31/10/2010 - 11:02

إلى روح وثيقة مكة : نقطة نظام!../ مروان عبد العال*

إلى روح وثيقة مكة : نقطة نظام!../ مروان عبد العال*
كان لا بدَّ من الكلام، ليس مناكفةً أو رداً على خطب صاخبة أو شعبوية، تعجّ بها ساحات السياسة الفلسطينية قبل وبعد اتفاق مكة، بل هي رغبة تقتضيها اللحظة، للقطع مع ذهنية تميل إلى التهميش والعمومية حيناً، وإلى العواطف أحياناً أخرى، والأكثر إلى "الشطارة" واستعادة ثقافة الفهلوة السياسية في تقويل وتفسير وتأويل موقف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين باعتذارها عن المشاركة في حكومة "الوحدة الوطنية" الفلسطينية العتيدة.


ولكي يفهم من فاته الفهم، أو يعرف من لا يعرف، لماذا لم تشارك الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، تلحّ علينا أجواء الصخب بأن نجيب بهدوء شديد، كأصحاب القرار، لماذا اعتذرنا عن المشاركة؟ فمن ولد في رحم التجربة الفلسطينية أو كان له شرف وعيها ومؤازرتها ومواكبتها يعرف مكانة قدسية الكلمة وشرفها عند الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والتي يشفع لها تاريخها بأنها عملت دائماً بمبدأ أخلاقي سليم، قوامه المسؤولية ومحاسبة الذات عبر مراجعتها الجريئة لذاتها وللتجربة الوطنية في كل محطة من المحطات التاريخية، وعلى هذه القاعدة تخطئ وتصيب وهي ليست خارج هذه المعادلة، قد تخطئ ولكنها تعترف وعلناً.



وعلى المدى الداخلي نفسه، فإنّ صناعة القرار في الجبهة الشعبية يرتكز إلى بنيتها المؤسسية التي كانت أهم إنجاز تاريخي لمؤسسها الدكتور/ جورج حبش، رغم كل ما تعرضت له من ضربات، بقيت تمتلك من القدرة على صياغة قرارها بشكل مستقل وديمقراطي، استقلالية تلتزم المصلحة الفلسطينية العُليا ورؤية كامل لوحة الصراع وطبيعة المشروع واستهدافاته على الأمة العربية والمنطقة وليس كما يظهر البعض، وفق مشيئة فردية أو رغبة ذاتية لأي كان، مهما علت مسؤوليته أو ارتفع شأنه، فالمؤسسة هي فوق الجميع، ولأنّ مبدأها قائم على أساس، أن القرار الخاطئ مع الديمقراطية الداخلية هو أسلم بالمعنى التاريخي من قرار صائب ولكن دون ديمقراطية، لذلك هي مطمئنة استناداً إلى وعيها للتجربة التاريخية ولمرتكزاتها المنهجية ورؤيتها السياسية، بما يوفر لها نسقاً صحيحاً، ينظّم مواقفها إزاء المعضلات المحيطة بالواقع الفلسطيني.



اعتذرت الجبهة الشعبية عن المشاركة، لأنّ الإشكالية التي تحمل عقدة أصابع الوضع الفلسطيني، تتمثل وتتكثف بها مجمل التناقضات التي شكّلها هذا الواقع بكل تعقيداته وتشابكاته الماضية والحاضرة، لا يمكن توصيفها إلاّ كونها اشكالات بنيوية لمجمل " النظام الفلسطيني". وما جاء في اتفاق مكة- المغلق - من حقن الدم! لا يشكل وقفة مسؤولة وجريئة لملامسة العقد المؤجلة، بل تحدث في المعجل وهو مرحب به من وقف للاقتتال، لكن أن يُقال أنه تأسيسي وتاريخي، فإنّ التأسيس المختل أساساً سيبقى موطناً لتوليد المزيد من الأخطاء والاختلالات، تسهم في تسطيح المفاهيم وخلط الأوراق وإضاعة التخوم واستمرار الممارسة الاستخدامية للمصطلحات والأطر والسياسات، وتشكل غطاءاً للفشل والخطأ لاحقاً. ونحن من يملك القدرة على قول الحقيقة للجماهير، الحقيقة التي هي ملكها، لأننا نشعر بغيرة توازي غيرة الجماهير على مصالحها وقضيتها.



