31/10/2010 - 11:02

اربع سنوات على مؤتمر ديربان:الصهيونية عنصرية-اسرائيل ابرتهايد/امير مخول

اربع سنوات على مؤتمر ديربان:الصهيونية عنصرية-اسرائيل ابرتهايد/امير مخول
تصادف هذا الاسبوع الذكرى السنوية الرابعة للمؤتمر الدولي ضد العنصرية المعروف بمؤتمر ديربان، نسبة الى موقع انعقاده في مدينة ديربان في جنوب افريقيا.

لقد انعقد هذا المؤتمر ضمن مؤتمرات الامم المتحدة وكان مخصصا للحكومات، وعقد مؤتمر مواز له للمنظمات غير الحكومية. وان تم التخطيط له دوليا ان يكون مؤتمرا اضافيا فان صوت شعوب العالم وصوت كل الفئات المظلومة، ضحايا الاستعمار والعنصرية والتمييز كان اقوى من اي جدار حاولت الانظمة في العالم او المنظومة الدولية حصره فيه، ليثير نقاشا وصخبا لا زال مفصليا في حركة مؤسسات المجتمع المدني ودورها والتعامل معها. ولا تزال العبرة التي صدرت عن رئيسة مفوضية حقوق الانسان في الامم المتحدة في حينه ماري روبنسون التي اكدت بما معناه ان الامم المتحدة والحكومات توخت من المنظمات غير الحكومية ان تكون عاملا مساعدا للحكومات في مؤتمرها, الا انها شكلت عاملا لتأجيج النقاش العالمي حول العنصرية، وبالذات كان المقصود حول تبعات الاستعمار واستعباد خيرات الشعوب والصهيونية واسرائيل كمشروع عنصري كولونيالي.

واهمية تاكيد ذكرى هذا المؤتمر الضخم ناتجة عن تاثيره على النقاش العالمي وتبيانه الطاقات الكامنة في الشعوب وقوة صوتها, وعلى نقاش العدالة والحقوق التي هضمت تاريخيا لكن لم يسلّم بها من قبل اصحابها. كما ان هذا المؤتمر اشار الى الروابط بين قضايا شعوب العالم مما اتاح المجال لتلمس الفكرة في اطلاق حركة تضامن عالمية بين شعوب العالم. كما ان لمؤتمر ديربان تأثير عميق جدا على مجمل عمل المنظمات غير الحكومية وعلى مؤسسات المجتمع المدني في العالم, وعلى الطاقات الهائلة في هذه المؤسسات فيما لو حافظت على استقلالية جدول اعمالها وتمثيلها لمصالح شعوبها، وفي الوقت ذاته يشكل خطرا على عملها فيما لو وقعت رهينة القوى الاقتصادية والسياسية المهيمنة عالميا والتي ارادتها اداة طيعة في خدمة اهدافها ومخططاتها وفي تثبيت هيمنتها ونظامها وهيمنة قيمها على العالم. كما تيقنا في هذا المؤتمر من محاولات حكومات وانظمة اختراق مؤسسات المجتمع المدني من خلال تاسيس منظمات تحمل شكل المنظمات غير الحكومية شكلا ورسميا بينما هي ادوات للحكومات في مضمونها وجوهرها, واداة تدخّل من قبلها بهدف حماية انتهاك الانظمة لحقوق مجموعات مختلفة.

القضية الاخرى ان هذا الحدث المفصلي لم يتفاعل تلقائيا ومباشرة بعد انعقاده اذ اتت تفجيرات نيويورك في 11 ايلول 2001 وطغت بتفاعلاتها على العالم واخضعت كل قضايا جدول الاعمال العالمي الى هولها وتداعياتها محيّدة اي موضوع اخر. واستمر ذلك بشكل مطبق عاما ونصف الى حين خروج مئات ملايين الناس الى الشوارع احتجاجا عشية العدوان الامريكي على العراق في اوائل العام 2003. حيث شكلت المظاهرات الشعبية المتزامنة في مختلف مدن العالم في 15 شباط 2003 والمحتجة على العدوان حدثا نوعيا في بلورة حركة عالمية وفي وضع حد لحالة الخوف التي حدت من دور مؤسسات المجتمع المدني في انحاء العالم بعد هجومات11 ايلول 2001.


