاوَمات العربية القديمة والآتية أن تبرّئ الديمقراطية من وصمة الاشتباه بكونها الأداة الجديدة للهيمنة، والقناع الدعاوي لوجه الإستعمار الإمبراطوري، كبديل عن ادعاء رسالة الإنسان الأبيض شعار الاستعمار الأوروبي منذ القرن التاسع عشر.

حين تأتي ديمقراطية شعبية سليمة بفئة المواطنين المختارين من قبل جماهيرهم، ينقلب ضدها ودفعة واحدة هذا (الغرب) الذي يسمي نفسه العالم الحر والأمين على تراث الحرية والديمقراطية. إن غضبة أمريكا وأوروبا (الرسمية) دفعة واحدة على المفاجأة الفلسطينية، وطريقتها الشعبية المباشرة في ممارسة الديمقراطية، تكشف أقنعة النفاق الغربي كلها ليس تجاه الرأي العام العربي فقط الذي لا يملّ بوش وأبواقه المحلية من محاولة خداعه عبثاً باصطلاحات الدمقرطة وأحلامها الكاذبة، بل تحت بصر وسمع المراقبين الدوليين من أهل الثقافة والسياسة والريادة الفكرية. إذ يقدم الحدث التشريعي الفلسطيني الإستثنائي، ومحاولة إحباطه أمريكياً إسرائيلياً، يقدم مؤونة برهانية حيّة الى حلقات النقاش والجدل العالمي، المستعر حول الليبرالية الجديدة، كأحدث إيديولوجيا طامحة الى احتكار قيادة المرحلة الراهنة من المتغيرات الإجتماعية والسياسية، إنطلاقاً من العالم الثالث، وخاصةً من قارة العرب والإسلام.

فالديمقراطية، المسموح بها أمريكياً في هذه القارة، هي العملية التشريعية ظاهرياً، التي تأتي الى الحكم فقط بحلفاء، بل بأعوان واشنطن وأجهزتها الإستخبارية تحديداً، ومعهم تلك الفئات المبعثرة من أشباه المثقفين الرافعين لأعلام الليبرالية، والمرددين كالببغاوات لألفاظ الحرية والعدالة، في الوقت الذي تُنتزع من مجتمعاتهم البائسة أبسط ما كانت اكتسبته، بنضالاتها وتضحياتها، من شروط استقلالها السياسي والإقتصادي، الاولية، تحت وطأة الانفتاح، بل الاستسلام للعولمة المتوحشة.

هكذا لم يعد يتورع الغرب بجناحيه الأمريكي والأوروبي عن إخضاع الفلسطينيين، الشعب الضحية المستديمة، لأوقح عملية ابتزاز سياسي بل حياتي، تطالبهم، وباسم القانون ومجتمعه الدولي، بالتخلي عن آخر حقوقهم في الدفاع عن مجرد وجودهم في أصغر الشتات من وطنهم الأصلي، وذلك لقاء حفنةٍ من سلطة هزيلة قد تُمنح لبعض رموز المقاومة المتمسكة ببقايا تلك الحقوق والشتات. وإلا فإن الغرب سيلجأ الى قطع (عطاياه) المالية، ويوقف دعمه لمشاريع إنمائية. فالحظر أو التحريم السياسي إذن لا يقع فقط على حماس وحدها، بل على أهداف الشعب الفلسطيني الأصلية نفسها التي، ينبغي القول إنّ حماس لم تربح الإنتخابات إلاّ على أساس تمسكها بها، بينما تخلي أو تنازل عنها الآخرون، وتحديداً من بعض شيوخ (فتح) وعُمدائها التاريخيين.

ما يريد سادة الإبتزاز والترهيب أن يذيعوه على الملأ، هو أنهم هم أصحاب الأمر والنهي، هم الناخبون الحقيقيون وليست ديمقراطية الشعب. هم الذين يعينون أو يُقيلون حكام فلسطين. والذريعة الوحيدة التي يتشبثون بها هي الخوف من وصول (الإسلاميين) الى مراكز القرار السياسي. فالإسلام السياسي هو المتهم إذن. في حين أن نجاح الحركات الإسلامية بصورة عامة، وليست حماس وحدها، في اكتساب جماهير مجتمعها المضطهدة، لم يتحقق إلا على أساس تبنيها أيديولوجياً واجتماعياً لذات الأهداف التحررية التي حملتها من قبلها ولا تزال، مختلف التيارات القومية وبعض اليسارية. فليس الخطاب الإسلامي السياسي سوى الطبعة الأخيرة للتعبير عن تلك الأهداف التي تُعادل فطرة الإنسان العربي والإسلامي طيلة تاريخه.

بالمقابل لا تجد أمريكا بوش ثمة إيديولوجيا تعارض بها ثقافة الممانعة والمقاومة ضد طغيانها الهمجي، سوى ديمقراطية هذه الليبرالية الجديدة التي هي أحدث إخراج دعاوي عولمي لنفاق الرأسمالية، في لحظة الإنفلات حتى من خطابها التقليدي في ازدواجية المعايير، واعتماد منطق القوة القاهرة وحدها، الحارسة والداعمة لعربدة أشكال الطغيان الجنوني، وشراكته الإجرامية مع أوسع شبكات اللصوصية المعممة، والمعروفة في تاريخ الفساد البشري.

التعليقات