31/10/2010 - 11:02

إصلاح العمل الاستخباراتي../ جميل مطر

إصلاح العمل الاستخباراتي../ جميل مطر
يقدم الاصطلاحيون في المؤسسة الأمنية الأمريكية الجهود والمحاولات المبذولة لإصلاح أجهزة الأمن الاستخباراتي أسباباً عديدة تبرر الحاجة إلى الإصلاح، منها على سبيل المثال وليس الحصر، المبالغة في استخدام السرية وتدهور التعليم وانخفاض نسبة الخريجين الذين يجيدون لغات أجنبية والنقص الشديد في استخدام الصحف لمراسلين في الخارج، بعد أن كانوا في وقت من الأوقات أحد أهم مصادر المعلومات. هناك أيضاً الدور السلبي الذي يلعبه التركيز على الإرهاب كعدو أساسي وشامل وأوحد للأمن الأمريكي، والحالة المتدنية لسمعة أجهزة الاستخبارات الأمريكية وسمعة بعض العاملين فيها، أو في خدمتها وتدهور معنويات العناصر الجيدة والكفؤة.

وقد نشر قبل أسابيع قليلة تيم وينر Tim Weiner العميل السابق في وكالة المخابرات الأمريكية كتابه بعنوان “إرث الرماد” Legacy of Ashes، ويحكي فيه تاريخ الوكالة منذ نشأتها في عام ،1947 ويقر بأن “أقوى دولة في تاريخ الحضارة فشلت في إقامة جهاز جاسوسية من الطراز الأول”، ويرسم صورة لوكالة “مارقة” حسب تعبيره، “تقضي وقتاً أطول في ممارسة أنشطة قلب أنظمة حكم من الوقت الذي تقضيه في جمع معلومات عن أعداء أمريكا”.

وتذكّرنا هذه الكلمات بالدور الذي لعبته هذه الوكالة في انقلابات سوريا المبكرة وانقلابات أمريكا اللاتينية، وأبرزها الانقلاب الذي قام به الجنرال بينوشيه في شيلي واغتيال رئيس الدولة، وكذلك بالمحاولة الفاشلة لغزو كوبا التي وافق على تنفيذها الرئيس جون كينيدي، وكانت واحدة من أسوأ ما سجله التاريخ لولايته قصيرة الأجل.

ويحكي الكتاب قصة روبرت جيتس وزير الدفاع الحالي، عندما كان مديراً لوكالة المخابرات الأمريكية أثناء حرب الكويت. تقول الرواية إن جيتس عرف بأمر غزو العراق للكويت عندما سألته صديقة خلال نزهة عائلية، ماذا تفعل هنا؟ فاستغرب السؤال ورد بسؤال آخر عما تعنيه بسؤالها، فجاءت إجابتها، ألم تسمع بالغزو؟ ولم يكن قد سمع به لأنه سألها بدوره وهو مدير وكالة المخابرات الأمريكية، أي غزو؟.

ولا يخلو الكتاب من انتقادات شديدة تقلل في الواقع من أهمية ما تدعي مؤسسة الأمن الأمريكية أنها إنجازات حققتها، مثل نجاحها في إسقاط مصدق عام 1953، ونجاحها في تثبيت انقلاب حزب البعث العراقي في عام 1963، وهنا يبدو أن المؤلف لجأ إلى المبالغة في افتعال الأخطاء أو تضخيمها. إذ لا يوجد صلة مباشرة أو مؤكدة تربط بين سقوط مصدق وثورة الخميني بعد 26 عاماً، أو بين انقلاب البعث في 1963 والحرب الأمريكية ضد العراق في 2003.

ولا يقتصر الفشل الاستخباراتي الأمريكي على إخفاقات في التعامل مع أعداء أمريكا، بل امتد في أحيان كثيرة إلى إحاقة الضرر بمواطنين أمريكيين، فالأمريكيون يتحدثون عن قضية فاليري زوجة السفير الأمريكي، الذي كذب معلومة عن أن حكومة صدام حسين كانت قد تعاقدت مع حكومة النيجر على استيراد مواد لازمة لإنتاج أسلحة نووية. ومازالت هذه القضية تمثل الدليل الأقوى على تردي معنويات العاملين في الجهاز بسبب ما تقوم به القيادة السياسية لإنقاذ ماء وجهها على حساب صورة وكالات المخابرات الأمريكية وسمعتها وأمن وسلامة موظفيها.

وتؤكد هذا الأمر الرواية المعروفة عن مارلين ماكافي السفيرة الأمريكية في جواتيمالا. إذ حدث في عام 1994 أن كلفت وكالة المخابرات الأمريكية ضباطاً في الجيش الجواتيمالي زرع أجهزة تنصت في غرفة نوم السفيرة الأمريكية في العاصمة الجواتيمالية. وفي الليلة الأولى لتركيب الأجهزة استمع عملاء وكالة المخابرات الأمريكية إلى “همس عاطفي” صادر عن السفيرة في فراشها. ووصل الأمر إلى القيادات في واشنطن، التي لأسباب سياسية، روجت الشائعات عن أن السفيرة وقعت في حب سكرتيرتها الخاصة، وأنهما تتقاسمان الفراش. وكانت الفضيحة الأكبر عندما انكشف أن أجهزة التسجيل سجلت مداعبة السفيرة لكلبتها المدللة، وأنها كانت تهمس لكيلا توقظ زوجها النائم إلى جانبها في الفراش.

