31/10/2010 - 11:02

إسرائيل وفلسطين: هل من بداية جديدة ممكنة؟*../ حسين آغا وروبرت مالي

إسرائيل وفلسطين: هل من بداية جديدة ممكنة؟*../ حسين آغا وروبرت مالي
ــ 1ــ
إن لفكرة التقسيم الإسرائيلي ـ الفلسطيني، أي فكرة حلّ الدولتين، تاريخاً لا يشبه سواه. فقد اقتُرحت على امتداد ثمانية عقود على أقل تقدير. قبِلها اليهود بداية فيما نفر منها الفلسطينيون؛ وحين تحمس لها الفلسطينيون في أواخر الثمانينيات، كان الإسرائيليون قد أداروا لها ظهورهم. ومع ذلك، يتمكن مؤيدوها من تصويرها على أنها فكرة حديثة العهد، كفيلة بأن تؤدي إلى السلام. التوافق الدولي على حل الدولتين هو اليوم أقوى من أي وقت مضى. لكن الاهتمام بالفكرة يتراجع لدى الفريقين المعنيين.

هذا العجز عن تحويل الفكرة إلى واقع، أثار ردود فعل يمكن تقسيمها إلى فئتين. يتمثّل رد الفعل الأكثر شيوعاً بإلقاء اللوم على الظروف غير المؤاتية أو على الخلل في التنفيذ، ما يعني ضمنياً أن لا حاجة تدعو إلى مراجعة الافتراضات الأساسية: اتفاقية تتمحور حول الأرض جوهرياً وتقسم فلسطين التاريخية إلى دولتين وفق حدود عام 1967؛ وتقسيم القدس بحسب معايير ديموغرافية؛ وإيجاد حل لمسألة اللاجئين عبر تقديم التعويضات وتوطينهم خارج إسرائيل؛ وإنهاء النزاع التاريخي؛ ووضع حد لكل المطالب.

فالمطلوب هو ظروف أكثر ملاءمة، وعملية تنفيذ أشد براعة، وبعض الحظ. وفق هذا الرواية، بُلي تاريخ عملية السلام بظروف سيئة: قادة كانوا أضعف من أن يعقدوا اتفاقاً عندما رغبوا في ذلك، أو أعند من أن يوقّعوا على معاهدة عندما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً؛ فريق مستعد للتسوية حين كان الآخر غير جاهز لها؛ انقسامات في الجانب الفلسطيني أو حكومات عاجزة في الجانب الإسرائيلي. فمهمة رئيس الوزراء إسحق رابين التاريخية أنهتها رصاصة قاتل؛ وقبول أرييل شارون التدريجي بدولة فلسطينية تتمتع بمقومات الحياة، وضعت له حداً جلطة دماغية؛ ومحاولة خلفه إنهاء النزاع عاجلتها فضيحة.

تظهر الولايات المتحدة بمظهر المذنب الأساسي، فالرئيس بيل كلينتون كان مفرطاً في تساهله، والرئيس جورج دبليو بوش غير مهتم بالقدر الكافي. كما أن واشنطن أبقت الدول العربية خارج العملية، ولم تولِ التطورات على الأرض ـ بناء المستوطنات الإسرائيلية والخروقات الأمنية الفلسطينية ـ الاهتمام. لقد ركزت على خطوات مؤقتة بدل المرحلة الأخيرة. والأهم من كل ذلك أنها لم تمارس ضغطاً كافياً على الطرفين، والمقصود أساساً بهذا الكلام أنها بالغت في التساهل مع إسرائيل. هي قائمة تثبط العزيمة، ولكنها على الأقل تترك مجالاً للتفاؤل: ففي الظروف المؤاتية، وباللمسة المناسبة من الولايات المتحدة، سيكون الحل الناجح بمتناول اليد...

يشير الناس اليوم إلى ما يجسّده بنيامين نتنياهو من مزيج معقّد يجمع بين الثقة التي يوليه إياها الجناح اليميني والبراغماتية التي يتميز بها، فيقولون إنه قد يكون الرجل المثالي الذي يستطيع إقناع الآخرين بتسوية تاريخية. ففي خلال عهده الأول كرئيس وزراء، وافق على انسحابات من بعض الأراضي، وأقرّ ضمنياً بآفاق اتفاق أوسلو مناقضاً التعهدات في الحملات الإعلانية، ومنقلباً على التزامات شخصية. لكن أياً من هذه الخطوات لا تداني، ولو من بعيد، ذاك النوع من التحوّل المطلوب من أجل التوصل إلى اتفاق نهائي.