ولذلك نحن نعترض، نرفع اليد كنقطة نظام، لنضيء على ظلال وتخوم مسائل ثلاث تطال عمق البنية الفلسطينية وهي:-



أولاً : الوحدة الوطنية :


هل عدم مشاركة الجبهة في الحكومة يعني أنها ضد الوحدة الوطنية؟ أم أنّه دفاع عن الوحدة الوطنية ؟



يعلم الجميع إلاّ من أصيب بعقدة التعالي إلى مستوى العجز عن التواصل مع التاريخ ومع الآخرين، بأنّ موضوع الوحدة الوطنية كمبدأ ارتقى من الناحية الفكرية في ذهن الجبهة الشعبية إلى مستوى الهدف الوطني، رغم كوابح عديدة حالت على المستوى العملي دون تحويله إلى وسيلة سياسية وتنظيمية لإدارة الصراع، إنّه مفهوم للقوة ارتباطاً بطبيعة المرحلة كونها مرحلة تحرر وطني وديمقراطي، والتناقض الرئيس ضد الاحتلال وسياساته ومشاريعه والواقع المعقد والمتشابك والمتحرك والمتنوع للشعب الفلسطيني وتوزعه الجغرافي المتعدد.


لذلك بقي النجاح في مواجهة تحديات الاحتلال مشروطاً بالقدرة على توحيد طاقات الشعب الفلسطيني واستثمارها بأعلى درجة. وليس هذا فقط، فالجبهة الشعبية لها الباع الطولى في خوض صراع وحوار سياسي حول هذا العنوان على مدار أكثر من أربعين سنة حول الفهم التنظيمي أو الفصائلي الضيق للوحدة الوطنية، والذي يصل إلى فهم الجبهة الوطنية العريضة، والذي شكّل قاعدتها منظمة التحرير الفلسطينية، حيث حفظت الجبهة مبدأ اختُلِفَ عليه مراراًً. هل الوحدة تلغي الاختلافات والتنوع وتتفق على القاسم المشترك؟ أم أنّ الوحدة الوطنية تعني الاندماج والتطابق ؟



وحدة وطنية أم وحدة تعسفية: لذلك حكومة "الوحدة الوطنية" هي جزء من الوحدة الوطنية الشاملة؟ منذ حوارات غزة ونحن نرسخ مبدأ أنّ حكومة وحدة وطنية هو مطلبنا ونحن أول من طرح هذا الشعار، لأننا على قدر من الخبرة بأن نعلم أنه ليس بمقدور فصيل لوحده أن يتصدى لكل المهام. ولكن شرطنا الأهم وهو معيار نجاح أي حكومة، أن تكون الوحدة الوطنية هي التي تؤسس حكومة وحدة وطنية وليس الحكومة هي مفتاح للوحدة الوطنية، كما أقرّ في اتفاق مكة، حيث أقر أولاً الحكومة ثم ترتيب البيت الفلسطيني! والاتفاق على البرنامج والميثاق... وغيره... وكيف سيتم الوصول للوحدة الوطنية عبر معبر الحكومة الفلسطينية؟ كأن النزعة الغريزية في الدفاع عن النفس تلّح علينا بالوحدة الميدانية، وقد تفرض الظروف علينا أن نتناسى مؤقتاً خلافاتنا للخروج من النفق، لكن أن نشرع في الوحدة الوطنية على أسس ومنطلقات جديدة، فإنّ معبرها هو الحوار الشامل والشراكة الكاملة، لأنّ كل وحدة لها صفاتها ومسمياتها.



بين الشركة والشراكة: نحن ندرك أنّ الوحدة الوطنية يستدعي تحقيقها حواراً وطنياً، فإن كانت الوحدة الوطنية هي الهدف لترتيب البيت الفلسطيني وصياغة المشروع الوطني الفلسطيني، فلا يتم الحوار بين قطبي التناقض لصياغة المشروع الوحدوي الشامل وتفصيله بدقة متناهية على كافة المستويات، وثم يتم دعوة الفصائل الفلسطينية كي تلبس هذا الثوب. في غموض والتباس واختلاط بين مفهوم الشركة الثنائية والشراكة الوطنية.



يعلم الجميع بمن فيهم قطبي اتفاق مكة، بأنّ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إن اعتذرت عن المشاركة لا يعني أنها ضد الوحدة الوطنية أو أنها تريد العودة للفوضى والاقتتال والانهيار المعيب، الذي حصل قبل اتفاق مكة، إنها تحمل فضيلة أخرى قد لا تروق للبعض، بأنها رغم حدة الخلاف، أول من حرّم الاقتتال قولاً وعملاً، ولنتذكر أنه عندما اشتدت الخلافات في الساحة الفلسطينية، أصدرت الجبهة بياناً مطلع العام 1971 قالت فيه:" أنّ أي خلاف في وجهات النظر يجب أن يظل في حجمه الطبيعي داخل الأطر في رفاقية السلاح والمعركة المشتركة ويجب أن لا يدفعنا لفقدان الاتزان والخروج عن المنطق وسوق الاتهامات الفجّة وتشتيت حركة المقاومة!".



