31/10/2010 - 11:02

إعادة اختراع العجلة../ خليل شاهين

إعادة اختراع العجلة../ خليل شاهين
لا يريد لنا كبير المفاوضين إعادة اختراع العجلة، إنه يكرر ذلك على مسامعنا في المؤتمرات الصحافية وعلى الفضائيات، كأننا نصر على إعادة اختراع العجلة، وكأننا لا نعرف أن المفاوضات تقترب من نهاية عقدها الثاني.

كل شيء واضح من وجهة نظر كبير المفاوضين، فقضايا التفاوض أشبعت نقاشا، ولا تحتاج إلى إعادة اختراع العجلة، لاسيما أن "دائرة شؤون عجلة المفاوضات" في منظمة التحرير الفلسطينية تعمل وفق إستراتيجية تفاوضية محكمة، لكن الرأي العام الفلسطيني غير قادر على استيعابها وهضمها!

والعجلة تثير لدي ذكريات أقدم من اختراع لقب "كبير المفاوضين"، فقد كانت موضوع أول بحث أعده في أولى سنوات دراستي الجامعية قبل ثلاثين عاما كاملة. كان البحث عن اختراع العجلة، وكان بسيطا ومدهشا وممتعا في آن، وكم تمنيت لو أن نسخة منه بحوزتي اليوم لأهديها إلى كبير المفاوضين والصحافيين الذين يستمعون على مضض في كل مؤتمر صحافي إلى ما يحفظونه عن ظهر قلب من تكرار الكلام الممجوج على لسانه، خصوصا عقب كل لقاء ثنائي بين الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت.

وأذكر أن من أهم استنتاجات هذا البحث أن أبسط اختراع ابتدعه عقل الإنسان القديم للعجلة هو الدحرجة على جذوع الأشجار. هكذا كانت تنقل الصخور الكبيرة، وربما بهذه الطريقة نقل قدماء المصريين حجارة الأهرامات. ثم تطورت الاختراعات المستندة إلى فكرة "الأجسام الدوارة" مرورا بالدراجة وليس انتهاء بالسيارة والطائرة. الفكرة الأهم في كل ذلك أن الإنسان ما كان له أن يسجل فتوحاته العلمية في ميدان العجلة لولا ذلك الجهد الكبير والشاق في الدحرجة على جذوع الأشجار. كان هذا الجهد جماعيا، وصنع في أشكاله الأبسط معجزات كما هي الأهرامات وغيرها.

لكن كبير المفاوضين لا يرى في العجلة إلا "دولاب" السيارة، ولا يدرك أن من ابتكر نموذج العجلة الأولى في القدم، ومن صنع السيارة ويحرك عجلاتها اليوم، هو الإنسان، عبر جهد إبداعي جماعي. إنه لا يرى سوى العجلة في حالة دوران، من دون علاقتها بمن يحركها، ولا بما تحركه هي.

لذلك، لا يحتاج كبير المفاوضين إلى إعادة اختراع العجلة، وهي سبب وصوله في كل مرة إلى مواقع التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي، كما أنه لا يحتاج إلى اكتشاف دور من يقوم بتحريك العجلة والتحكم في اتجاه حركتها، وهو الإنسان.

المهم أن عجلة المفاوضات تدور، ولذلك هناك دائرة لشؤونها في منظمة التحرير، وليس من دور للإنسان الفلسطيني في تحريكها أو التحكم بمسارها. وبالتالي، عندما تتوقف العجلة، لا يدرك كبير المفاوضين أهمية دور هذا الإنسان في إعادة تحريكها، والأهم التحكم في مسارها ومآلها النهائي.

والحال هكذا، يدير كبير المفاوضين ظهره للصحافيين في ختام مؤتمره الصحافي عقب لقاء عباس – أولمرت الأخير، فهو لم ير الناس أصلا في القاعة، فكيف له أن يهتم لأمر من يجول في خاطره تساؤل عن مسار عجلة المفاوضات ومآلها النهائي، وهو المؤمن بقدراته الخارقة في إقناع الإسرائيليين والأميركيين بعدم وجود ما يبرر إعادة اختراع العجلة؟!

كبير المفاوضين "كبير" لخبرته المديدة في التفاوض، منذ انطلاق مؤتمر مدريد، ومن دون استمرار عجلة المفاوضات في الدوران، لا يعود "كبيرا". لذلك، يعتبر دوران العجلة حتى من دون هدي مصلحة شخصية له، إنها مهنته، ولا يقبل مزاحمة الناس له فيها، ولا مشاركتهم في معرفة نقطة توقف عجلة المفاوضات. لا حل لهذه المعضلة إلا باقتراح بديل لها علاقة بالمهنة إن توقفت العجلة، وربما يكون ذلك تحويل "دائرة شؤون المفاوضات" إلى "أكاديمية شؤون المفاوضات" على أن يكون عميدها كبير المفاوضين، الذي لن يبخل بوضع خبراته التفاوضية في متناول طالبي علم التفاوض، فما أحوجنا إلى أجيال من المفاوضين المؤهلين لمتابعة مسيرة من سبقوهم من مدريد إلى أوسلو وباريس والقاهرة وطابا وشرم الشيخ وكامب ديفيد، وصولا إلى اللقاءات الثنائية، ومن ثم مؤتمر الخريف، ومن بعدها ستة أشهر من التفاوض يعدنا بها الرئيس عباس.

