31/10/2010 - 11:02

أميركا: أنقول مرحباً بك في عالمنا النامي؟../ جميل مطر*

أميركا: أنقول مرحباً بك في عالمنا النامي؟../ جميل مطر*
ثلاثة أسابيع أو أربعة غيّرت أميركا وجعلتها موضوعاً لسخرية الساخرين وشماتة الشامتين وانتقادات الغاضبين من الأغنياء والمحرومين، وبخاصة من الأميركيين. أضف إلى كل هؤلاء صنّاع الرأي والاقتصاديين الذين بالغوا في تضخيم سقوط السوق المالي وشوّهوا صورة الولايات المتحدة. كدت من كثرة التعليقات المتشائمة، والواقعية أحيانا التي قرأتها، أتصور أميركا الدولة الأعظم في العالم وقد صارت تشبه حال وول ستريت الشارع المالي الأعظم، أتخيل مدى انطباق كلمات شاعر أميركي مغمور على حالتيهما. يقول الشاعر:
تعودت أن احكم العالم بكلمة مني تهيج البحار...
اليوم أنام وحيداً... وفي الصباح أكنس الشوارع التي كنت ذات يوم أملكها.

لهؤلاء وغيرهم أجد العذر. فالأسئلة التي فجّرتها الأزمة المالية لا تجد إجابات شافية. ماذا سيحدث للنظام الاقتصادي العالمي، ولقطاع المصارف الاستثمارية، وللنظام الرأسمالي؟ ما هو مصير الخصخصة بعد أن تدخّلت الدولة الرأسمالية الأعظم على هذا النحو وبهذه الضخامة وبعد أن قررت تأميم عدد من المشروعات المالية؟ ماذا سيحدث للطبقة المالية التي استطاعت في ظرف عقود قليلة التحكم في السياسة والاقتصاد والتطور الاجتماعي في عدد كبير من دول العالم ومنها مصر ومعظم الدول العربية على سبيل المثال؟

هل ستعود دول بعينها إلى العزلة وبناء الذات بعيداً عن التقلبات المالية الدولية؟ وهل ستكون الهند الدولة الرائدة في هذا المجال، أم أنها مع غيرها ستبطئ مع الصين من سرعة زحفها الرأسمالي؟ ماذا سيحدث لصناعة النسيج والملابس الجاهزة في مصر بعد أن ارتبط هذا القطاع بإسرائيل والولايات المتحدة، وما هو مصير هذه الصناعة في جنوب آسيا التي تصدّر إلى الولايات المتحدة ثلثي احتياجاتها؟

ماذا سيفعل الفقراء في أميركا وخارج أميركا للتعبير عن غضبهم؟ هل سيقولون إنه عندما ألمّت بهم المصائب لم تلجأ الولايات المتحدة أو الدول الغنية الأخرى إلى إجراءات كتلك التي اتخذتها عندما ألمّت الأزمة بـ «وول ستريت»؟.

سيسألون ماذا فعلت أميركا لضحايا إعصار كاترينا؟ وماذا فعلت أميركا والعالم لشعوب الكاريبي خلال إعصار أيك أو بعده، أو لشعوب المحيط الهندي والبحر العربي خلال تسونامي، غير الحملات الاعلانية وزيارات نجوم السياسة والمجتمع؟ قرأت ما نقلته صحيفة أميركية عن أحد المواطنين الأميركيين من الذين فقدوا مساكنهم في أزمة العقارات الأخيرة قوله «أخرجوني من مسكني. وأعيش الآن في الشارع. أما هؤلاء الذين تسببوا في إخراجي فيجري الآن دعمهم وحلّ أزمتهم، وبقيت أنا أعيش في الشارع من دون مأوى».

السائد الآن في كتابات كثيرة أن أميركا ربما نجحت في جمع مئات البلايين لإنقاذ شركات مفلسة ولكن على حساب الرأسمالية التي هي أحد أهم أقداسها، تماماً كما نجحت من قبل في دعم حكومات استبدادية لتحقق مصالح واقعية وذاتية ولكن على حساب الديموقراطية التي هي قدس آخر من أقداسها.