في حالتنا فان قضيتنا – القضية الفلسطينية بكامل مركباتها وعدالتها من جهة وادانة الصهيونية واسرائيل ودمغهما بالعنصرية كانت الاكثر محورية في اعمال المؤتمر وتفاعلاته وخلال المؤتمرات والعمل التحضيري الذي استغرق عاما كاملا قبل ان يتوج بمؤتمر ديربان اكبر تظاهرة دعم للشعب الفلسيطيني منذ السبعينات والى حينه.
وكان لمطلب الافارقة الامريكان والشعوب الافريقية تحميل الولايات المتحدة واوروبا مسؤولية تاريخية على اقتلاع هذه الشعوب واستعبادها ونهب خيراتها والقضاء على العديد منها وعلى حضاراتها وموروثها الثقافي والحضاري ومصادرة مستقبلها, ومطالبة المستعمرين بتحمل المسؤولية التاريخية على ذلك وتعويض هذه الشعوب والامم, ان شكل الموضوع المحوري الاخر والاكثر صخيا. لينقسم العالم في ديربان الى "شمال – جنوب".

وفي حالتنا المحلية ايضا من الاهمية العودة لهذا المؤتمر لكثرة الدروس والعبر وطبيعة الفرصة والافاق والانجازات وكذلك التحديات والثمن الذي يدفعه قطاع العمل الاهلي المنظم وبالذات اتحاد الجمعيات العربية (اتجاه) في الدفاع عن هويته الفلسطينية الوطنية والقومية العربية والانسانية العالمية في مواجهة النظام الكولونيالي العنصري وامام ضغوطات مصادر الدعم والتمويل المقربة من او الخاضعة لمواقع اتخاذ القرار السياسي. والثمن الذي تدفعه مؤسساتنا بسبب موقعة ذاتها كجزء من المجتمع المدني الفلسطيني والنسيج الطبيعي للشعب الفلسطيني المجزأ قسريا وجزء من الحركة العربية الاقليمية لمؤسسات المجتمع المدني, ورفضنا اللعب في المساحة الضيقة التي تحاول اسرائيل حصرنا بها كما لو كنا شأنا اسرائيليا داخليا ونعمل على مقاس قواعد اللعبة التي تريد حصرنا بها، في حين كانت لنا الفرصة ان نحاصرها كنظام عنصري كولونيالي وليس دولة عادية فيها مظاهر عنصرية. وهذا شكل تمايزا واضحا مع المنظمات الاسرائيلية التي قاطعت المؤتمر بغالبيتها العظمى كونها حسمت ايضا ان حدود عملها هي حدود الدولة وهي اطار سقفها ولا تريد ان تهاجم اسرائيل من الخارج، اي لا تريد المس بشرعيتها ولا بالفكر والممارسة الصهيونية.

وشكل هذا المؤتمر مناسبة للتمعن في الدور القيادي الذي بامكان جمعياتنا ومؤسساتنا ان تلعبه محليا وعالميا في مواجهة العنصرية الاسرائيلية ومحاصرتها. وذات الوقت الثمن الذي يتطلب منا دفعه دفاعا عن هويتنا ومناهضتنا للمشروع الصهيوني ببعديه الكولونيالي والعنصري. وهي مناسبة ايضا للتمعن في خلق حالة يتحتم فيها على مؤسساتنا الحسم فيما اذا كانت ستدفع ثمن موقفها وتدافع عن ثوابتها، واما ان تقبض ثمن مواقفها الموالية لجهات مانحة على حساب ثوابتها واما ان تقبض ثمن مواقفها وثمن مواقف غيرها المبدئية وذلك على حساب استقلاليتها واخلاقياتها في طرح ذاتها كبديل للخط الوطني باتهامه بالتطرف او الانفصالية وما اليه من اوصاف تندرج ضمن لغة المعايير الامبريالية لوصف سلوك ضحاياها ونزع شرعية مناهضة هيمنتها التي بالامكان تسميتها لغة "الحرب على الارهاب".

