31/10/2010 - 11:02

إيران النوويّة: حماية نظام أم بناء دولة؟../ هشام صفي الدين*

إيران النوويّة: حماية نظام أم بناء دولة؟../ هشام صفي الدين*
هل تستطيع إيران تجميد أنشطتها النوويّة والخضوع لشروط الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة بالتزامن مع بناء تكنولوجيا حديثة من دون إضعاف قدراتها الدفاعية أو التخلّي عن دورها المناهض للهيمنة الأميركية في المنطقة؟ الإجابة الفورية هي أنّ هذا الطرح هو دعوة مبطَّنة للاستسلام، هو استحضار للمعادلات الثنائية البسيطة كمعادلة «عليّ وعلى أعدائي» و«كلّ ما هو ظاهره مضرّ لعدوّي، مفيد لي، والعكس صحيح».

هذه المعادلات باتت للأسف شائعة في الأدب السياسي القيادي والقاعدي (نسبة إلى عامّة الناس) في الشرق الأوسط.

إنّ دراسة جديّة لهذا الطرح عن ملف إيران النووي أضحت ضرورة أمنية إيرانيّة في ظلّ قرع طبول الحرب في واشنطن مهما كان احتمال وقوع هذه الحرب ضئيلاً. وأي إجابة مقنعة تعتمد على بحث هذا الطرح في حال صحّة إحدى الفرضيّتين السائدتين: الأولى أنّ برنامج إيران النووي هو لأغراض سلمية والثانية أنّه لامتلاك أسلحة نووية.

يمكن تقسيم هذا التاريخ في القرن الماضي إلى ثلاث مراحل. البداية كانت في عهد الشاه في الستينيات، حيث زودت الولايات المتّحدة إيران ببعض التجهيزات النوويّة والتدريب العالي لعلماء الطاقة. وقد وقّّعت إيران على معاهدة الحدّ من الانتشار النووي عام 1968 كضمانة مقابل هذه المساعدات.

توقّفت هذه المساعدات خلال الحقبة الثانية الممتدّة بين انتصار الثورة الإسلامية عام 1979 ووفاة الخميني. وشهد البرنامج النووي تراجعاً في هذه الفترة بسبب الضغوط والحصار الخارجي والحرب مع العراق وعدم حماسة الخميني للخيار النووي. لكن، منذ أواخر الثمانينيات، بداية الحقبة الثالثة، استعادت إيران نشاطها النووي فاستعانت بالواردات الصينية من اليورانيوم وبالخبرات الروسية في إنشاء محطات الطاقة وبتكنولوجيا أجهزة الطرد، والأرجح عبر شبكة العالِم الباكستاني عبد القدير خان. وتمكّنت إثر ذلك من إنشاء وتجهيز مركز لتخصيب اليورانيوم في ناتانز وآخر لإنتاج المياه الثقيلة في آراك وثالث (قيد الإنشاء) لتوليد الطاقة النووية في بوشهر. إلّا أنّ كشف النقاب عن مركزَي ناتانز وآراك عام 2002 أدخل إيران في مرحلة جديدة من الضغط الدولي غير المسبوق. فما هي خيارات إيران الآن؟

لا شك أنّ التكنولوجيا النووية إحدى عناصر التقدّم العلمي والاقتصادي، لكنها ليست عنصراً ضامناً أو ضرورياً له (قارن بين الكوريّتين، أو اليابان والهند أو باكستان وماليزيا). وفي ما يخصّ إيران، إنّ الشعرة التي قطعت خيط المفاوضات حول برنامجها النووي هي مطالبة الدول الأوروبية لإيران بتجميد غير مشروط ودائم لأنشطة تخصيب اليورانيوم في مقابل تمسّك طهران بتجميد مؤقّت لهذا التخصيب ضمن جدول زمني محدَّد.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: إذا كان الهدف من الطاقة أغراضاً سلمية، وما دام حقّها في إنتاج الوقود النووي محفوظاً ضمن القانون الدولي، أفليس حريّاً بإيران القبول، ولو على مضض، بصيغة مرحليّة للبدء باستخدام هذه الطاقة (مثلاً تخصيب اليورانيوم في روسيا وتوليد الطاقة في إيران) واكتساب خبرات في هذا المجال إلى أن تسمح الظروف بالسعي نحو الاستقلال الذاتي في مجال إنتاج هذا الوقود؟