إذا كان استمرار نتنياهو سياسياً هو عقيدته الأولى، فسيسعى إلى تجنب الاصطدام مع الولايات المتحدة، ولكنه سيتلهف بالقدر ذاته على الأقل إلى تجنب تنفير شركائه في الائتلاف. تقديم تنازل للفلسطينيين، ثم إحداث أزمة، فالتراجع، ثم التقدم أكثر من السابق، واسترضاء الولايات المتحدة في الوقت عينه الذي يتحداها فيه: يبدو أن هذا الخط المتعرج نحو حل الدولتين هو الأسلوب الذي يُحتمل اتباعه أكثر من الخط المستقيم بأشواط. ونتنياهو يدرك أن الخطوات باتجاه غاية تبتغيها الدول في ما بينها من دون أن تكون مضمونة النتائج سوف تهدد استمراره السياسي. فالتعرّج هو الرهان الأضمن.

يرى البعض أملاً أيضاً في محمود عباس. فبالنسبة إلى رئيس السلطة الفلسطينية، كان النفوذ بمثابة مذاق أخذ يستسيغه شيئاً فشيئاً. ولا يزال المرء يشعر باحتقاره الأسلوب السياسي الذي يقوم على القسوة المتفلتة من أي ضابط، ذلك النوع الذي أتقنه واستطيبه ياسر عرفات. ولكن أسلوباً جديداً ظهر في الطريقة التي ناور بها لانتزاع عقد مؤتمر عام لحركة فتح في آب/ أغسطس الماضي، وهو مؤتمر الحركة الأول منذ عشرين سنة، فأزاح المعارضين ورقّى المؤيدين. وعبر كل ذلك، أظهر متعة حديثة الاكتشاف في ممارسة لعبة السياسة، متعة بدت أنها فاجأته بقدر ما فاجأت سواه.

يمثّل انغماس عباس في الشؤون السياسية الداخلية خطوة محرِّرة ومقيدة ومتقلبة في آن معاً. فسوف يتوجب عليه أن يبقى على تناغم مع الجو الداخلي، ويولي اهتماماً أكبر بديناميات حركة فتح الداخلية التي تضبط إيقاع الشؤون السياسية الفلسطينية. فالحرية النسبية التي تمتع بها عندما بقي خارج حلبة الصراع ربما تُعدّ أمراً من الأمور التي يجب أن يضحي بها. وقد لا تبدو الخطوات الدبلوماسية الكبيرة جذابة جداً الآن، كما أنه بات تحت رحمة تحوّل سريع وحاد في تقييمات الرأي العام. وتداعيات ما أقدمت عليه السلطة الفلسطينية من سوء تصرّف مريع في تعاملها مع تقرير غولدستون بشأن حرب غزة 2008ـ2009، ليست إلا آخر الوقائع التي تذكّر بذلك.

عُلّقت على باراك أوباما أكبر الآمال وأصدقها على اعتبار أنه سوف يحقق السلام. فالرئيس الشاب يعد بإمكان إحداث تغيير جذري في مسار الأمور نسبة إلى الماضي، وتحقيق انطلاقة مبكرة تستند إلى سياسة أكثر التزاماً وثباتاً. ويقوم هذا الاعتقاد على أساس منطقي واضح وصريح: فإسرائيل تعتمد على الدعم الأميركي؛ وما من قائد إسرائيلي يتجرّأ على تعريض العلاقات الجيدة مع واشنطن للخطر؛ فإذا انتهجت الإدارة الأميركية نهجاً متشدداً جداً واستخدمت أساليب صارمة تحقيقاً لمصالح الآخرين، فستنصاع إسرائيل.

بيد أن خطوات أوباما الأولى أثارت الشكوك. فقد شددت الإدارة أولاً على تجميد إسرائيلي شامل لبناء المستوطنات، ومن ثم تفاوضت بشأن تفاصيله، لتقوم بعد ذلك بما بدا تراجعاً، وتضغط على الفلسطينيين لاستئناف محادثاتهم مع إسرائيل. ومن خلال إقدامها على كل هذه الأعمال، زادت الاحتكاكات مع القدس، وبددت المصداقية مع العالم العربي وأضعفت عباس.