شراكة في الدم، شراكة في القرار، أي دم ؟: هل بعد هذا الكلام الذي عمره 36 سنة يأتي من هو بهذا العمر أو أكبر، ليعطينا دروساً في حرمة الدم الفلسطيني، أو أن يقال، أنّ الفصائل لم تكن في مكة، لأنها كانت وسيطة في الاقتتال!! ماذا كان للفصائل أن تفعل بنظر هؤلاء ؟ ألا يعلم هؤلاء أنّ طهارة السلاح بالنسبة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تفوق المناصب وأنّ قدسية الدم الفلسطيني تعلو على كل الوزارات. ألا يقرأ الأخوة ما تيسر من التاريخ ليدركوا أنّ الجبهة الشعبية في الحرب الداخلية عام 1983 أدانت الاقتتال المجرم وأطلقت عبارتها الصدّمة يومها :" هزيمة المنتصر"!. ألم تكن نتيجة الاقتتال الأخير وفق هذه المعادلة؟ والذي بنظرنا مرفوض ليس لاعتبارات أخلاقية فقط، كذلك لأنه يأتي انسجاماً مع مخططات تفتيت المنطقة كي يمر مشروع العدو.



بين الحلال و الحرام: الحرام المحلل هو الاقتتال الداخلي الذي حرّمته ثقافة الشعبية، يأتي الحلال الثاني الذي ترفّعت عنه الشعبية وهو الصراع على الوزارات وعددها وجهازها والمدراء والوكلاء...الخ. إنها ذهنية القطع مع التاريخ، أو تسخيف المبدأ وتحويله إلى مصلحة، كجزء من إفساد وتسطيح الحوار عن قصد أو بدونه. لقد كانت الجبهة في ما مضى تحتل موقع القطبية مع حركة فتح، لكنها لم تجرِ صفقة تقاسم وظيفي وحصصي معها، وكان بمقدورها، وهي محط نقاش وجدل، لماذا لم تستقو بحضورها لتكسب الدوائر والمواقع والسفارات في منظمة التحرير الفلسطينية! ربما كانت في أحيان كثيرة تأخذ مواقف احتجاجية بالانسحاب من منظمة التحرير الفلسطينية أو بالاكتفاء بتمثيل شكلي في هذه المؤسسة أو تلك...



هل كان السبب الخلاف على الحصة؟ أم ترفّع أخلاقي مستمد من تجربة حركة القوميين العرب، باعتبار السلطة مفسدة، أو ربما اعتبار السلطة في منظمة التحرير الفلسطينية قيد لجرها إلى الدخول في صيغة الحلول وصيغة النظام العربي؟ ولكن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بوثائقها كانت تؤكد أنّ السبب سياسي... وفي عودة إلى التاريخ، شاركت الجبهة الشعبية في الدورة الثامنة للمجلس الوطني في 28 شباط عام 1971، اختارت هي أن يمثلها (عضو واحد) وأصدرت بيان سياسي يوضح لماذا؟ وما ورد في البيان هو التالي:"


إنّ الجبهة الشعبية تسجل اعتراضها على غموض المواقف وعموميتها ولا توفر الحد الأدنى من الشروط لقيام جبهة وطنية فاعلة ونامية، تصمد أمام التحديات".



لذلك فإنّ اختزال المواقف وتسخيفها بالحصة رغم اعتراضنا أساساً على المحاصصة القائمة بين الطرفين، أمر قيد للسخرية، لأنّ ما نرفض تكريسه بين القطبين لا نجيزه لأنفسنا !



ليس اعتراضاً على حجم القوى بل على الاختلاف المكبوت في طيات الصراع على سلطة صار الآخر هو المنافس وليس العدو! وعبر معيار صناديق الاقتراع مجردة من رؤى وقيم سياسية وحدوية جامعة، على أساس النصاب القانوني وليس النصاب السياسي. وعبر وسيلة ادعاء امتلاك الجمهور الناخب المستفيد بمعظمه من خدماتهم، أي من استخدام المال السياسي. لهذا نعتذر، لسبب عدم وضوح مفهوم الوحدة الوطنية عند صنّاع وثيقة مكة، النص المكتوب الذي نعرفه وروح مكة الملحقة التي حتماً لا نعرفها.



