31/10/2010 - 11:02

"أوشفيتز غزة".. العرب والناتو ونخوة حرائر تركيا!../ عبداللطيف مهنا

قرأت مؤخراً أن نسوة ً تركيات هالهن فظاعة الحصار الإبادي ضد مليون ونصف فلسطيني في قطاع غزة، أكثر من ثلثيهم هم لاجئون طردوا من ديارهم إثر النكبة واختلاق إسرائيل قبل ستين عاماً، فتداعين لجمع تواقيع حرائر الترك على مذكرةٍ أرسلنها إلى رئيس جمهوريتهن يطالبن فيها تدخله العاجل لفك الحصار الإجرامي البشع، أو ما دعته مذكرتهن ب "أوشفيتز غزة".

الأخوات التركيات في صرختهن هذه لم يكترثن بأن يهبن بالرئيس التركي التدخل لدى إسرائيل لإيقاف أوشفيتزها في غزة، لأنهن قطعاً لا يعولن كثيراً على الإنسانية الإسرائيلية المفقودة منذ أن كانت إسرائيل، وإنما ألححن على تدخله السريع لدى الأشقاء العرب لفتح معبر رفح تحديداً... بمعنى أنهن ركزن على محاولة رفع الجانب العربي من هذا الحصار... الحصار أو "سيربينيتشا الجديدة" وفق ما جاء في المذكرة.

إلى هنا، نحن لا نملك كعرب، مع كثير من الخجل، إلا وأن نشكر نخوة هاته الغيورات التركيات... هذه النخوة التي لم نسمع بمثيلها في ديارنا في هذه الأيام، أو لم نعد نعهدها في بلادنا وهي الراسفة في عقودها الأخيرة المنحدرة المثقلة بكل ما هو لا يدعو للفخار... لكننا نسجل عليهن وقوعهن في ثلاثة هفوات ما كان لهن أن يغفلن عن وجوب تجنبها:

الأولى، أنهن بنخوتهن هذه قد يستفززن مثيلتها العربية الغاطّة في غفوةٍ لا تروم الإفاقة منها، وقد تتسبب في اتهامهن بالمزايدة، وربما التدخل في الشأن العربي الناجم عن نوايا عثمانية كامنة لديهن أفاقت لتطل برأسها بعد أن عفا عليها الزمن!

الهفوة الثانية، هو أنهن عندما يعبرن عن غضبتهن بأن يصفن حصار غزة بـ"أوشفيتز غزة"، أو " سيربينيتشا الجديدة"، أو بهذا التوصيف الواقعي والدقيق والموفق، قد يحرجن الإسرائيليين والعرب والعالم، ويدفعن من يهمه الأمر للاستجابة لتدخل رئيسهن المأمول، قد وقعن في وهم لطالما وقع فيه الكثير من الفلسطينيين والعرب قبلهن. لماذا؟

لأن الإسرائيليين، الذين يحرصون كل الحرص على تخليد متوالية حلبهم المتواصل لبقرة "أوشفيتز" النازية المدرارة، أو هذه الجريمة الأوروبية ضد يهود أوروبا، ويستميتون لإبقاء صورتها الفظيعة حية تثقل ضمائر الأوروبيين، و يوظفونها سيفاً ابتزازياً مسلطاً على رقابهم، يصرون أبداً على تصوير أن الإبادات والمحارق لم ترتكب يوماً إلا بحق اليهود وحدهم، وأن كل ما جرى لمستضعفي العالم عبر هذه التواريخ المخزية لم يرتفع إلى مستوى ما حل بهم!

الأمر الثاني، أنهم لا ينظرون إلى محرقتهم الدائرة ضد الفلسطينيين أرضاً ووجوداً، بشراً وحجراً، مادياً ومعنوياً، والمستمرة منذ ما ينوف عن القرن، سوى أنها نوع من دفاع المُعتدي عن النفس ضد الضحية المعتدى عليها، بل وينظرون للوجود الفلسطيني أصلاً كشاهد على جريمة ارتكبوها يحاولون إنكارها، وهذا لا يتأتى لهم إلا بنفي هذا الوجود المشكلة!