بالنسبة إلى هذه النقطة الأخيرة، ليس أوباما إلا الأخير في سلسلة رؤساء أميركيين أثبتوا أن حدود الأذية التي يمكن أن يلحقوها بأولئك الفلسطينيين الذين يدعمونهم ليست قليلة. فمن خلال ليّ ذراع عباس مرتين، أولاً لحضور لقاء مع نتنياهو، ومن ثم لسحب الدعم لتقرير غولدستون، ألحقت الإدارة به، في غضون أسبوعين، أذىً غير متعمّد يفوق بأشواط ذاك الذي ألحقته به الإدارة السابقة في عهدَين. كانت الولايات المتحدة تأمل أن تدجّن نتنياهو، وتقوّي عباس، وتحفز مؤيدي عملية السلام، وتحد من نفوذ المتطرفين وتنشّط المفاوضات. حتى الآن، حققت العكس تماماً.

سوف تُسنح لأوباما فرص تمكنه من التعويض عما فات. ولكن لمن لا يزال مقتنعاً بأن الولايات المتحدة تملك القدرة على إنتاج اتفاق سلام مهم، يكاد يصعب اعتبار سجلّ الرئيس مبشّراً بذلك. فهو يندرج ضمن إطار أوسع: انتفاء دليل تاريخي مقنع على إمكانية ممارسة الضغط الأميركي إلى درجة تكفي لحث حكومة إسرائيلية على العمل بما يعاكس المصالح التي تراها أساسية.

إن لكلٍّ من الإسرائيليين والفلسطينيين نقاط ضعفهم، ولكنهما أتقنا فنّ الرفض، أو على الأقل، فن قصد الرفض، ومن ثم الانتظار لخوض المعركة التالية. يُحتمل أن تختلف الأمور هذه المرة، وأن يحقق أوباما ما عجز عن تحقيقه أسلافه، لكن في السنة الأولى من عهده، لم يظهر دليل واحد يوحي بأنه يستطيع أن يفعل ذلك. والاكتفاء بالاعتماد على توقع حدوث هذا الأمر سيكون بمثابة السماح للخبرة بأن تستسلم للأمل.

ــ 2 ــ

الفئة الثانية من ردود الفعل حيال العجز المستمر عن تسوية تتضمن إقامة دولتين تتمثل باستبعاد تحقيق الهدف برمّته. وغالباً ما يقدّم الذين ينتقصون من أهمية حل الدولتين بدائل عديدة، أبرزها حل الدولة الواحدة الذي يقوم على أساس الاعتقاد بأن اليهود والعرب يستطيعان التعايش معاً في دولة ديموقراطية متعددة الإثنيات ذات قوميتَين.

ويدافع مؤيدو الفكرة عنها بالقول إنها تتفوّق على التقسيم أخلاقياً وعملياً، وبأنها الحل للقضايا العديدة التي أعاقت تحقيق هذا التقسيم. وتشمل هذه القضايا تعلّق اليهود والفلسطينيين بأرض إسرائيل التاريخية أو بفلسطين التاريخية (بما أن أفراداً من الشعبين يمكنهم أن يعيشوا في أي مكان داخلها)؛ وحقوق اللاجئين (بما أنهم يستطيعون العودة إلى ديارهم الأساسية إذا رغبوا في ذلك)؛ وأمن إسرائيل (إذ لن تقوم دولة إسرائيل ليتحتم الدفاع عنها ولا دولة فلسطين لتشن هجوماً)؛ والقدس (يتقاسمها الاثنان بالتساوي وتمثّل مكان عبادة لهما معاً)؛ وإنهاء النزاع.

ويقول مؤيّدو فكرة الدولة الواحدة إنها تضع حدّاً للأفكار البالية المتعلقة بكيانات سياسية تقوم على قاعدة إثنية أو دينية، وتُحِلّ محلها مفهوم المواطنية المتساوية الأحدث عهداً.

ويضيف البعض إلى ذلك أن إقامة دولة فلسطينية أصبح أمراً يتعذر تحقيقه نظراً إلى مدى المشروع الاستيطاني والتغيرات التي سبق أن حدثت في الضفة الغربية.

إن الاقتراح جذّاب فكرياً، ومرضٍ أخلاقياً، ولكنّه متوهّم سياسياً. فهو يفتقد إلى الأساس الجوهري لأي حلّ يُقترح، ألا وهو تلبية حاجات الطرفين الرئيسة. ويتجلى ذلك بأوضح شكل في حالة شعب إسرائيل اليهودي، إذ يبقى تطلعه الأساسي متمثلاً بإقامة دولة يهودية آمنة ومعترف بها، وهو هدف سوف يلغيه إنشاء دولة واحدة بقوميتين. كما يصعب على المرء أيضاً أن يتخيل الفلسطينيين راضين بهذا الحل، إذ سينتهي بهم المطاف، على الأرجح، كمواطنين من طبقة أدنى، مواطنين من الدرجة الثانية يمثّلون مصدراً لليد العاملة البخسة الكلفة، غير قادرين على التنافس لشراء الأرض، ما يناقض رغبتهم في الكرامة وتقرير مصيرهم بأنفسهم.