في هذا المؤتمر تم ولاول مرة ضمن مؤتمرات دولية طرح قضايا جماهيرنا العربية في الداخل كمركّب من قضايا شعبنا الفلسطيني وطرحها كقضية واحدة وتدويلها بشكل ممأسس. وتم حسم الخيار لدى قطاع العمل الاهلي المنظم من خلال اتحاد الجمعيات (اتجاه) باتخاذ البعد الفلسطيني العام والبعد العربي الاقليمي والبعد الدولي كاتجاهات استراتيجية واعين مسبقا لثمن ذلك ولما فيه من تحد وثمنا وسلوكا لا يحتمل الازدواجية في المعايير او ضبابية في الموقف وبالذات تجاه اسرائيل كدولة عنصرية كولونيالية وتجاه الصهيونية كحركة عنصرية.


وما اعطى هذا المؤتمر بعنوانه زخما خاصا هو انعقاده في جنوب افريقيا التي حقق شعبها تحرره من نظام الفصل العنصري (الابرتهايد) وعمليا كان الشعب الوحيد في العالم الذي حظي بالتحرر في السنوات العشرين الاخيرة. ليشكل الموقع جزءا من الحدث نفسه. والموقع سلط الاضواء على اسرائيل كونها الحليف للاستراتيجي والايديولوجي لنظام الفصل العنصري الذي ولّى.

لقد شهد مؤتمر ديربان للمنظات غير الحكومية تحالف الشعوب المظلومة وحتى الدول المظلومة في مواجهة هيمنة الامبريالية العالمية بحلتها اللبرالية الجديدة. كما شهد الى حد كبير صوت الشعوب في مواجهة مواقف الحكومات وجعل بالامكان المقارنة الهامة بين سلوك الحكومات ضمن مؤتمرها الخاضع لتوازنات القوى الدولية ولخضوع حكومات الجنوب للهيمنة الامريكية الاوروبية وللمنظومة الدولية الجديدة القديمة, مقابل مؤتمر المنظمات غير الحكومية المتحررة من قوانين توازن القوى الدولي والذي سيطرت عليه قضايا الشعوب المظلومة والمستضعفة والفئات المهمشة وممثليها.

وانعقاد المؤتمرين بشكل مواز ومتزامن وفي ذات الموقع جعل الصورة ساطعة, وهو درس بدأت الحكومات والامم المتحدة في تداركه بفصل موقع المؤتمرات غير الحكومية عن تلك الحكومية. لينعكس ذلك في مؤتمر التنمية الذي انعقد بعد بضعة اشهر في جوهانسبرغ في جنوب افريقيا لكن بشكل منفصل بين الحكومي وغير الحكومي. ولاستبعاد المنظمات غير الحكومية المستقلة من استضافة وتنظيم المؤتمر غير الحكومي وبشكل متحرر من الهيمنة الحكومية الغربية.
وان قاطعت الولايات المتحدة واسرائيل المؤتمر رسميا فذلك بسبب قدرة مؤسسات المجتمع المدني عالميا المتحالفة والمخلصة لقضايا شعوبها وشعوب العالم على الدفاع عن استقلالية جدول اعمالها رغم الضغوط المباشرة وغير المسبوقة لتتنازل عن مناصرة الشعب الفلسطيني وادانة اسرائيل والصهيونية بالعنصرية, وعن مطلب الافارقة تحميل الولايات المتحدة واوروبا مسؤولية الاستعباد ومطلب التعويض. هذه المقاطعة اعطت المؤتمر زخما اقوى وكانت مؤشرا لقوة صوت الحركات الاجتماعية والمجتمع المدني العالمي. وكان في ذلك دور اساسي لتحالف مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية في جنوب افريقيا (سانغوغو) الذي مثل قطاعات واسعة جدا من شعب جنوب افريقيا المنتصر على الابرتهايد والمتحرر حديثا. في المقابل وعلى مستوى المؤتمر الحكومي فان اسرائيل والولايات المتحدة كانتا محميتان اكثر مما لو شاركتا حيث تصدر الموقف الاوروبي الرسمي وخاصة الفرنسي هذه المهمة. ليعود ذلك بالضغط المتزايد على المنظمات غير الحكومية لتتراجع عن موقفها.

