31/10/2010 - 11:02

إعلان الدولة بين كوسوفو وفلسطين../ الياس سحّاب

إعلان الدولة بين كوسوفو وفلسطين../ الياس سحّاب
من المؤكد أن خروج فكرة الدولة الفلسطينية الى حيز الوجود الفعلي، كانت منذ البداية، وستبقى حتى تحققها، محكومة بالظروف النهائية التي ستكون في النهاية حاضنة للفكرة، تمهيداً لتحولها الى حقيقة واقعة.

معنى ذلك بالعبارات المباشرة، ان فكرة دولة فلسطين، التي ما زالت فكرة نظرية منذ عقود طويلة، يمكن ان تخرج الى الوجود بأشكال مختلفة، والأمر الذي سيحدد شكل هذه الدولة وقدرتها على النمو والاستمرار، هو الظروف السياسية الحاضنة لتحويل فكرة الدولة “من بيضة الى دجاجة”.

على سبيل المثال، فإن افتراض تحول دولة فلسطين من فكرة نظرية الى أمر واقع، من خلال ظروف تتفوق فيها القوة العربية (والفلسطينية) على القوة “الاسرائيلية” (ومن وراءها) في كفتي ميزان الصراع، إن افتراضاً كهذا سيؤدي حتماً الى دولة فلسطينية قوية حتما، مكتملة الارادة السياسية المستقلة، مكتملة السيادة، على أرض فلسطينية لا تقل شبراً واحداً عما حدده لها قرار التقسيم، الصادر في العام 1947.

أما افتراض هذا التحول من النظري الى العملي، في حاضنة ظروف توازن للقوى بين العرب و”إسرائيل”، فالنتيجة العملية ستكون حتماً على درجة أقل وأضعف من الحالة الاولى. أو اذا كان التحول سيتم في ظروف عجز عربي كامل، وتفسخ وطني فلسطيني كامل (كما هو الوضع الآن فعلا)، فليس على العرب والفلسطينيين إلا توقع خروج مسخ سياسي، لا يستحق بأية مقاييس لقب دولة، إلا عند الذين يريدون اقناع العالم بهذا التزوير التاريخي لقضية فلسطين.

هذا كلام ضروري كمقدمة لقيام البعض مؤخراً بالحديث عن احتمال قيام تشابه بين اعلان كوسوفو استقلالها عن يوغسلافيا من طرف واحد، من جهة، واحتمال قيام الفلسطينيين بخطوة مماثلة من جهة ثانية.

إن حديثاً كهذا، مهما كان مصدره، لا يعدو كونه حديثاً نظرياً معلقاً في الهواء، لا علاقة له لا بجذر القضية، في كل من كوسوفو وفلسطين، ولا بالظروف الراهنة المحيطة، بكوسوفو من جهة، وبفلسطين من جهة ثانية.

فعلاقة كوسوفو بيوغسلافيا التاريخية، ليست مختلفة فقط عن علاقة فلسطين بـ“إسرائيل”، بل هي علاقة تناقض كامل.

لقد تشكلت الحدود الجديدة لبعض الدول الاوروبية (خاصة في البلقان واوروبا الوسطى) في اعقاب الحرب العالمية الثانية، بناء على حل ديمقراطي إنساني بالتراضي لمشكلات تداخل الأقليات العرقية ببلاد ذات أكثريات عرقية مختلفة، فولد الانتصار على النازية والفاشية حالة من الاقتناع بايجاد حلول لتلك الاقليات، عن غير طريق النازية أو الفاشية، من خلال ابتداع أنظمة فدرالية تمنح الأقليات العرقية في داخلها نوعاً من الاستقلال الذاتي. ولم يكن هذا الوضع مطبقا بشكل متشابه في شتى دول البلقان، لكن الدولة التي خرجت بنظام سياسي هو الأقرب الى الحالة الفدرالية المثالية، كانت يوغسلافيا، ذات الأكثرية الصربية، وذات الأقليات المتعددة مثل الكروات والبوسنيين والكوسوفيين (الذين يتداخلون عرقيا مع ألبانيا، أكثر من تداخلهم مع صربيا، العمود الفقري ليوغسلافيا السابقة).

ومعلوم ان الاتحاد اليوغسلافي الفدرالي قد تراخى بالتدرج بعد رحيل رجله التاريخي تيتو، في ظروف اقتراب الحرب الباردة من نهايتها، وتفكك المعسكر الاشتراكي. وقد عجل في تفكك الاتحاد، بعد رحيل تيتو وتفكك المعسكر الاشتراكي، انتصار التيار القومي الشوفيني في الاقليم الصربي، فراح يضغط بشوفينيته على الأقاليم الأخرى، حتى انفجرت عرقياً، فتفكك الاتحاد بشكل طبيعي وبتدخل خفي من الولايات المتحدة، وبدأت كل أقلية تبحث عن الفوز بالكيان السياسي المستقل المعبر عنها.