تأبيد الوضع الراهن هو بديل مختلف تماماً. إنه نوع من حل يقوم على دولة واحدة، ولو أنها ليست من النمط المتعدد الإثنيات والديموقراطي. فعلى أرض الواقع، تمتد اليوم دولة واحدة من البحر المتوسط إلى نهر الأردن، فيها الفلسطينيون سجناء في غزة، أو خاضعون للاحتلال في الضفة الغربية أو تُمارس بحقهم التفرقة العنصرية في إسرائيل. وما يميّز الوضع الراهن هو تاريخه اللافت الذي أثبت قدرته على الاستمرار بوجه تحديات متكررة وتوقعات لا تنفك تنبئ بالعكس. وقد تمكنت إسرائيل، من خلال انسحابها من غزة وبناء الحاجز الفاصل في الضفة الغربية، من تحصين نفسها ضد خطر ديموغرافي فلسطيني، كما أوقفت التهديدات الأمنية من الضفة الغربية، ما أدى إلى انعدام أي حافز يحثها على تغيير الوقائع على الأرض اليوم. على هذا الأساس فحسب، قد يفترض المرء أن الوضع الراهن يمكن أن يستمر كما هو تقريباً على المدى الطويل وبكلفة يمكن تحمّلها.

ومع ذلك، حتى هذا المدى الطويل يجب أن ينتهي عاجلاً أم آجلاً. فاستمرار المعاناة سوف يولّد عدوانية لدى شريحة متنامية من الشعب الفلسطيني، ومن شبه المؤكد أن تؤدي التوترات إلى جولات عنف جديدة. قد يكون التوافق العالمي المؤيد لحل الدولتين عاجزاً عن إنتاج هذا الحل، ولكنه يضع إسرائيل في موقف سيزداد احتماله صعوبة. فمنذ 1948، كان النزاع الإسرائيلي الفلسطيني السبب المباشر أو غير المباشر لاندلاع 9 حروب، أو إجمالاً، حرب كل 7 سنوات. ويمثّل هذا وحده دافعاً لتغيير الوضع الراهن.

ــ 3 ــ

أين تكمن المشكلة في حل الدولتين...؟ ما هي المقادير الأساسية التي افتقدها حل الدولتين التقليدي؟ لماذا رُفض بهذا العناد عملياً فيما اعتُمِد بهذا الشكل الواسع نظرياً؟

تكمن المشكلة في فكرة حل الدولتين، كما تُرجمت، في أنها لا تعالج فعلياً ما تدّعي حله. فهي تعد بإنهاء نزاع بدأ عام 1948، وربما قبل هذا التاريخ، ولكن كل المسائل التي تهمها نشأت من حرب سنة 1967. فإنهاء احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية أمر جوهري وسيستمر النزاع إلى أن تُعالَج هذه القضية، غير أن جذوره أعمق من ذلك: فهي، بالنسبة إلى الإسرائيليين، إنكار الفلسطينيين مشروعية قيام الدولة اليهودية؛ وبالنسبة إلى الفلسطينيين، مسؤولية إسرائيل عن تجريدهم لممتلكاتهم وتشتيتهم...
لقد تمحور التركيز، طوال سنوات، على تحديد دقيق للنسب المئوية للأراضي التي يُفترض أن يجري الانسحاب منها، ولمعدلات الأراضي الخاضعة للمقايضة، وعلى تعيين حدود القدس. وقد تبين أن الشيطان لا يكمن في التفاصيل، بل هو في الصورة الأوسع.

فقد بُنيت المشكلة ضمن بنية المفاوضات. ولا يغالي المرء كثيراً إن وصف هذه الأخيرة بلعبة ثقة، وبأنها تفاهم ضمني قائم بين كل الأطراف يقضي بالتملص من النواة التاريخية للمسألة من خلال لبس مخادع...

إن الفشل في معالجة المسائل الأساسية كفل عودتها للظهور مجدداً عندما اقترب الفريقان قليلاً من عقد اتفاق، وتراجعا أمام تبعات الخطوة المصيرية الأخيرة. فظهر عندئذ بوضوح تام ما عُتِّم عليه، لا سيما أن الفلسطينيين لم يكونوا جاهزين حقيقة للاعتراف بأن النزاع قد انتهى وأن كل المطالب وُضعت جانباً فقط مقابل إنهاء الاحتلال، وأن إسرائيل لم تكن مستعدة لإنهاء احتلالها مقابل أقل من ذلك.
ستحلّ إقامة الدولتين قضية الاحتلال، إلا أن ذلك جانب واحد من مشكلة نشأت قبل بدء الاحتلال. فلن يكون أي قائد إسرائيلي مستعداً للتخلي عن الأرض وللسماح بإقامة دولة فلسطينية سيدة، على الأقل ما دامت هناك شكوك بأن الفلسطينيين لم يعقدوا فعلياً السلام مع الواقع الجديد، وبأنهم يتحينون الفرصة الملائمة، وبأن مستقبلاً من النزاع المتجدد في الانتظار.

