31/10/2010 - 11:02

إدارة أزمة أم إدارة ورطة؟../ جميل مطر*

إدارة أزمة أم إدارة ورطة؟../ جميل مطر*
لا أعرف إلى أي حد كان فرانك ريتش الصحافي والكاتب في «نيويورك تايمز» مبالغاً حين كتب في إحدى مقالاته الأخيرة يصف واشنطن بالمدينة المحررة. ولكن أعرف أن دولاً وأمماً كثيرة تعيش هذه الأيام بمزاج يشبه مزاج من صار قاب قوسين أو أدنى من زوال غمة، أو بمزاج من أوشك على فك عقاله وتحطيم قيوده.

أعترف بأن شعورا مماثلا يتملكني منذ شهور. ولست وحدي، فمن حولي في عملي ووطني وفي الإقليم كثيرون يعتقدون أن السنوات الثماني الأميركية الماضية كانت سنوات كرب شديد وشؤم مقيت وموت كثير وكذب مفرط. تسببت بها جميعاً بدرجة كبيرة مدينة واشنطن عاصمة إمبراطورية جورج بوش ونائبه ريتشارد تشيني وجماعتهما من المحافظين الجدد.

ففي نظر البشر الذين مارست عليهم سطوتها وتدخلت في حياتهم وأذلت أعناقهم ومدت في عذاباتهم، هي الآن موضع اتهام حول مسؤوليتها عن الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة ودورها فيها، هؤلاء سيدفعون ثمناً باهظاً في السنوات المقبلة لأن واشنطن التي ستخضع لحكم أوباما قد ترفض مد يد العون أو حتى الاعتذار لكل من قصر في حماية مصالحه بحجة القمع الإمبراطوري الذي مارسته حكومة بوش.

وقد لا يعترف أكثرنا، في المنطقة العربية على الأقل، وفي الغالب لن نعترف، على عكس ما يفعله الآن بعض زعماء أوروبا وآسيا، بأننا تراخينا في حماية سيادة دولنا، وشجعنا بوش على أن يواصل الضغط علينا لتوسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء في بلادنا. لقد استسلمنا من دون نقاش طويل لضغوط سياسات حرية السوق والتجارة وسرنا على منواله فصنعنا من أفراد وشركات عائلية وحوشاً بشرية حين كنا، وربما ما زلنا، مسيرين بوهم أن الرأسمالية الجديدة التي بشر بها بوش وجماعته هي أعلى درجات التطور الإنساني بل الفردوس الموعود بشرط أن تقوم على حمايتها قوى أمنية هائلة. هذه القوى الأمنية احتاجت لتعيش وتزدهر إلى الاستمرار في تضخيم الإرهاب مفهوما وخصما وإلى شن حروب باسمه وضده. وما فتئ البعض فينا يعتقد مثل الرئيس بوش أن علاج الكساد العظيم كامن في الداء نفسه، أي في رأسمالية الغابة، وأن مزيداً منها مطلوب الآن بالمواصفات نفسها التي جلبت على أميركا وأوروبا وعشرات الاقتصادات الخراب وجلبت على كثير من المجتمعات شرور البطالة والشعور بقلة الأمان وهزت الاستقرار الاجتماعي وكذلك استقرار الفرد.

لذلك لا أستغرب تنبؤات تكاثرت في الآونة الأخيرة بعضها يتصور أننا قد نكون على أبواب مرحلة ستشهد تخبطاً في سلوكيات الناس. فالذين بيدهم أمور الاقتصاد والمال والسياسة والأمن نجحوا على امتداد سنوات في فرض أنماط سلوكيات اجتماعية وأسرية تتناسب وفلسفة رأسمالية الغابة وممارساتها.

ومن السذاجة أن يتخيل إنسان أن الناس المستسلمين بسبب غياب بدائل أو المتوجعين من تأثير ضربات الأزمة الاقتصادية المتلاحقة سيتخلون عن أساليب معينة وأخلاقيات جرى غرسها عبر سنوات من التبشير عن طريق الإقناع أو الفرض عن طريق الاحتلال وفرض العقوبات.

لن يتخلى كثيرون بسهولة أو بسلام عن أسلوب تحقيق الثروة بأقصى سرعة وبأقل الإمكانات والجهود وبكل الطرق الممكنة، المشروع منها وغير المشروع. لذلك لا أختلف مع الرأي القائل إن السنوات الأخيرة كانت سنوات الذروة بالنسبة الى الفساد والجريمة المنظمة وكلاهما لا يزمعان الرحيل، ولن أختلف مع القائل بأن ساذجا من يتخيل أن الناس الذين حققوا بهذه الأساليب ما حققوا من ثروات خيالية وجاه وهيمنة هم انفسهم الذين سيقودون أو سيساهمون في إصلاح ما أفسدته الأزمة والعمل على منع تكرارها أو أنهم سيقبلون الدخول في عقد اجتماعي جديد يعتمد على التناسب بين قاعدتين: شره أقل عند الأقلية وإشباع أكبر للأكثرية.