ثانياً : المؤسسة الوطنية والإصلاح:


أحسنت حركة حماس في حملتها الانتخابية بأن أمسكت باللحظة التي تندفع فيها الجماهير نحو الميل التاريخي للتغيير والإصلاح، وربما للمصداقية التي مثّلتها حماس، فازت في الانتخابات. نالت أصواتها حتى من جمهور فتح والفصائل الأخرى، التي صارت تبحث عن البديل القادر على تحقيق الإصلاح والتغيير في بنى السلطة الفلسطينية ومؤسساتها التي عانت التفرد والبيروقراطية والفساد والمحسوبية والزبائنية والنظام الأبوي الراعي، الذي نظر إلى المؤسسة بقيمتها الشكلية والموسمية وليس قيمتها العملية.



تقديس الديمقراطية وتفليسها: كما جرت الإشادة بالانتخابات الفلسطينية، نزاهتها وديمقراطيتها، ولكن بسبب أنها تحت الاحتلال، لا تكفي كما اعتقد البعض بأنها الجرعة الصالحة لعلاج أمراض الواقع الفلسطيني. وبالدرجة التي جرى فيها تقديس الديمقراطية كشكل جرى بالمقابل إقصاؤها عملياً، ليس على يد الحصار الدولي الجائر فقط، وأيضاً بأيدينا نحن، ومنذ الانتخابات، إلى اتفاق مكة لم ننجح في إحداث انتقال سلمي للسلطة وإقرار داخلي فلسطيني بتداول السلطة كما قيل لفظاً. فلا السلطة الوليدة لعبت دورها كسلطة بنّاءة، ولا المعارضة البنّاءة نفذّت ما وعدت به.



السلطة التي ولدت على قاعدة الإصلاح والتغيير، بعد سقوط فتح في الانتخابات جعلها تتعاطى بذهنية الفرقة الناجية، أي ذهنية الحق والباطل. والآخر وإن لم يفز في الانتخابات لكنه موجود في الأجهزة والمؤسسات والدوائر، بل يطبع الواقع الفلسطيني بطابعه والسلطة باعتبارها نظامه الخاص.. لأسباب عدة معروفة. كما توهمت أنّ التغيير يؤخذ بقرارات حكومية وإدارية صرف، مما أعطى للآخر أنّ الديمقراطية تحولت إلى انقلاب هادئ على نظامها، فالانتخابات ليست اصطياد الكركدن الأرجواني، الثمين، الذي يشكّل سلاحاً للإصلاح بضربة ساحر. المسألة تكمن في التراكم وتغيير في العقلية وتفكير الناس وأفعالهم ورسم أهداف تستطيع نبذ المفاهيم والسياسات والنماذج الخاطئة بشكل تدريجي وشرعي وجماعي أيضاً.



لم تشارك الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الحكومة في المرة الأولى لسبب معروف ذي دلالة كبيرة متعلق ليس في قضية سياسية صرف، بل قضية تنظيمية متعلقة بعمق مسألة الإصلاح، وهي علاقة السلطة بمنظمة التحرير الفلسطينية، لأنّ أحد أوجه الخلل بعد اتفاق أوسلو، يكمن في ولادة مؤسسات السلطة (الفرع) وتلاشي مؤسسات المنظمة (الأصل) وأنّ علاقة السلطة بالمنظمة تراوحت بين الادغام أو المؤسسات النقيضة ونماذج الخلافات في الأروقة الدولية مشهورة ومعروفة للجميع. ولذات الأسباب السياسية التي دعت حماس وغيرها عدم المشاركة في الحكومات السابقة، لم تشارك الجبهة فيها بتاتاً، ولو كانت تريد "الإستوزار" لفعلت واقتسمت الكعكة منذ بدايتها وتناست السياسة، وهي غير نادمة على ذلك.



لم نشارك في الحكومة في المرة الأولى، لأنها لا تطرح إصلاح العلاقة المؤسساتية والوطنية مع منظمة التحرير الفلسطينية، بل رفضت مجرد ذكرها كونها المرجعية أو لها مشروعية التمثيل الفلسطيني، فكيف ستكون الجبهة الشعبية غطاءً لاستمرار الخلل، بل وأن تكون بحكومة لا مرجعية وطنية جامعة لها؟ وهل هكذا يبدأ الإصلاح؟ ثم مطالبة الجبهة الشعبية منذ انتهاء الانتخابات، بأن تكون الحكومة حكومة وحدة وطنية لإحداث الإصلاح بشكل جماعي وشرعي ومتدرج.



كيف كانت النتيجة ؟ اكتشفت حماس تعقيدات الواقع مرة أخرى .