ولا يستطيع أي قائد فلسطيني أن يدّعي بصدق أن النزاع قد اقترب من نهايته إذا تجاهل الحلُّ أصل المأزق الفلسطيني والنواة التاريخية لقضيته الوطنية. فاتخاذ مثل هذا الموقف سيكون بمثابة التسليم بأن اللاجئين، الذين يؤلفون غالبية الشعب الفلسطيني، وقد كانوا يوماً طليعته السياسية وقد يستعيدون هذا الموقع من جديد، قد خاضوا ستة عقود من الكفاح عن طريق الخطأ وقاسوا الأمرّين هباءً على امتداد ستة عقود. قد لا تكون التحديات الداخلية لمثل هذا الاتفاق مباشرة، ولكنها ستكون حتمية وقاسية، فتفضخ هشاشة اتفاق يُفترض أن يكون تاريخياً.

أسباب أخرى تدفع إلى التحرر من العائق الذي تحوّل إليه نموذج حل الدولتين. يعود السبب الأول إلى أن الفريقين قد كشفا مواقعهما إلى درجة صارا فيها يفتقدان إلى مجال للتفاوض. ولم يعد التاريخ الطويل العلني للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية إرثاً يمكن البناء عليه، بل أضحى حاجزاً يجب تخطيه. وأي قائد إسرائيلي يقدّم للفلسطينيين أكثر مما اقترحه رئيس الوزراء إيهود أولمرت سيُتهم بالاستسلام؛ وأي قائد فلسطيني يقبل بأقل مما رفضه الرئيس عباس سيُحكم عليه بالخيانة.

كانت العملية، في السنوات الـ16 الأخيرة، أقلّ من فعالة في التعامل مع العناصر الذين يملكون القدرة الأكبر على حرفها عن مسارها. فمقوّمات حل الدولتين، كما نوقش تقليدياً، لا تبدو مغرية جداً بنظر العناصر الأساسية الأشد تجنداً للقضية ـ المستوطنون الإسرائيليون والناشطون من الجناح اليميني؛ واللاجئون الفلسطينيون والمجاهدون الإسلاميون ـ فإذا كان الهدف اتفاقاً مشروعاً ودائماً، يجب أن تؤخذ بالاعتبار أيضاً مصالحهم وتطلعاتهم.

سيستنتج البعض من هذا الكلام أن هامش التحرك ضئيل، بيد أنه استنتاج يفضح نقصاً في المخيلة، إذ يمكن إدخال عوامل جديدة وإعادة خلط أجزاء مما قد أصبح لعبة «بازل»، ناقصة. ويجب النظر إلى الاقتراحات التي تنطلق من النموذج التقليدي ويمكن القبول بها على أنها لا تتضمن رحلة خيالية في عالم حلّ الدولة الواحدة ولا خضوعاً مستسلماً للوضع الراهن. وهي لا تقدم أي ضمانات بالنجاح، ويبقى البديل منها استئناف عملية ما انفكت تلاقي الفشل...

ــ 4 ــ

اتفاق مؤقت طويل المدى: إن التسوية المنشودة، كما تُحدَّد ويجري التفاوض بشأنها حالياً، هي التسوية التي تنهي النزاع، غير أنها غير قابلة للتحقيق عملياً؛ فحتى لو وُقع عليها لن تُنفذ، وحتى لو نُفذت فلن تدوم. وعلى هذه الخلفية، تكتسي فكرة اتفاق مؤقت طويل المدى شيئاً من المنطق. فبدل حل يعد بإنهاء النزاع، يمكن الإسرائيليين والفلسطينيين أن يكافحوا من أجل اتفاق يسعى إلى تقليص مخاطر العنف من خلال محاولة وضع حدّ لبعض مظاهر الخلاف الأكثر التهاباً. ويمكن مثل هذا الاتفاق أن ينشئ جواً أكثر إيجابية ووقائع جديدة قد تستطيع أن تنهي النزاع مع الوقت. تنسحب إسرائيل من كل الضفة الغربية أو من جزء منها، ما يقلّص الاحتكاك بين الشعبين، وتُقام الترتيبات الأمنية. أما المسائل الشائكة أكثر، بما فيها الحدود النهائية، ومصير اللاجئين، والمواقع المقدسة في القدس، كما الاعتراف الفلسطيني بالدولة اليهودية الذي يوضع الآن على نار خفيفة، فسوف يُستأنف النظر فيها فقط بعد أن يعتاد الشعبان على تفاعلهما الجديد...