والثالث، أن مجتمعهم المنحدر يميناً باستمرار، والموغل في عنصريته أكثر فأكثر، ليس في وارد التراجع عن مسيرته الاستعمارية الاحلالية المنسجمة مع عنصريته السائرة على ذات الخطى النازية، لدرجة أن أصبحنا نسمع مرشحاً للإنتخابات التشريعية على قائمة حزب الليكود هو موشيه فيغلن يشيد بالنازية "كنظام يتسم بالكمال"، وبهتلر كرسام صاحب عبقرية عسكرية، الأمر مثار التعليقات راهناً في الصحافة الإسرائيلية! وقد نبدأ بالأمثلة فلا ننتهي، ونكتفي بالإشارة إلى تصريحات المرشحة لرئاسة الوزراء تسيبي ليفني التي تدق فيها ناقوس بداية مسيرة "الترانسفير"، أو تمام استراتيجية التطهير العرقي المبيتة منذ أن كان المشروع الصهيوني ضد الفلسطينيين...

الهفوة التركية الثانية، هي أن الأخوات التركيات ربما غفلن فلم يسمعن بما ورد في بيان مجلس وزراء خارجية دول جامعة الدول العربية الأخير حول الحصار، أو أقله، أنهن لم يتابعن مدى ما توصلت إليه جهود أمين عام الجامعة المكلف بمتابعة تنفيذ ما ورد فيه عن نية إرسال بعض الصدقات لجوعى غزة، أو هن لم يدققن فيتأكدن عما إذا كانت هذه الصدقات المفترضة قد وصلت أو أنها ستصل في مقبل الأيام... هذا عربياً، وهو يكفي، فالحال العربية معروفة، وربما نعذر السيدات التركيات أنهن لم يسمعن بالمثل العربي الذي يُستحضر كثيراً هذه الأيام: لقد أسمعت لو ناديت حياً...!

أما دولياً، وهنا نأتي إلى الهفوة الثالثة، وهي المتمثلة في أن الغيرة التركية التي عبرت عنها حفيدات محمد الفاتح هي ليس فقط لن تحرك ساكناً في ضمير ما يدعى بـ"المجتمع الدولي"، أو بمعنى أو آخر ما يعني واقعاً "المجتمع الغربي"، وإنما قد تسيء إلى حظوظ تركيا في الوصول ذات يوم طال انتظاره إلى عضوية الاتحاد الأوروبي... هذا الذي وقفت بلادهن و لازالت على أعتابه خاطبة ود عضويته لما يقارب النصف قرن، وربما قد تقف، حتى من دون مثل هذه المذكرة، لنصف قرن لاحق!

هنا الخبر الأوروبي حيال هذه المسألة له شقان، اتحادي وأطلسي. في الأول، وبغض الطرف عن أوشفيتز غزة، يتابع الاتحاد الأوروبي سيرته الأولى، والمتمثلة في توطيد علاقته المضطردة بإسرائيل الغرب المدللة، التي كان يوطدها سابقاً تحت ستار من المحايلة و المخادعة والنفاق، الأمر الذي لا يقارب مثله الأمريكان في أسلوب رعايتهم الفاقعة الوضوح لها.