لقد نشرت أميركا خلال السنوات الماضية ثقافة «وول ستريت» وجعلتها في حالات كثيرة شرطاً من شروط الاندماج في السوق العالمية. ونجحت في سعيها حتى صارت «ثقافة المال» ثقافة عالمية وثقافة كل الأجيال. ففي أميركا أصبح العمل في سوق المال أو إدارة المشروعات الاستثمارية والمصارف حلم أكفأ شباب الجامعات، وفي بلادنا لم يصبح الحلم أن يتخرّج الشاب ضابطاً أو مهندساً أو طبيباً أو باحثاً في رحاب العلم بل أن يتخرّج بائعاً أو سمساراً في سوق المال.

ولم يكن خافياً منذ سنوات أن هذه الثقافة المالية احتوت على مخاطر شديدة للأمم كافة ولأميركا خاصة. وقد حذّر محافظ البنك المركزي الأميركي ألان غرينسبان، حين قال في العام 2002 وفي أعقاب أزمة فساد شركتي إنرون وغلوبال كروسينغ إن «الرأسمالية لم تعد تعمل وهناك عملية تجري لإفساد النظام المالي». وقال آخرون إن سقوط الشركتين في 2002 كان إنذارا لم تنتبه إليه الطبقة السياسية الحاكمة في أميركا، تماماً كما لم تنتبه الى محاولة تفجير مركز التجارة العالمي في العام 1993 كإنذار لتفجيرات أخطر مقبلة.

عشنا عقوداً في ظل ثقافة سياسية - اقتصادية - اجتماعية تفرض رجال المال والأعمال أسياداً على الشعوب. هكذا قدّمهم بعد أن روّج لهم السيد شواب عن طريق اجتماعات دافوس الشهيرة، وهكذا تصرفوا في مجتمعات كثيرة حين وضعوا مبادئ أخلاقية جديدة تقوم على أساس أن للمكاسب الخاصة أسبقية على المصلحة العامة. هكذا نشأت منظومة حكم جديدة ثقافتها تعتمد على عبادتين: عبادة المال وعبادة الفرد، ولم نكن غافلين، ولم يكونوا في الغرب وأميركا تحديداً غافلين. فقد تعبت الأقلام من التحذير من أن العولمة قدمت أفضل ما عندها وبدأت تقدّم أسوأ ما فيها، وأن بعض هذه الإفرازات السيئة تسبب فعلاً ضرراً شديداً للاقتصاد الأميركي ذاته. وتعبت الأقلام من التحذير من عواقب اتساع الفجوة في المداخيل، وها هي أقلام جديدة تسطّر مئات المقالات في صحف برلين وباريس وفرانكفورت ولندن ومدن كبرى في الولايات المتحدة تلقي بجانب من المسؤولية عما وقع على البذخ غير المعقول في إنفاق أفراد الطبقة المالية وبخاصة كبار المديرين ورؤساء مجالس إدارة المصارف الاستثمارية والشركات الكبرى، وتحذّر من أن هذه الظاهرة لم تكن مقبولة أخلاقياً والآن ليست مقبولة اقتصادياً وسياسياً.

وأقبل اقتصاديون لا شبهة في ولائهم للرأسمالية، يؤكدون أنهم تجاهلوا انتقادات صارخة اتهمت عصر حرية التجارة بأنه وبامتياز عصر التجارة غير العادلة. ففي أوقات مضت، بما فيها زمن الاستعمار، لم تصل التجارة الدولية إلى ما وصلت إليه في عصرنا الراهن من استغلال وتحكم من جانب الدول الغنية بمصالح شعوب أفريقيا وأميركا اللاتينية بشكل خاص.
وبما أننا نعيش مرحلة تتداخل فيها الاقتصادات وترتبط مصائر البشر ببعضها البعض ارتباطاً وثيقاً، يصبح مفهوماً اهتمام العالم كافة بمستقبل الدولة صاحبة الاقتصاد الأعظم والمهيمنة بشكل أو بآخر على مصادر القوة والطاقة، ويصبح الاستفسار عما يمكن أن يحدث لأميركا استفساراً مشروعاً، بل لعلّه السؤال الأهم بين كل الأسئلة التي يطرحها الآن الصادقون والشامتون والساخرون والسياسيون من كل فجّ.