ليست الفكرة بجديدة. ومن بين مؤيديها مجموعة مختلطة مفاجئة من الإسرائيليين والفلسطينيين، يبقى القاسم المشترك بين أفرادها أنهم لا يؤمنون بإمكان تحقيق سلام حقيقي، بل بتعايش تُحدَّد أطره. إن الحق الإسرائيلي تاريخياً قد دعم فكرة الحكم الذاتي الفلسطيني. ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، ووزير الخارجية الحالي أفيغدور ليبرمان، وقادة حماس كلهم أثاروا إمكان اتفاق حل مؤقت. فقد تكلم شارون على معاهدة تنص على عدم المشاركة في حرب بعدما اقتنع بأن الفلسطينيين غير جاهزين للاعتراف فعلياً بحق الشعب اليهودي بوطنه، وبأن سلاماً من دون مثل هذا الاعتراف سيكون، في أفضل الأحوال، بمثابة الهدوء الحذر الذي يسبق هبوب العاصفة. أما ليبرمان، الذي صرف النظر عن الفكرة القائلة إن الفريقين يستطيعان أن ينهيا نزاعهما في المدى المنظور على أنها تضليل، فيؤيد اتفاقاً مؤقتاً طويل الأمد يركز على توفير الازدهار والأمن.

على الرغم من أن الزاوية التي ينظر منها قادة حماس إلى المسألة تختلف اختلافاً جذرياً، إلا أنهم أيضاً يرون الأمور بهذه العين. يقولون إن المسائل الوجودية لا يمكن أن تُحل الآن، فيما تزال المشاعر متأججة بهذا الشكل، مع كيان إسرائيلي يبقى عدائياً وقد اغتصب الأرض من أصحابها الفلسطينيين الأصليين. قد تجد أجيال المستقبل طريقة أكثر تناغماً للعيش معاً، ولكن بعد مرحلة تهدأ فيها الخواطر لا قبل.

في الوقت الحالي، أقصى ما يمكن تحقيقه هو هدنة تقضي بقيام دولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967.

تقع مقترحات أخرى ضمن هذه الفئة: دولة فلسطينية ضمن حدود مؤقتة أو حدود يُتفق عليها أولاً، فيما تؤجَّل المسائل المتعلقة بالقدس واللاجئين.

أحادية الطرف ـ وهي الفكرة التي تقول إن طرفاً من الطرفَين أو الطرفَين يمكنهما أن يأتيا بخطوات من تلقاء نفسيهما بدلاً من أن يفعلا ذلك عبر اتفاق معين ـ هي منهجية مختلفة، ويمكن القول إنها الأرجح بينها. وفكرة رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض التي تقضي ببناء مؤسسات الدولة حتى فيما يستمر الاحتلال هي أحد الأمثلة على ذلك، وقد يمثّل قرار إسرائيلي يقضي بالانسحاب من أجزاء من الضفة الغربية مثلاً آخر. تتباين كل هذه النماذج إلاّ من ناحية واحدة: الإيمان بأنه يمكن الإتيان بعمل ما، ولو تعذّرت تسوية كل الأمور.

تواجه هذه الاحتمالاتِ المختلفة مشاكل جدية، ليس أقلها التباينات الكبيرة بين تقييمات الطرفين بالنسبة إلى ما يمكن أن يكون مقبولاً. فمن أي مقدار من أراضي الضفة الغربية ستنسحب إسرائيل؟ وهل سيشمل الأمر أي جزء من القدس؟ بالنسبة إلى بعض الفلسطينيين، تستلزم الهدنة انسحاباً حتى حدود عام 1967، مع مقايضات متساوية بين أراض تحتفظ بها إسرائيل وأراض في إسرائيل تُسلّم للفلسطينيين. وأي حل أقل من هذا في نظرهم قد يهدد بتأبيد الاحتلال والتخفيف من الضغط لإنهائه.