لم تكن مصادفة أن يكون عهد الرئيس بوش الذي أشرف على مرحلة الانحدار المريع للولايات المتحدة العهد الذي لم يحترم الثقافة والمثقفين، وأن يأتي في أعقاب سقوطه عهد يعلن عن نية احترام وفتح أبواب السياسة والاقتصاد والمناصب الحيوية للمفكرين والمثقفين. ليست مصادفة، فالجمهوريون أقاموا حملتهم الانتخابية على شعارات وأشخاص بعيدين عن أجواء الثقافة والعلوم وجماعاتها في المجتمع الأميركي. بل لفت النظر تعمد القائمين على الحملة تجاهل ساحات العلم وبخاصة الجامعات حيث المقاومة الحقيقية لكل القيم التي بشر بها الرئيس بوش وممارساته التي كشفت عن درجة قصوى من الجهل وقلة الذكاء ونقص الخبرة. اختاروا جون ماكين رغم إدراكهم أن انجازاته التشريعية والسياسية على هذا الصعيد ضئيلة. واختاروا نائبة له، أي رئيسة محتملة لأميركا، لا تعرف إن كانت أفريقيا دولة أم قارة في وقت كان الخصم الذي كلفوها بتدمير شخصيته رجلاً أسمر اللون من أصول أفريقية، رجل يعرف عن أفريقيا بالفطرة ما كان يجب أن تعرفه سارة بالتعليم أو التلقين.

حدث هذا بينما كان الذائع في أوساط أوباما أن المرحلة المقبلة التي ستركز على وقف التدهور الأميركي تستدعي تعبئة المثقفين الأميركيين وأعمدة الحضارة العلمية لاستعادة مكانة أميركا في الخارج وإنقاذ الاقتصاد الأميركي والعالمي وإصلاح البنية التحتية الأميركية وترشيد العلاقات الاجتماعية وسد الفجوات وإعادة النظام الرأسمالي من الغابة التي توحش فيها إلى سهول الاعتدال والعدالة الفسيحة. هذه المهمة تكلف بها أوباما وحملت شعار مرحلة التغيير وهي المرحلة التي ستحتاج خططها وبرامج تنفيذها إلى حشد مثقفي أميركا ورجال العلم والتقدم والتكنولوجيا من أجلها.

لن تكون المهمة سهلة. إذ يرث أوباما عن بوش ترسانة من أدوات الإمبراطورية وأجهزتها ممثلة في عدد من التشريعات التي جعلت الحاكم الراهن والقادم أقوى داخلياً من أي حاكم دخل البيت الأبيض منذ الاستقلال، وجعلت المواطنين الأميركيين معرضين بدرجة غير مسبوقة لقمع حرياتهم واعتقالهم والاطلاع على خصوصياتهم وتعذيبهم إن استدعى الأمر. ولا يخفى أن تنازل أوباما، ومن معه، عن هذا الإرث أو تجميده أو تعطيله يحتاج إلى عزيمة «فوق بشرية».

ومع ذلك فمن دون تنفيذ التغيير في هذا الإرث سيبقى العديد من وعود أوباما حبراً على ورق أو كلاماً انتخابياً في الهواء، ومن دون خطط وبرامج عاجلة وناجحة لا أستبعد أن يلجأ زعماء في أوروبا وروسيا والصين والبرازيل والهند وحكام غيرهم إلى تبني شعارات وربما سياسات قومية اقتصادية متطرفة بحجة حماية ما تبقى من صناعة وزراعة لم يدمرها إعصار الكساد.

حدث هذا التطور من قبل في خلال كساد 1929 عندما اصدر الكونغرس الأميركي قانون سموت - هولي الذي فرض تعرفة جمركية عالية على عديد من السلع المستوردة. وقد يحدث أن تقرر دول الانفضاض عن تكتلات إقليمية ودولية تثبت عجزها خلال الأزمة. وقد تقوم دول بإنشاء تجمعات على أسس جديدة أقرب ما تكون إلى قلاع دفاع منها إلى تكتلات اندماج وتبادل تجارة واستثمارات. ولن يكون غريبا أو مفاجئا ظهور تيارات سياسية ودينية أشد تطرفا من كل ما عهدناه في إطار العولمة أو نتيجة طوفانها تدعو لتشييد قلاع تصد عن البلاد حملات «قراصنة الكساد» قبل أن يعيثوا فسادا ويثيروا الفتن ويشتروا الذمم ويتاجروا ببشر عاطلين عن العمل أو بأجساد باحثة عن طعام أو كساء.

حانت نهاية «أيديولوجية» جماعة الرئيس بوش والتي حذر مئات من الاقتصاديين والسياسيين من عواقب التمسك بها. أذكر انه في عام 2003 تدفقت التحذيرات من احتمال انهيار سوق الائتمان في العالم المتقدم تحت قيادة بوش وجماعته وأن هذا الانهيار ستعقبه حالات إفلاس بين الشركات والأفراد.

ورغم هذه التحذيرات أصر بوش وجماعته على التمسك بنظريات خائبة عن السوق التي تصلح نفسها بنفسها وعن السوق التي هي الأكفأ إذا قورنت بالدولة أو بنظام اقتصادي آخر. وامتنعت إدارته عن تشجيع الجامعات ودور البحث على الاستعانة بتلاميذ مدارس ماركس واللورد كينز وغالبريث، ففقدت أميركا والعالم من ورائها أو من تحتها عناصر كان يمكن أن تحذر رؤساءها في المصارف والمؤسسات الدولية ووزارات التخطيط والاقتصاد من احتمالات الانهيار الوشيك وأبعاد الأزمة حين وقوعها.

وبالفعل وقع المحظور وحدث المتوقع إذ تركزت الجهود، كما رأينا خلال الأسابيع القليلة الماضية، على إنقاذ طرف وتجاهل الطرف الآخر. ركزوا على إنقاذ الدائن وتجاهلوا المدين مع العلم أن أزمة الائتمان بحكم التعريف أزمة طرفين: طرف دائن وطرف مدين. ولكن بناء على الفهم «البوشي» لجوهر الأزمة صارت حكومات وأجهزة إعلام عربية تتعامل مع الأزمة باعتبارها ورطة وليست أزمة، وبالتالي يكفي أن تنقذ عددا من الدائنين والمصارف لتختفي الورطة وتزول الغمة.
"الحياة"

التعليقات