بيد أن هذه المسيرة التوطيدية، التي تتعاظم بالتوازي مع تصعيد محارق السياسة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، تقتيلاً للبشر وتهويداً للأرض، أسواراً وحصاراً، وسائر تجلياتها المعروفة، بدأت أوروبياً تأخذ منحى أمريكياً لجهة الأسلوب مبتعدة عن سالف عهدها، و ذلك عبر القرار الأخير للاتحاد بإعطاء المحظية المحظوظة صفة العضو اللاعضو، أو الذي يتمتع بمميزات العضوية دون إلزامه بواجباتها... وفي الشق الثاني، أي الأطلسي، الإسرائيليون الذين يحرصون على أن لا تتعارض علاقاتهم الأطلسية مع ما يحظون به من مكانة خاصة لدى راعيهم الأمريكي، وصلت حد إزماع إدارة باراك حسين أوباما منح "مظلة نووية لإسرائيل"، لا يكتمون اعتدادهم بأن الناتو طفق هذه الأيام في خطب ودهم طالباً، هو وليس هم، مشاركتهم في شجون وشؤون نشاطاته العسكرية عبر البحار، أو توسيع ممارسته الميدانية الكونية لما يسمى بمكافحة تهريب السلاح، ومحاربة "الإرهاب"، ومراقبة "تحركات الإرهابيين"...

مجلس وزراء خارجية الناتو مؤخراً أقر وثيقة تقول بأن "لإسرائيل قيمة مضافة، ينبغي على الحلف الإفادة منها"... هنا يكرر الناتو مأثرة الإتحاد الأوروبي، فإذا كان لإسرائيل حظ عضوية الإتحاد اللاعضوية، فلها ما للسويد في الناتو. أي لا عضوية مع تعاون عملي وثيق!

قد يقول قائل، لقد كان التعاون الأمني والإستخباراتي هو دائماً الوثيق بين الحلف وإسرائيل، وبينها وبين كلٍ من دولهِ الستة والعشرين منفردة، بل هي كانت شريكة في تقريرين أعدهما الناتو مؤخراً، ووزعت على أعضائه، حول تطور الصواريخ والانتشار النووي في منطقتنا، كما ذكرت مؤخراً صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية. هذا صحيح، ويمكن أن نضيف مما لا تكتمه المصادر الإسرائيلية وتفاخر به، مثلاً:

الجنرال اشكنازي رئيس أركان الحرب الإسرائيلي، يحضر اجتماعاً في بروكسل لرؤساء أركان الحروب في الناتو، ويقول: إن "إسرائيل ترى في الناتو حليفاً استراتيجياً في الحرب ضد الإرهاب"... اعتماد ضابط اتصال بحري إسرائيلي في قاعدة للناتو في نابولي الإيطالية... طائرات الإنذار المبكر الأطلسية "ايواكس" تحط في مطار اللد... سفن الناتو تزور موانئ فلسطين المحتلة... ومناورات مشتركة... تعاون في مجال البحث العلمي والأكاديمي... دمج ضباط إسرائيليين في أكاديمية الناتو العسكرية في روما... وهكذا، بحيث يقول معلق أمني إسرائيلي مثل أمير اورون: أن التعاون الإسرائيلي مع الناتو يبلغ وفق المعطيات الأطلسية ألف نشاط!!!

المهم أن الذين كان الصرب يذبحون مسلمي سربنيتشا على مرأى و مسمع منهم في البوسنة، بل وهم يتفرجون، أو بتسهيل أو تواطؤ منهم معروف، عبر غض الطرف ممن يفترض أنهم حماة البلدة حينها من الجنود الهولنديين، لن يسمحوا لأوشفيتز غزة، بأن يذكّرهم بأوشفيتز بولندا، أو أن يؤثر على مصلحتهم الإسرائيلية، أو "القيمة المضافة" للكيان الذي اختلقوه ذات يوم في فلسطين... إنها واحدة من ثوابت المصلحة الغربية...

وكما أن صرخة حرائر تركيا الغاضبات على ما يجري لغزة لن تصل لمسامع محاصريها، فهي حتام ستلاقي المصير ذاته بالنسبة ل"مجتمع الناتو الدولي"، وهي قطعاً ليس لصداها مهما علا أن يفتح معبر رفح... لكن لعل غيرتهن المشكورة تستفز غافي غيرة عربية تغط في غيبوبتها فتوقظها من سباتها المأساوي!

التعليقات