هذه الرواية واحدة من عشرات من روايات نشرت عن قصور في أخلاقيات وكالات المخابرات، ومن مئات لم تنشر فتحولت إلى شائعات. هذه الروايات والسمعة التي تلوثت بسببها ولأسباب أخرى، وقصور الأداء، دفعت جميعها بعض علماء السياسة والاجتماع في الغرب إلى طرح قضية تزداد أهمية مع مرور الوقت، وهي قضية “إصلاح القطاع الأمني” كشرط ضروري لإصلاح الدولة، أو على الأقل كشرط مواز للشروط الأخرى كتنشيط المجتمع المدني ودعم الشفافية والحقوق والحريات ومحاربة الفساد وحرية تداول السلطة. عندئذ خرج من ينادي بتسريع معدلات تكليف شركات خاصة لأداء معظم المهام التي جرى العرف على أن تقوم بها أجهزة استخبارات حكومية، حتى تلك التي تتبع مباشرة رئيس الدولة.

وقيل في دعم هذا الاتجاه، إن الجيوش النظامية تفقد بالتدريج أهميتها في حروب القرن الجديد، إذا صدقت نظريات وتحليلات استراتيجية تتنبأ باستمرار نمط الحروب ضد الإرهاب وزيادة عددها. ولدى هؤلاء رصيد هائل من الإحصاءات التي تثبت أن تكلفة الحربين الناشبتين حالياً في أفغانستان والعراق، وبخاصة الأخيرة، تجاوزت كل ما كان متوقعاً، ولن تستطيع دولة مهما كانت قوية وغنية أن تتحمل طويلاً تكلفة حروب من هذا النوع.

أثبتت الحربان أموراً أخرى لا تقل أهمية. أثبتت أن القوات المسلحة التقليدية فشلت في أول تجربة تدخلها في القرن الجديد في حروب لا تتواجه فيها مع قوات تقليدية مماثلة. الثابت في الفن العسكري أن الجيوش أقدر كثيراً على التفاهم فيما بينها، حرباً أو سلماً، ولكنها أثبتت عجزاً في مواجهة الشعوب وعصابات المدن وميليشيات الطوائف والقبائل، أو حتى فهم طريقة تفكيرها. وقد استهانت القيادة السياسية الأمريكية بدرس التجربة الفاشلة التي دخلتها القوات الأمريكية لتحرير الأسرى في إيران، وإن قيل إنها الآن تضع هذا الدرس في اعتبارها وهي تخطط لاحتمال نشوب حرب جديدة ضد إيران.

لذلك يزداد الميل، وأحياناً الاقتناع، بأن حروب المستقبل، وحروب الحاضر أيضاً، ستعتمد أكثر فأكثر على العنصر الاستخباراتي بمعناه التقليدي، وأيضاً بالمعنى الذي استحدثه دونالد رامسفيلد بدعم القوات الخاصة واستخدامها بالفعل في عديد من دول إفريقيا والعراق وأفغانستان. وستعتمد بالتالي أكثر على شركات استخبارات من القطاع الخاص، باعتبار أن الأعمال التي سيكلف بها “جندي المستقبل” المدرب على حروب الإرهاب ستتطلب “طبيعة أو شخصية لا تلتزم بالقانون أو العدالة أو الأخلاق”، ولا يخضع لبيروقراطية مدنية تقيد حركته، أو يكون معرضاً للمساءلة والمحاسبة أمام هيئة تشريعية أو أمام محاكم عسكرية أو مدنية. وستتطلب أيضاً أن يكون المقاتل (أو القاتل) على دراية ممتازة باللغات واللهجات المحلية وعادات الشعوب وثقافتها وجغرافية المدن، وبخاصة عشوائيتها، وكلها شروط عجزت الحكومات عن توفيرها بين جنودها النظاميين بحكم عددهم ونظم تدريبهم وتجنيدهم وتسريحهم، وبحكم وجود دستور وقوانين.

ليس صعباً التنبؤ بزيادة مفرطة في الاستعانة بالقطاع الخاص لأداء مهام استخباراتية، بعد أن نجحت شركات الأمن الخاصة في أن تجعل الاستغناء عن خدماتها أمراً يكاد يكون في حكم المستحيل. وليس سهلاً تصور عواقب هذه الاستعانة المتزايدة، فبعضها يبدو كارثياً، يكفي أن نتخيل شركة من هذه الشركات بعد أن أصبح لها أسطول وسلاح جوي وصواريخ قصيرة أو متوسطة المدى، قررت ذات يوم العمل باستقلالية، وهو ما حدث فعلاً عند غزو دولة جزر القمر، أو عرضت خدماتها وسط المعارك لأعلى أجر، وهو ما حدث فعلاً خلال الحربين الأهليتين في سيراليون وليبيريا، وقبلهما في حربي انجولا والكونغو، أو نتخيل أن تبيع خدماتها لأطراف متعددة خلال حرب أو معركة بعينها، وهو ما يتردد وقوعه في العراق، عندما عملت شركة أمن خاصة لحساب القوات المسلحة الأمريكية وفي الوقت نفسه لحساب شركة نفط قطاع خاص، وضد رغبة القيادة العسكرية الأمريكية.

أكرر، بعض العواقب سيكون كارثياً.
"الخليج"

التعليقات