نظام برأسين أم بنظامين؟: إنّ السلطة المشروطة باتفاق أوسلو والذي يترك بصماته الاستراتيجية الحادة على الواقع الفلسطيني، يدفع للدخول في عمق الاشكالية وهي أن المساعدات التي تقدم للسلطة من الدول المانحة تعطى كمنح ذات طابع رعائي، أي أنها مشروطة سياسياً بالدرجة الأولى، وهذا النظام الرعائي كان يغطي أحياناً (كسلطة قديمة) على النقائص السياسية، ثم أنه يجري تحولات وتكييفات تدريجية اجتماعية، واقتصادية داخل الواقع الفلسطيني.



هذه عدة شغل السلطة السابقة لإدارة الأمور. لذلك تعززت وترسخت القطبية في الساحة الفلسطينية بعد الانتخابات إلى مستوى أنها باتت تهدد النسيج الاجتماعي الفلسطيني وبالعمق، وخاصة أنها لم تعد محكومة بآلية المؤسسة التي يجب أن يتعزز دورها وبالسطح السياسي، بل أحدثت شرخاً اجتماعياً عميقاً، صارت فيها الأمور من نظام أبوي هو رب عمل الفلسطينيين عموماً، وهو الراعي الذي يهب الرعية قوت يومها. فتحولت بعد الانتخاب إلى نظام بأبوين اثنين، كل له شرعيته ومصادر ماله، أي سلطة برأسين وذهبت إلى حد وجود نظامين في سلطة مهترئة!



الذي فعله اتفاق مكة تحت اسم الشراكة هو الشركة، من اسم الوزير إلى تحديد هوية واسم المستقل، ومن وكيله من القطبين إلى القرارات السابقة، ما يصلح للمصادقة أولاً إلى التقاسم الثنائي على جلد ورأس ولحم الصيد الثمين! بل إلى حد أنّ التعيينات والوظائف ممهورة بالانتماء قبل الكفاءة والولاء قبل النزاهة، وعلى قول المثل الشعبي : " قرد موالف ولا غزال مخالف"!.



هل هكذا يؤسس للإصلاح وهل هذه هي مرحلة التحرر الوطني والبناء الديمقراطي؟ وهل الجبهة تملك القدرة على استهلاك فكرها ورؤيتها وخطابها ثمناً لوزير؟ هل ديمقراطية المؤسسات تجري بمقاسمتها؟ هل دمقرطة الحياة السياسية وتفعيل طاقات المجتمع الفلسطيني يكون بالغاء التعددية السياسية بدل احتوائها! وإن كان البعض يريد التستير على الأحد، وتغطية الثنائية، بكومبارس تجميلي؟



أليست الديمقراطية توجد حيث توجد التعددية السياسية، والشراكة الوطنية، شراكة في القرار الوطني وبمبدأ الإجماع وليس الثنائية !! هل وظيفة الديمقراطية تكون بلا احتواء إيجابي لكل مظاهر الاختلاف ؟ أليست هذه الذهنية الفئوية التي قادت إلى الاقتتال؟ وهل تؤسس الآن في بنية المجتمع الفلسطيني لصاعق القنبلة المحشو بالاختلافات المكبوتة المعّدة للانفجار، لنكون أمام خيار قاتل: وحدة قسرية أم الانفجار؟ هل عالجنا الأسباب أم النتائج ؟



تجميل القديم بثوب جديد: الأهم من ذلك، هل أسس اتفاق مكة وروح اتفاق مكة، كما يحلو للبعض تسميته حتى لا يتهم بالعمومية، يبشّر بالتأسيس حقيقة، لمرحلة يبدأ فيها التغيير والإصلاح، أم أنّ عنوان الإصلاح تلخص في تجميل النماذج القديمة والحفاظ عليها في أثواب جديدة؟!! هل الإصلاح يبدأ بإرساء تفكير جديد أم استجلاب روح العشيرة وحضنها الدافئ وتأسيسها في هياكل النظام السياسي والفصائلي؟ واستدعاء عقلية القرون الوسطى في التعاطي مع الكثير من مظاهر الحياة الفلسطينية.



وهل تنسجم الديمقراطية مع عقلية (طخو في رجليه) !!! السائدة في ثنايا الحارات الفلسطينية؟! والتي لها آباء وتتحكم بها مراكز قوى ! أين ملف الفساد والمحاسبة...الخ؟



ثالثاً : في السياسة :


إن المعايير الحديثة في هذا المجال هي الرؤية الوطنية للمسألة السياسية وليس الفئوية الضيقة، والسياسية لم نفهمها يوماً دون ربطها بمحددين اثنين : المصلحة الوطنية العُليا وميزان القوى المؤثر بالواقع السياسي. ولم نقل هذا الكلام للمزايدة على أحد ولكن من باب النقد البنّاء والرأي الآخر والذي نعتبره حقاً مكتسباً، لا نساوم عليه أو نستعرضه للبيع والمتاجرة، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لها نسقها ورؤيتها ومدرستها في هذا المضمار ولم تكن تلميذاً عند أحد. وبحكم قراءتنا للتجربة التحررية الفلسطينية والعربية والعالمية، ونعي دروسها جيداً، فإنّ التخوفات والهواجس نقولها لا لنُدين أحداً، علّها تكون منفعة للكل الوطني وزاوية رؤية محتملة وغائبة عن أعين المتبصرين بالشأن السياسي الوطني.