إنّ التشبّث بامتلاك (وليس بحقّ امتلاك) تكنولوجيا التخصيب في الظروف الراهنة ورفض الحلول الوسطى هو مجدّداً استحضار للمعادلات الثنائية والاختباء خلف صوت المعركة الذي لا يعلوه صوت والذي طالما كلّف غالياً. يصعب إيجاد تبرير معقول لهذا الاستعجال والإصرار من الجانب الإيراني إن لم نفترض أنّ امتلاك سلاح نووي هو أحد الأهداف الرئيسية لهذا البرنامج. وإن افترضنا ذلك، فهل من مبرّرات لهذا الهدف بناء على (وليس بالرغم من) السعي لدعم مقاومة إيران المشروعة ضدّ المشروع الأميركي في المنطقة؟

إذا كانت الجمهورية الإسلامية تسعى إلى امتلاك سلاح نووي كقوّة ردعية في مواجهة أعدائها، فما هي قدرة النظام على تحقيق ذلك في المدى المنظور؟ وإن تحقّق الهدف، فما هو تأثيره الفعلي على المنظومة الدفاعية لإيران في وجه عدوّ كالولايات المتّحدة؟

أمام إيران خياران لإنتاج قنبلة نووية: الأول يتمثّل بإنشاء (إن لم يتمّ ذلك حتّى الآن) محطّة سرية بعيداً عن أعين المفتّشين الدوليّين، وذلك يتطلّب سنة أو سنتين على الأقل. ولن يكون هذا المركز، لسريّته، بالحجم الصناعي المطلوب حسبما يقدّر الخبراء، ما يعني أنّه سينتج كميات قليلة من اليورانيوم المخصَّب (نحو سنة إنتاج للحصول على ما يكفي لصناعة قنبلة نووية واحدة). هذا وإن اكتشاف منشأ كهذا قبل تصنيع القنبلة سيقطع الطريق أمام أي فرصة للمساومة، وسيجعل من إيران هدفاً مباشراً للولايات المتحدة وبتغطية دولية واسعة.

أمّا الخيار الثاني، وهو أقلّ تهوّراً، فيتمثّل باستكمال تجهيز منشأ ناتانز حتى يصبح قادراً على إنتاج اليورانيوم الثقيل بكميات كبيرة. حينها، من الممكن تركيب سلاح نووي في مدّة قياسية قد تصل إلى أسابيع معدودة. لكن تجهيز ناتانز للوصول إلى هذا المستوى قد يستغرق نحو عقد آخر من الزمن. إذاً في الحالتين، بضع أو عدّة سنوات تفصل إيران عن امتلاك ترسانة نووية (والصبر ليس من سمات العدو المتربص). فهل من الحكمة المضي في مشروع كهذا رغم العواقب الوخيمة المحتملة؟

سيجيب البعض بأنّه لا داعي للقلق. فإيران في موقع قوي بسبب تخبط الأميركيّين في العراق، ووجود قوّاتهم في مرمى السلاح الإيراني. ينسى هذا البعض أنّ كل ما يُقال عن هزيمة الولايات المتحدة في العراق يتعلّق بتثبيت احتلال برّي، لا بالقدرة التدميرية الفائقة التطوّر للقوّات الحربيّة الأميركيّة، والتي تشكّل العامل الحاسم في حال اللجوء إلى قصف إيران دون غزوها، وهو يكاد يكون الاحتمال الوحيد. أمّا مقولة أنّ القواعد الأميركيّة في العراق والخليج ستصبح صيداً سهلاً للصواريخ الإيرانية، فهي مقولة مبالَغ فيها رغم عرض طهران لعضلاتها الصاروخية المستحدثة بمناسبة أو دون مناسبة.