يتساءلون إن كان صحيحا أن الأزمة كشفت عن خبايا وحقائق أميركية لم تكن معروفة على نطاق واسع في الولايات المتحدة وغير معروفة على الإطلاق خارج الولايات المتحدة. نعرف ويعرف كل الناس أن أميركا في أزمة لم تشهد هي أو غيرها من الدول المتقدمة مثيلاً لها منذ أزمة الكساد العظيم في 1929، ونعرف في الوقت نفسه أن آسيا بجنوبها وشرقها وبعض غربها كانت تعيش مرحلة انتعاش ورواج غير مسبوقة حين كان المسؤولون الأميركيون يخفون بوادر الكساد في بلادهم.

ونعرف ثانياً أن ثقة المواطنين الأميركيين في الرأسمالية، العقيدة الأمّ، اهتزت، ولا بديل لها مطروحاً على الشعب الأميركي على الأقل لعقود طويلة مقبلة. لن ينفع مع هؤلاء المواطنين القول المعتاد إن الرأسمالية من دون فشل كالدّين من دون خطيئة. فقد نشأ الأميركيون على منظومة أخلاقية وأيديولوجية لا تعترف بفشل كلي أو جزئي يصيب الرأسمالية وإن اعترفوا بأن الخطيئة جائزة ومحتمل وقوعها وأن لا دين من دون خطيئة.

نعرف ثالثاً أن ضباباً كثيفاً أحاط منذ بداية الأزمة الراهنة بشعار جليل، مثل شعار أميركا: المدينة فوق التلّ، وشعارات الاستثنائية الأميركية وقدر أميركا والحلم الأميركي، وكلها شعارات مغروسة جذورها في أعماق النشأة الأميركية وازدهرت على امتداد قرون، وكلها من دون استثناء صارت الآن محل شكوك حول استمرارها كأعمدة في هيكل المنظومة الثقافية والسياسية الأميركية.

نعرف رابعاً أن زعماء عديدين في هذا العالم لم يكونوا راضين عن الوصفة الأميركية للنموّ والتقدم الاقتصادي، إلا أن أكثرهم لم يجرؤ على الجهر بعدم رضاه إلا عندما وقعت الأزمة وذهب بوش إلى الأمم المتحدة يطلب المساعدة من المجتمع الدولي. عندها سمعنا رئيس البرازيل لولا دي سيلفا، وكيرشنير رئيسة الأرجنتين وساركوزي رئيس فرنسا وعشرات السياسيين في ألمانيا وبريطانيا وروسيا والصين والهند، ينتقدون النموذج الأميركي، وانضم إليهم سياسيون أفارقة راحوا إلى نيويورك ليتوسلوا مبلغ 72 بليون دولار لإنقاذ القارة الأفقر في العالم. فإذا بأميركا تطلب سبعمئة بليون دولار لإنقاذ شركات أساءت التصرف في أموالها وأهدرت الثقة الممنوحة لها فأفلست، حتى أن الامين العام للامم المتحدة بان كي مون فاجأنا جميعاً حين خرج عن تقاليد المنظمة الدولية وطالب بأخلاقيات جديدة وقواعد أخرى للاقتصاد العالمي، بما يعني أن القواعد التي روجت لها أميركا وجعلتها ميثاقا لعمل المؤسسات الدولية سقطت مع سقوط النظام المالي الأميركي.