المؤتمر ضد العنصرية في العام 2001 شكل فرصة هامة امام مؤسسات المجتمع المدني على مستوى العالم العربي, وهي الانتقال من حالة ردود الفعل الى الفعل المنظم والجماعي والهادف والى تجميع كل الطاقات واستغلال الفرصة لمحاصرة اسرائيل كنظام عنصري كولونيالي, كمركب في السعي لاطلاق حملة دولية شعبية لعزلها. وتحت شعار "نحو القضاء على اخر النظم العنصرية في العالم" توحدت المجموعة العربية الاقليمية وبلورت استراتيجيتها وبرنامج عمل وتحالفات محلية ودولية. وقد استدركت المجموعة العربية الاقليمية مواطن قوتها ايضا من خلال طرحها لقضايا العنصرية والتمييز في البلدان العربية وذات الوقت طرح القضية الفلسطينية كقضية محورية وعنصرية اسرائيل والصهيونية, بالاضافة الى تنظيم ذاتها من خلال هيئات اقليمية ككتلة فعالة ومحورية في المؤتمر وفي مرحلة التحضير له, ونجحت في الاستفادة من الموقع الخاص للمنظمات الاهلية الفلسطينية في الداخل وبالذات من اتحاد الجمعيات (اتجاه) واللجنة التحضيرية المحلية التي مثلت العمل الاهلي الجماعي في المواجهة اليومية للنظام الاسرائيلي والصهيونية واعداد التقارير والوثائق التي تكشف عنصرية اسرائيل البنيوية والتي تحاول الدولة التستير عليها واخفاء طابعها. الامر الذي لاقى التعبير الاهم عنه عندما قدم مدير "اتجاه" اقتراحات التلخيص لقرارات المؤتمر نيابة عن المجموعة العربية الاقليمية لما في ذلك من اعتراف بدور وجدارة مؤسساتنا في الداخل. وجدير بالذكر ايضا اعتماد الوفود الرسمية الحكومية العربية ومن دول العالم الثالث التقارير الصادرة عن اللجنة المحلية التحضيرية للجمعيات العربية في مقارعة اسرائيل والوفود الغربية التي دافعت عنها.

وقد عملت الكتلة العربية من منطلق ان تكامل الادوار عربيا اقليميا وبشكل منظم يتيح محاصرة اسرائيل وعزلها على المستوى الشعبي العالمي. وفي هذه المهمة هناك دور مركزي للجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني في اسرائيل. وهو ينقلنا للعب على الحلبة العالمية كقطاع منظم وفعال في دفع الحراك الشعبي والمؤسسي عالميا باتجاه اكثر فاعلية من اجل الغاء احد اكثر اشكال الغبن التاريخي في هذه الحقبة الا وهو الظلم اللاحق بالشعب الفلسطيني. ومن اكثر النظم العنصرية والكولونيالية المحمية اكثر من ضحاياها والتي تتمتع دوليا بامتيازات ضحاياها التي صادرتها كما صادرت كل شيء من خلال تبرير ذلك بالمتاجرة بالمسألة اليهودية في اوروبا وكارثة يهود اوروبا التي تشكل احدى اكبر الجرائم ضد الانسانية . لكنا نميز بين المسألة اليهودية ومناهضة العداء لليهود واللاسامية وبين مناهضة اسرائيل والمشروع العنصري الاستيطاني الصهيوني.