أما الإسرائيليون، الذين يجدون صعوبة في القبول بمثل هذه النتيجة كجزء من اتفاق دائم، فسيعتبرون أنه من شبه المستحيل التغاضي عن الأمر إذا كان جزءاً من اتفاق مؤقت.
وعلى نحو مشابه، قد يخشى الفلسطينيون من أن تبقى القضيتان العالقتان، وهما اللاجئون والقدس، مؤجلتين إلى الأبد بعد حلّ مسألة الأرض جوهرياً. وقد يشك الإسرائيليون في أن الفلسطينيين، بعد أن تُلبّى أساساً تطلعاتهم في ما يخص الأرض، سيعتمدون مواقف متطرفة بالنسبة إلى القضايا الباقية. وعندئذ يُطرح السؤال عن المدى الذي يمكن أن يدومه المؤقت ويستمر بالادعاء بأنه مؤقت.

كيف يمكن أن يعمل مثل هذا الحل المؤقت؟ أمر يصعب إدراكه. ولكن إذا كانت التسوية التي تنهي النزاع بعيدة المنال، وإذا كان استمرار الوضع الراهن احتمالاً مستبعداً، فالخيارات التي تقع بين هذين الحدّين تستحق التدقيق.

ــ 5 ــ
إن ذكر الأردن كجزء محتمل من الأحجية يأتي محملاً بمخزون ثقيل. فذكريات المعركة الدموية بين الفلسطينييين وشرق الأردن سنة 1970 لا تزال ماثلة في الأذهان، ينضم إليها القلق الفلسطيني من جهود المملكة الهاشمية لاستملاك قضيتهم الوطنية. ولا يُنسى أيضاً الطيف الذي تلقيه وجهة نظر اعتمدها مطولاً إسرائيليون عديدون تقول إن الأردن هي فلسطين، وبالتالي لا حاجة إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة أخرى أو إلى انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية. رسمياً على الأقل، لا أحد، لا إسرائيل، ولا الولايات المتحدة ولا القادة الفلسطينيون، وحتماً لا القيادة الأردنية، سيجازف حالياً باقتراح أكثر من دور داعم تلعبه الأردن في معاهدة سلام...

ــ 6 ــ

يمكن التفكير في مقاربة أكثر جذرية وأبلغ تأثيراً، وهي محاولة حل النزاع، لا من خلال معالجة القضايا التي تبلورت سنة 1967 وحسب، بل أيضاً تلك التي قادت إلى أحداث عام 1948: مسألة القبول الفلسطيني بدولة يهودية والاعتراف الإسرائيلي بتجربة الفلسطينيين التاريخية. ستضع مثل هذه المقاربة المظالم التاريخية في الواجهة. بالنسبة إلى المنتقدين، قد يكون ذلك على الأرجح إحدى أسوأ ميزاتها، وسيشيرون إلى أن اتفاقيتي السلام اللتين عقدتهما إسرائيل مع مصر والأردن، مهما كانتا فاترتين، قد صمدتا، وأن تخطّي جراح الماضي يمكنه أن يأتي فقط كنتيجة لاتفاق ما، لا كمسبّب له. هذا صحيح، مع أن الفرق بين الفلسطينيين ودول عربية أخرى يكمن تحديداً في علاقة الأوّلين المختلفة بإسرائيل، ما يمكّن من حل النزاع في الحاضر من دون الحكم على ماضيه. وقد يضيف المنتقدون أن المفاوضات قد تصبح معقدة للغاية إذا ما وُسِّع نطاقها، مع أنّ الحجج قد تبدو أكثر إقناعاً لولا 16 عاماً من محاولات صنع سلام باءت بالفشل.

يمكن المرء أن يتخيل مقاربتين مختلفتين. حسب الأولى، يكمل الإسرائيليون والفلسطينيون مفاوضاتهما حول الحدود والقدس واللاجئين والأمن مع مسار موازٍ يُخصَّص لقضايا بقيت متروكة جانباً منذ عام 1948. ويكون الأمل بأن إحراز تقدم في مسائل 1948 سيزيد الثقة بإمكان إنهاء النزاع فعلياً، ما يقود الفريقين إلى إظهار قدر أكبر من المرونة في قضايا 1967.