نعرف خامساً أن الرابطة الأميركية للمهندسين المدنيين تطالب منذ مدة بالاهتمام بحال البنية التحتية للولايات المتحدة المهددة بالانهيار. يقول التقرير الذي تضمّنه مقال في مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» في عددها الأخير إن ثلاثين في المئة من الجسور بها قصور شديد وفقدت صلاحيتها، وتحتاج إلى نحو 9.4 بليون دولار كل سنة لمدة عشرين عاماً لإصلاحها، وأن عدد السدود غير الآمنة في الولايات المتحدة ارتفع بنسبة 33 في المئة حتى وصل إلى 3500 سد.

ويسرد التقرير الحال السيئة للمواصلات العامة كالحافلات وقطارات الأنفاق والسكك الحديد، وتزداد سوءاً بسبب زيادة الطلب عليها نتيجة ارتفاع أسعار الوقود. وجاء في التقرير أن الميزانيات المخصصة لمياه الشرب لا تفي سوى باحتياجات نسبة بسيطة من الاحتياجات الكلية على المستوى القومي، كما أن مخصصات الصرف الصحي تكاد لا تصل إلى الحد الذي يؤمن المحافظة على حالها الراهنة، وهي أيضاً بالغة السوء. ويشير التقرير إلى حال النقل الجوي فيؤكد أنه وقعت 1.8 مليون ساعة تأخير في مواعيد اقلاع الطائرات في عام 2007 وحدها بسبب النقص الشديد في عدد مهابط الطائرات. وينصح التقرير بضرورة تدبير ما لا يقل عن ربع تريليون دولار لإعادة أبنية المدارس الحكومية إلى حال «معقولة».

ويضيف التقرير أن الإنفاق على البنية التحتية في أميركا هو الآن أقل مما كان عليه في العام 2001 (مع حساب التضخم) وأقل كثيراً مما كان عليه قبل ثلاثة عقود. يحدث هذا بينما تنفق الصين على مد خطوط السكك الحديد 200 بليون دولار في الفترة من 2006 إلى 2010. وهو رقم غير مسبوق منذ القرن التاسع عشر، كما ذكرت مجلة «الإيكونوميست»، ونحو 300 ألف كيلومتر من الطرق السريعة و97 مطاراً جديداً .

ويقول كاتب المقال وهو أحد أهم الخبراء الأميركيين في قضايا البنية التحتية إنه حين طالب أحد النواب في الكونغرس بتخصيص تريليون دولار لإعادة تأهيل البنية التحتية جاءه الردّ: من أين المال طالما أن الحرب في العراق وأفغانستان دائرة وسياسة خفض الضرائب على الأغنياء وعلى ضريبة الشركات سائدة؟ لذلك يدعو Felix Rohattyn و Everett Ehrlich إلى إنشاء مصرف جديد لإنقاذ البنية التحتية الأميركية تُسهم فيه الحكومة الفيديرالية وحكومات الولايات والقطاع الخاص ويعمل بنظام البنك الدولي، أي لا يقدم قروضاً للمستثمرين الذين يريدون الاشتراك في «إعادة بناء أميركا» إلا مقابل ضمانات وعلى ضوء دراسات جدوى للمشروع والتأكد من أخلاقيات وكفاءة المستثمرين. من ناحية أخرى كتب توماس فريدمان في جريدة «نيويورك تايمز» داعياً الى توقف أميركا عن ممارسة مهنة «الهندسة المالية» والعودة إلى مهنة «الهندسة الحقيقية»، هندسة بناء أميركا.

نعرف الآن أن الأزمة المالية التي تهدد استقرار أميركا وأمنها ومستقبلها ليست أكثر من خطيئة صغيرة في منظومة قومية مهددة بأزمات أشد خطورة.

لن نقول مرحبا بك يا أميركا في عالمنا النامي، فأميركا بأخلاقيات أفضل واقتصاد أقوى واحترام أكبر للأمم الأخرى هي أجدى للعالم النامي ولنفسها وأقل ضرراً من أميركا إذا انهارت أو اذا صارت دولة نامية.
"الحياة"

التعليقات