نحن ندرك أساس الشرعية التاريخية والمُعاد إنتاجها على ذات الأسس. إنّ شرعية المقاومة كانت هي الأصل. وأنّ الشرعية القانونية " الانتخابية " التي ترسخت الآن أحد استهدافاتها هي تآكل الشرعية الأصل، أي شرعية المقاومة... بل إنّ الرهان بأنّ الدخول في العملية السياسية " السلطة " ستؤدي إلى استبعاد فكرة المقاومة.



النمر في اليوم العاشر: هذا كلام الخصم نفسه الذي لفتني في مقاله لكاتب إسرائيلي بالقول:" إنّ حماس في السلطة هي أقل خطورة من أن تكون خارجها". بل وذهب لحد وصفها بـ : " أنّ النمر في القفص، أفضل من أن يكون خارجه!". مما استعاد إلى الذاكرة قصة زكريا تامر " النمر في اليوم العاشر". أي أنّ مهمة السلطة هي ترويض المقاومة!



وفي المحاكمة الموضوعية الآن للمشهد الفلسطيني، فإنّ المقاومة في مأزق كما التسوية في مأزق أيضاً. وهنا بدأ السؤال بعد اتفاق مكة: من الذي تغير ؟! السلطة بشروطها المجحفة أم من فاز بالسلطة ؟! وربما ذهب السؤال إلى قضية تبدو بديهية لكنها مؤلمة: ماذا كان هدف المقاومة ؟! هل للاستثمار الداخلي؟ هل لتحريك التسوية ؟ أم أنه منطق الدفاع الذي يقتضيه وجود الاحتلال؟ أم في هدفها هذه الأهداف جميعاً؟!! وهل من رؤية للمقاومة؟؟



لماذا الانتقال من عسر ولادة تهدئة مؤقتة إلى الدعوة إلى هدنة طويلة الأمد؟ باعتبار أنّ السلطة الفائزة الآن هي سلطة المقاومة، وهل الحكومة التي دُعينا لها حكومة مقاومة، أم حكومة فك الحصار واستحضار المال الضروري والمهم لحياة البشر؟ وما هو الثمن؟ وإن كان الحصار لم يفك وليس بمستطاع الأنظمة العربية فكه في المرة الأولى ولماذا الآن؟ وهل بمقدورها، إن لم تقدم ضمانات والتزامات، كأثمان لفك الحصار؟!



يُقال لنا تعالوا وناقشوا البرنامج الخاص بالحكومة؟ ويعلم الجميع أنّ خطاب التكليف هو البرنامج، وأنّ المال المحتجز في البنوك يجمد إلى حين معرفة الحكومة وشكلها وبرنامجها، فالإفراج عن الحكومة مرتبط بقرار دولي؟ كيف سيحل برنامجها بديلاً لكتاب التكليف؟ بل إنّ إسرائيل تُوقف دفع الأموال المستحقة احتجاجاًَ على خروقات السلطة لشروط صرفها.



لقد رفضنا سابقاً وليس جديداً اعتبار أنّ المؤثرات الخارجية وما يريده الآخرون من خارطة الطريق إلى الاتفاقات والمبادرات محدداً لبرنامجنا بل مؤثراً. ولا يجوز لحكومة تعمل بالأجندة الوطنية أن يكون برنامجها التزاماً أو احتراماً بما فيها اتفاق أوسلو وسائر أخوته وملحقاته! وبالقليل من العبارات الغامضة والصياغة والكلمات المجنحة.



إيقاع رقصة التانجو: كيف نكسر سياقنا التاريخي؟ ونحن من اعترض ودفع عرقاً وجهداً ودماً في مواجهة خطيئة أوسلو والأنكى، أن يُقال، الالتزام بكل قرارات المجالس الوطنية الفلسطينية، التي اعترضت الجبهة على بعضها، والعديد من الفصائل وحتى من كوادر حركة فتح عليها، هل نقطع تاريخنا بدم بارد؟!