مقاربة ثانية تذهب بهذه القضايا خطوة إضافية إلى الأمام. فتعترف بأنه لا يمكن إنهاء النزاع من دون تصفية نزيهة لحسابات الماضي، وتقرّ بأن المفاوضات، كما أُجريت تقليدياً، بلغت نقطة التحولات السلبية. وتحاول أن تعيد تأطير المسائل وصياغتها صياغة شاملة من جديد. فتوضع عندئذ الهموم الأساسية المرتبطة بسنة 1948 في الواجهة: إذا كان الفلسطينيون يستطيعون أن يعبّروا عن القبول بدولة يهودية بطريقة يعتبرها الإسرائيليون صادقة، فيما يُحافظ على الرواية الفلسطينية عن الماضي، وحقوق اللاجئين ومصالح أقلية إسرائيل الفلسطينية؛ وإذا كانت إسرائيل قادرة على الاعتراف بدورها في مأساة الفلسطينيين، وعلى احترام حقوقهم ومراعاتها من دون أن يُهدَّد طابعها اليهودي. وستُناقش كل المسائل الأخرى وتُعالَج من نقطة الانطلاق هذه.

قد يصل الفريقان إلى أجوبة مألوفة، وتدفع كل الأسباب إلى التنبؤ بنتيجة تتضمن دولتين تُقامان على أساس حدود عام 1967. وسيتوجب على الاحتلال أن ينتهي. ولكن النتيجة ستتأتى من عملية مختلفة وتلبي هدفاً مختلفاً: التركيز، لا على إنهاء الاحتلال وحسب، بل أيضاً على تحقيق ما يتوق إليه الشعبان أساساً.

إن السعي إلى اتفاق يواجه تلك المسائل قد يُعدّ جهداً متعباً. وليست النتيجة مضمونة، لأن الحوار لم يبدأ بعد. لكن، سيكون الجهد حديث العهد، والقادة لم تُشوّه صورهم بعد، ولا أثقلهم ما قالوا أو فعلوا في المفاوضات الماضية...

ــ 7 ــ
التزمت إدارة أوباما منذ البداية بمراجعات استراتيجية. فنوقشت السياسة الأميركية تجاه إيران وأُعيد تحديدها. وشهدت الأشهر الأولى نقاشات بشأن العراق. ويبدو أنه، في ما يخص بورما والسودان وكوريا الشمالية، جرت مشاورات جوهرية بشأن افتراضات ماضية وأُعيد النظر فيها. بالنسبة إلى أفغانستان وباكستان، لم تضع بعد الإدارة الاستنتاجات التي صدرت عن عملية تقييم بين الوكالات في آذار موضع التنفيذ قبل أن يصدر الرئيس مرسوماً يقضي بمراجعة تلك المراجعة الأساسية.

في هذه الأثناء، لم تظهر أي إشارة تدل على إجراء ما يشبه إعادة تقييم شاملة على الجبهة الإسرائيلية الفلسطينية. عُدّلت التكتيكات، فركّزت الإدارة على امتداد المستوطنات الإسرائيلية وعلى خطوات نحو تطبيع العلاقات مع دول عربية. العلاقات مع إسرائيل تزداد فتوراً، لكن يبدو أن منطق المصلحة يبقى متحكماً بالعلاقة في المسائل الجوهرية.

يتمثّل الهدف بتحقيق اتفاق شامل من خلال إقناع إسرائيل بالتخلي عن مزيد من الأراضي، والفلسطينيين بالتخفيف من مطالبهم فيما يقايضون مرونة إسرائيل حيال القدس بتسويات بشأن اللاجئين.

يمكن القول إن أسباباً متعددة تكمن وراء ِعدم استعداد الولايات المتحدة لتغيير الطريقة التي تفكر فيها في النزاع وفي حله الممكن. فثمة اعتقاد متأصل لدى كل إدارة تتعاقب على الحكم بأن الإدارة التي سبقتها لم تبذل الجهد الكافي أو أنها لم تحسن المحاولة. كما أنها تخشى من أن يبدو التراجع، بنظر المنتقدين، خطوة إلى الوراء أشبه بالانسحاب، لا التزاماً بتفكير منتج. ولكن لا بد من وجود طريقة أفضل من التخبط والفشل اللذين اعتاد عليهما الجميع.

منذ عقد مضى، قرر كلينتون أن يحل النزاع الإسرائيلي ــــ الفلسطيني. في ذلك الزمن، كان يمكن المرء أن يصف تلك المغامرة بأنها جسورة ولو أتت إدارتها سيئة. وبعد سنوات، عندما أكبّ الرئيس جورج دبليو بوش على قضية صنع السلام من خلال اتباع القواعد العامة ذاتها، كان يمكن توصيف جهوده بأنها أتت متأخرة وغير واقعية إلى حد ما، على الرغم من أنها كانت طموحة. إذا اختار الرئيس أوباما الطريق نفسه، من دون إعادة التفكير في الأساسيات، فلن تتصف جهوده لا بالجسارة ولا بالطموح، بل ستبقى من دون جدوى. لكن لا أعذار هذه المرة.
"الأخبار"

التعليقات