مع ذلك، ولولا أن هذا التفكك لم يكن يسير في خط مواز للمصالح الأمريكية، لأنه بالمقابل مناقض للمصالح الروسية (المتحالفة عرقياً ومذهبياً مع صربيا)، لما امكن لنا ان نرى هذا الحشد من القوى الدولية الكبرى يقف اليوم مؤيدا لاستقلال اقليم كوسوفو عن صربيا، حتى ان الأسهل هو إحصاء المعارضين لهذا الاستقلال، الذين لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين مثل روسيا ورومانيا واسبانيا، وقليل غيرها.

أما العلاقة بين فلسطين و”إسرائيل” فهي لم تكن في يوم من الايام علاقة فدرالية تسعى الى الانفصال، لقد قامت دولة “إسرائيل”، على عكس ذلك، على استقدام جحافل المهاجرين اليهود الى ارض فلسطين التاريخية ذات الطابع العربي الصافي قبل ذلك (ولمئات السنين). وتطورت الظروف حتى اصبحت “إسرائيل” هذه تحتل كامل التراب الفلسطيني، وان كان القسم الاكبر منه أصبح يحمل قانونيا اسم “إسرائيل”، والقسم الأصغر (المتضائل بمزيد من المستوطنات) يحمل اسم المناطق المحتلة.

فإذا عدنا الى المقارنة الأولى بين قضيتي كوسوفو وفلسطين، فإننا نرى خروج كوسوفو من العباءة الصربية يحظى بتأييد دولي جامع، على رأسه الولايات المتحدة العظمى، ذات المصلحة المباشرة في هذا الخروج. أما في حالة فلسطين و”إسرائيل”، فإننا لا نكاد نرى في الساحة الدولية إلا قوى تدعم الاحتلال “الإسرائيلي” والمستوطنات “الاسرائيلية”، تحت اسم جديد في القانون الدولي هو “أمن اسرائيل”. صحيح أن الرؤساء الأمريكيين، على الأقل من كلينتون، الى بوش الابن، يتحدثون كلما ضبطوا بمواقف الانحياز الصارخ لـ“إسرائيل” (وما أكثرها)، يتحدثون فجأة في كلام عابر بلا أي سند، عن فكرة قيام دولة فلسطينية، لكن الادارة الأمريكية بالذات، ومنذ سنوات بل عقود طويلة، لا تمارس في ميادين السياسة العملية القصيرة والطويلة الأجل، إلا ما يزيد من توسع مساحة ونفوذ الاحتلال “الإسرائيلي”، ويقلص الى أبعد مدى ممكن ما تبقى من أرض فلسطين العربية لتنفيذ فكرة الدولة. ليس ذلك فقط، بل ان الولايات المتحدة عملت وتعمل على تشجيع “إسرائيل”، سياسياً ومادياً ومعنوياً، لتقطيع أوصال الأمتار القليلة المتبقية من فلسطين العربية، حتى إذا وصل الصراع مستقبلا الى نقطة تضطر معها الولايات المتحدة الى التدخل لتفرض حلا ما على “إسرائيل”، تتحول الدولة الفلسطينية من فكرة نظرية، الى مسخ لا شكل له ولا قوة ولا وحدة أراضٍ، علماً بأن النص الدولي الذي يتحدث عن دولة فلسطينية، يتحدث عن دولة قابلة للحياة والاستمرار، متواصلة الأجزاء الجغرافية، وليس عن “مسخ سياسي” منزوع الهيكل العظمي، منزوع المناعة السياسية.

فإذا أضفنا الى هذا المشهد خروج الأنظمة العربية الرسمية من الصراع التاريخي مع الصهيونية، منذ عقود ثلاثة، يحق لنا أن نتساءل: هل يمكن في الظروف الدولية والعربية والفلسطينية الراهنة المحيطة بقضية فلسطين، الانتقال الجدي الى التفكير بالحصول الفعلي على دولة فلسطينية، مقارنة باقليم كوسوفو الذي يسعى الى استقلاله مسنودا بدعم دولي عام، على رأسه دعم وتأييد الولايات المتحدة؟

خلاصة القول في هذه المسألة: إذا لم يسع العرب والفلسطينيون الى استعادة وزن محترم في كفتي ميزان القوى، فلن يكون بوسعهم أن يحلموا بحل محترم لقضية فلسطين.

التعليقات