وإلاّ لماذا كنا نلحّ على اعتماد وثيقة الاستقلال لبرنامج وطني سياسي وقاسم مشترك للجميع وعلى مدار الحوارات لم نتمكن من أخذ موافقة عليها بحجة أنها تعترف بإسرائيل. السؤال: ماذا عن مصادقة المجلس الوطني على إلغاء الميثاق والتصديق على الاتفاقات...الخ؟ وكما نبّهنا، أنَّ من لا يريد أن يتنازل على طاولة الحوار الوطني الفلسطيني، سيتنازل أكثر على طاولات الخارج، وهكذا كان.



وما أن بادر الأسرى الأبطال في السجون الصهيونية ومن مختلف التنظيمات بإصدار وثيقتهم حتى طعن بها ودخلنا باب التشكيك بأن الأسرى هم من أصدرها، أم هناك من أرسلها لهم؟! ويشهر سلاح الاستفتاء ثم الموافقة عليها بعد جهد ووقت كان ثمنه غالياً. ثم نجد اعتراضاً دولياً على وثيقة الأسرى. وينحدر بعدها المؤشر نزولاً إلى وضع آلية لتنفيذ اتفاق الأسرى وصولاً لاتفاق مكة، الذي هو الآلية التي تدنو عن وثيقة الأسرى المتفق عليها كقاسم وطني مشترك؟! والتي أقرت آليتها باتفاق سلطوي بين رئيس الحكومة ورئيس السلطة.. وثم انفض الجميع عنها.



كانت الفصائل المختلفة تعترض على نقاط وعلى وثائق أكثر رقياً وصلاحاً لمعالجة الوضع وهذا حقها وعندما تهبط الأمور عن ما هو أكثر إجماعاً وتماسكاً لا يحق لنا "اللا"! إنّ اختراقاً إيجابياً قد تحقق بأنّ المعارضة التاريخية لم تعد تاريخية كما السلطة التاريخية لم تعد كذلك.. ولكن المعارضة كانت وستبقى ضرورة للسلطة نفسها والحياة السياسية كذلك، وهي معارضة مسؤولة ومن داخل المشروع الوطني الفلسطيني، كالذي تلعبه الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ويصير التخلي عن صفة الاعتراض ملتبساً عند القول، إنّ المفاوضات السياسية هي لمنظمة التحرير الفلسطينية، أما إدارة المجتمع، فهي للسلطة وفق الشراكة/ الشركة المعتمدة في مكة!



كيف يتم التخلي عن دور الاعتراض والالتزام لفريق مفاوض، في وقت ندرك فيه أنّ التسوية مازالت وهماً، وأنّ طبيعة العدو والقيادة السياسية الإسرائيلية والمناخات الدولية المحيطة، لن تعطي دولة فلسطينية وفق البرنامج الفلسطيني ولكن قد يستفيد منه الخصم، نحو قضم المزيد من التنازلات لفرض الأمر الواقع وإعادة تصميم الواقع الصهيوني باسم التسوية النهائية. مما يطرح: حول اتفاق مكة بناءاً على هذا المنطق؟ يبين أنه ليس تقاسماً للسلطة كغنائم فحسب، بل تقاسماً وظيفياً بين الفريقين أيضاً؟؟



بين وهم السياسة والتخلي عن العملية السياسية، جرى ويجري اعتبار المحاصصة مكسباً وانتصاراً للطرفين! بحيث يتبين أنّ الواحد لا يستطيع السير إلاّ برفقة الآخر.. كرقصة التانجو، فلا يستطيع الأول الحكم بلا الثاني، وجعل من اتفاق مكة إقراراً صريحاً بنتائج الانتخابات فلسطينياً ومن الرئاسة ذاتها. وأعطى للثاني حكومةً تسير وفق خطواته الوئيدة على درج التسوية! هذا ما لم يقله علناً أصحاب الاتفاق ولكنه قراءات في الغرف المغلقة.



وإكراماً وليس اعتراضاً على مكة "معاذ الله"، فإنّ الدعم والتضامن العربي والحماية العربية كانت المفصل الرخوعلى امتداد سنوات الانتفاضة، ونعني بالتحديد النظام الرسمي أو بعضه. والفارق كبير عندما نذهب بالبرنامج والرؤية الفلسطينية كي نعطيها للعرب وقبيل القمة، وبين أن نحدد سقفنا وفق المنسوب العربي الرسمي، والذي يوحي كأنه التحاق بالركب، لأن إعادة إنتاج النظام العربي كسياسة وأسلوب وأداء في قلب النظام الفلسطيني، المنوي تأسيسه، يوحي وكأنه التحاق بالربع، ولأنّ التجربة الطويلة في ضبط الحالة الفلسطينية واستيعابها واحتوائها كانت سياسة رسمية متبعة لترويض الحالة الفلسطينية.