فهذه الترسانة الصاروخية تتكون على الأرجح في معظمها من آلاف الصواريخ القصيرة المدى (45 إلى 300 كلم تقريباً) وذات حمولة تفجيرية خفيفة أو متوسطة (كفجر1 و فجر3 وزلزال 2) ومئات الصواريخ المتوسّطة المدى (كشهاب1 وشهاب2 وهي أصناف معدّلة من صواريخ سكود). وبحسب المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية المتخصّص ببحث التسلّح حول العالم، فإنّ هذه الصواريخ، وإن كانت قادرة على ضرب أهداف في دول الجوار الإيراني، فإنّها لا تملك قدرة تفجيرية عالية، وهي غير «ذكية»، أي إنّها لا تملك نظام توجيه دقيق (هل ستعيد طهران تمثيلية قصف إسرائيل بعشوائية بصواريخ سكود كما فعل صدّام؟). وبالتالي، فهذه الصواريخ، وإن أوقعت خسائر جسيمة في صفوف الأميركيّين، (وخسائر أكثر جسامة بين المدنيّين العراقيّين) فإنّها لن تشلّ أو تفكّك القوّة العسكرية الأميركيّة في المنطقة.

إنّ السلاح الوحيد الذي يمكن أن يشكّل خطراً داهماً هو الصاروخ البعيد المدى(1300 كلم) شهاب3 وفقط في حال تجهيزه برأس نووي. يختلف الخبراء في مدى جهوزية هذا الصاروخ الذي طُوِّر حديثاً، فما بالك بالمدّة اللازمة لحيازته على رأس نووي، وهل طهران مستعدّة لتحمّل تبعات الخسائر العملاقة في صفوف العراقيّين (وربما الفلسطينيّين) إذا استخدمت صاروخ ذات رأس نووي؟

إنّ الأهم من كلّ ما تقدّم أنّ إيران لا تملك صواريخ عابرة للقارّات، ومن غير المرجَّح أن تستحوذ على تكنولوجيا كهذه في السنوات الخمس القادمة. أي إنّها غير قادرة على تهديد أوروبا أو الأرض الأميركية في المدى المنظور. هذا يعني أنّ أي حرب وشيكة بين إيران والولايات المتّحدة هي أوّلاً و أخيراً معركة مدمّرة للساحة التي تدور عليها، أي إيران والعراق وربما دول خليجية أخرى وليس المدن والبلدات الأميركيّة التي لن يمسّها سوء.

وحتّى في هذه الساحة، إنّ الثمن الذي سيدفعه الشعبان الإيراني والعراقي سيكون باهظاً. بينما أي «انتصار» إيراني سيؤدّي في أحسن الأحوال إلى انحسار نسبي للهيمنة الأميركية على المنطقة (كرم الضيافة لدى أنظمة دول الخليج العربية ليس له نهاية). في المقابل سيزيد الخراب والتشتّت في العراق وتتعرّض مراكز البحوث والتصنيع الإيرانية وحتى المدن والتجمّعات السكنية لدمار قد يكون شاملاً. وهذا سيحرم إيران البناء على ما أنجزته من تنمية وتقدّم علمي في العقدين المنصرمين، فيعيد الجمهورية الإسلامية سنوات إلى الخلف (فتصبح أقرب حالاً لجيرانها العرب). وليس بعيداً أن يُعدّ هذا «الانتصار» انتصاراً حسب قاموس المعادلات البسيطة الرائجة في الدول الممتدّة من المحيط إلى الخليج، ألا وهي «أنّ المنظومة الدفاعية الناجحة هي تلك التي تحمي نظام وتمتّن حكمه وليس تلك التي تبني دولة».
"الأخبار"

التعليقات