مسيرة حافلة بفنون التفاوض وفق إستراتيجية لا يعرفها سوى كبير المفاوضين ومن هو أكبر منه في رئاسة "طاقم الصياغة" الفلسطيني، من خبراء اتفاق أوسلو والحلول الانتقالية، وهي إستراتيجية تفاوضية تلخصها العبارة المصرية الشهيرة التي أضحت مثلا شعبيا: "كل ما تتزنق اقلع حاجة". هكذا، يعتمد المفاوض الفلسطيني تكتيك التعري التدريجي قبل كل "اشتباك تفاوضي"، حتى إذا ما شارف على "الاشتباك" بانت عورته بعد "قلع حاجة" وراء الأخرى.

وفق إستراتيجية الـ "ستربتيز" هذه، تنازل المفاوض الفلسطيني عن ما كان هو يدعي تمسكه به كشروط لحضور مؤتمر الخريف، حتى قبل أن تبدأ المفاوضات. لحس في الصباح ما كان ادعاه في المساء، فلم يعد يتمسك بوجوب التوصل إلى اتفاق إطار أو اتفاق مبادئ يشمل قضايا الحل النهائي قبل هذا المؤتمر، ولم يعد يصر على الجدول الزمني، ولا آليات التنفيذ، ولا الرقابة الدولية، ولا مرجعية الشرعية الدولية، وكذلك العربية، التي أمضي شهورا في محاولة إقناع حركة حماس بوجوب الالتزام بها، أو على الأقل احترامها. لم يعد يطالب الحكومة الإسرائيلية باحترامها، ولا يشترط على الأميركيين والأوروبيين مطالبة إسرائيل باحترام مرجعية الشرعية الدولية قبل مؤتمر الخريف، فهذا شرط يخص "حماس" فيما تتحرر منه إسرائيل. ولم يعد المفاوض الفلسطيني يصر على شمولية التسوية، فيكفي مجرد "حضور" سورية ولبنان، الذي دمرته إسرائيل العام الماضي ولم يتم بعد إعمار منازل ضحايا عدوانها بعد، بل وبات هذا الحضور أمرا "يهم" الجانب الفلسطيني، لكنه ليس شرطا لحضوره المؤتمر.

وافق الرئيس وطاقمه المفاوض على كل ما اشترطته إسرائيل لاستمرار دوران عجلة المفاوضات وصولا إلى "بيان مشترك" أو "إعلان نوايا" غير ملزم قبل مؤتمر الخريف، وارتضى الجانب الفلسطيني لنفسه أن يلعب دور ورقة التوت التي تغطي إخفاقات سياسة أولمرت الداخلية، وتغطي السعي نحو التطبيع مع عدد من العواصم العربية والإسلامية، كما تغطي قبل ذلك إخفاقات سياسة الرئيس الأميركي جورج بوش الشرق أوسطية. باختصار، تحولت إخفاقات إستراتيجية التفاوض الفلسطينية إلى عامل يوظف في خدمة السياسة الداخلية والخارجية لكل من إسرائيل والولايات المتحدة، بدلا من توظيف إخفاقات السياسة الحمقاء لهاتين الدولتين لخدمة إستراتيجية التفاوض الفلسطينية.

في مسار كهذا، تدور عجلة المفاوضات من دون أن يكون للجانب الفلسطيني أي دور مؤثر في تحريكها أو التحكم بمسارها ومآلها النهائي، لكن حضوره ضروري لأنه لا يعدو كونه "زيت التشحيم" اللازم لاستمرار دوران هذه العجلة.

وبالتنازل المسبق عن شروطه، وقبلها تنصل الرئيس عباس علنا في نيويورك عن ثنائية العلاقة الجدلية بين "غصن الزيتون والمقاومة"، أطلق الجانب الفلسطيني رصاصة الرحمة على ما يسميه البعض "اشتباكا تفاوضيا"، فلم يعد هناك ميدان للاشتباك أصلا. لقد "انزنق" قبل أن تبدأ المفاوضات، وبدلا من أن "يقلع حاجة" أقدم على "قلع كل حاجة"، فلماذا يذهب عاريا إلى مؤتمر الخريف ما لم يكن قد وقع مرة أخرى في الشرك ذاته: الرهان على انطلاق المفاوضات حول قضايا الحل النهائي بعد المؤتمر، واستمرار ممارسة سياسة تعتبر المفاوضات هدفا بحد ذاته، وتواصل التفاوض من أجل التفاوض كما حدث منذ أوسلو، فيما كانت إسرائيل تفرض على أرض الواقع ملامح الحل النهائي، في شتى مجالات السياسة والاقتصاد والجغرافيا؟!

ما عاد للفلسطينيين المنقسمين على أنفسهم "مصلحة وطنية" يدعيها البعض في انعقاد مؤتمر الخريف، ولا يمكن للعجلة أن تدور في خدمة الفلسطينيين المستبعدين من ممارسة فعل التأثير المسبق على حركة واتجاه العجلة، ما لم يدرك كبير المفاوضين، ومن قبله "كبيره" الذي يقود "طاقم الصياغة" كما قاد "طاقم أوسلو"، أن العجلة تدور لأن من ورائها ناس تدفعها للحركة وتمسك بزمام الأمور في توجيهها ووقف حركتها عند النقطة التي تريدها الناس.

العجلة يمكن أن تتحرك "فلسطينيا" من دون ناس، كما تحركت في غرف أوسلو المغلقة، لكنها لا يمكن أن تصل إلى نهاية أفضل من أوسلو، وعندها لا بد من البحث عن مهن جديدة لمن يكررون تذكيرنا بعدم الحاجة لاختراع العجلة، وربما تكون وظائف تؤمن مستقبلهم وأرزاقهم في "أكاديمية شؤون المفاوضات"!

التعليقات