كأنه عود على بدء، لكنّ التاريخ إن أعاد نفسه، فإن كان في المرة الأولى مأساوياً، ففي الثانية يكون مهزلة. فالرعاية العربية بحدود استيعاب التناقضات ومنع الانهيار ووقف التفتت وإبطال مشاريع الحروب الأهليّة في سائر دول المنطقة، هو أمر مطلوب، وقضية يثني الجميع عليها كحالة دفاعية. والاعتراض على أن لا يكون اعتبار الرسمية نصراً وبداية مرحلة. فإن لم نساعد نحن أنفسنا أولاً، لا نستطيع جلب المساعدة من أحد أو وفق مشيئة أو عباءة هذا أو ذاك.



وإن كان الأمر غير ذلك، نسأل: لماذا لم ندع إلى طاولة الحوار الوطني الفلسطيني بعد عودة المتفقين من مكة؟ الأمر الذي جرى هو، مشاورات مع كتل برلمانية من رئاسة الحكومة، للالتحاق وليس للمشاركة.



تنظيف السياسة من الأوهام: أي أنّ الدخول في الرسمية العربية لا يكون بلا التزام السقف السياسي العربي، الذي نعرف جيداً مستواه في هذه المرحلة وإن جنح الجميع إلى التسوية بما فيهم حركة حماس! فلا يعني إلاّ بأذهان الواهمين أنّ التسوية ستتحقق! وما حملة إشاعة التفاؤل وجائزة الترضية التي سيمنحها بوش قبل مغادرة البيت الأبيض، إلاّ دينامية يعمل على ترويجها كُثُر.



لذلك اسمحوا لنا بنقطة نظام، نرفعها من أجل الوحدة الوطنية الفلسطينية ومن أجل عيون الإصلاح المنشود والتغيير وتنظيف السياسة من الأوهام. ولعل موقف الاعتراض السياسي ليس خروجاً عن المألوف، لأنّ بين الارتهان للواقع أو التحليق في الشعارات، خيار المعارضة التمسك بالحلم وأقدامها على الأرض.



نقطة نظام لصيانة الديمقراطية والبناء والمقاومة من لغة التشبيح والتهميش والتمويه. كي لا يصادر حق الكلام، والتعبير السياسي والحوار لحل التعارضات، وإن كان الخلاف بين الأخوة لا يُفسد للود قضية. فما كانت بالسابق ستبقى مهمة البناء الوطني، مهمة ملحة ومطروحة، لا يمكن الاعتماد على الخطوات الناقصة للسير فيها للأمام دون احتلال المساحة الفارغة في اللوحة وأعني الخيار الثالث.



انتزاع ذريعة "اللاخيار": هو الموقف، النداء، كي نؤسس معاً الوكيل الحقيقي للتغيير وعبر قيادة تفكير ديمقراطي واستراتيجي لضرورة وطنية تفتح الباب نحو المستقبل عبر سؤال مفصلي هو: "ما العمل؟". وليس من باب سوداوية المشهد وتعقد وتشابك الظروف يحق لنا أن نقع في مصيدة "اللاخيار" أمام الحرب الداخلية أو ركوب القطار؟! ولأنّ الحيّز المشترك بيننا في أكثر من مفصل، هو حيز واسع، ويبقى اتجاه سهم البوصلة يصبو نحو التناقض الرئيسي مع العدو الصهيوني، لذا، سنكون على السكة سوياً مع الجميع في مواجهة الاحتلال والاستيطان والحصار والضغوط الدولية، لكن لا نلتحق في العربات الخلفية ولا نسير عكسها، أو نتكئ على هذه القوة أو تلك، لاستعطاء أو استعارة وزير زائد أو ناقص أو بدل ضائع.



البديل المطروح وباختصار هو، القادر على انتزاع ورقة " اللاخيار" والذي يبدأ من نقطة النظام إلى تحديد ما هو النظام المطلوب؟؟ وما هي نواظم البديل الوطني الديمقراطي، القائم على أسس القدرة على تلبية شروط ومقومات الصراع ضد المشروع الصهيوني من جانب، وشروط البناء الاجتماعي الديمقراطي في جانب آخر. وهذا يتطلب قدرة القوى الديمقراطية على تخطي أزمتها الداخلية المشروطة بقدرتها على إعادة بناء ذاتها أولاً كقوة نقيّة، تضع مستوى الائتلاف ما بينها أكبر من المستوى الفصائلي الضيق والشخصي أحياناً إلى المستوى الوطني الأشمل. ومن حالة تنظيمية محدودة إلى بناء تطال الحالة الديمقراطية الشاملة لعموم الشعب الفلسطيني.

التعليقات