واطلق مؤتمر ديربان صرخة مدوية ورسالة هامة جدا, للاسف انست العالم اياها تفجيرات 11 ايلول في نيويورك, وهي ان الصهيونية وكذلك اللاسامية هما حركتان عنصريتان اوروبيتان متزامنتان وغذت احداهما الاخرى او شكلت انعكاسها في مرآة المجتمعات الاوروبية, وان الشعب الفلسطيني دفع في نهاية المطاف ثمن كليهما. وحذر المؤتمرون من محاولات ربط معاداة اللاسامية بالعرب والاسلام ضحايا العنصرية المعاصرة. واكد المؤتمر وجود العنصرية كمركب مركزي في النظام العالمي الراهن, حيث ان انظمة عنصرية مثل اسرائيل وحركات عنصرية كالصهيونية محمية اكثر من ضحاياها, كما ان هناك تمييز في تعامل العالم الغربي الرسمي بالذات ما بين اللاسامية ومعاداة الاسلام وكره الاجانب.
جدول الاعمال المستقل للجنة التحضيرية المحلية ولاتحاد الجمعيات (اتجاه) والحسم في طرح القضية الفلسطينية بكل مركباتها كقضية واحدة, والحسم بشأن العمل ضمن المجموعة العربية الاقليمية, كجزء طبيعي منها, ومهاجمة اسرائيل كنظام عنصري كل ذلك كشف طبيعة العلاقة مع المنظمات الاسرائيلية غير الحكومية وبالذات منظمات حقوقية، ومع مصادر دعم يهودية امريكية واسرائيلية. فقد اثار هزة عنيفة وغير مسبوقة لدى المنظمات الاسرائيلية غير الحكومية, ومصادر الدعم اليهودية الموالية لاسرائيل باعتبارها اياها دولة يهودية دمقراطية وتسعى من اجل تعزيز ذلك الطابع. لدرجة ان بعض المنظمات اعتبرت ومن منطلق وصائي ان ذلك شكل خروجا عن الطوق لدى المنظمات العربية, وحاولت بعضها ان تتعاون مع بعض الجمعيات العربية لطرح مبادرة لتكتل اسرائيلي فلسطيني يشارك في ديربان كنموذج نقيض للتكتل العربي الاقليمي الذي اختارت الجمعيات العربية العمل ضمنه. اما مضمون ما طرحته بالاستعانة ببعض العرب، فهو التمحور في الحديث عن "عنصرية وتمييز في اسرائيل" في مواجهة طرح اللجنة المحلية التحضيرية للجمعيات العربية بخصوص "عنصرية الدولة البنيوية", الا ان الغالبية الساحقة من المنظمات الاسرائيلية اختارت عدم المشاركة في المؤتمر من منطلق ان "اللغة قاسية ضد اسرائيل" وانها لا تريد ان تهاجم اسرائيل من الخارج. وعمليا المجتمع المدني الوحيد في العالم الذي لم يشارك في المؤتمر بارادته هو مؤسسات المجتمع المدني الاسرائيلية في حين ان المشاركة الاسرائيلية كانت واسعة وقوية من قبل وزارة الخارجية والحركة الصهيونية العالمية باسم المجتمع المدني الاسرائيلي. لكن الامر لم يتوقف عند هذا الحد بل تدخلت مصادر التمويل وبالذات "الصندوق الجديد لاسرائيل" الذي سمح لذاته بالتحقيق مع بعض الجمعيات العربية التي يدعمها حول موقفها وحول دعمها لبيان مؤتمر القاهرة التمهيدي لمؤتمر ديربان في ذات العام. وهذه شكلت خطا احمر تمت مواجهته في حينه. لكنها ايضا بينت بشكل جلي حدود التمويل ونفوذه وسياسته. في المقابل تعرضت صناديق دعم اخرى غير يهودية الى ضغوطات من اللوبي اليهودي الامريكي و"مرصد المنظمات غير الحكومية" التابع له وللخارجية الاسرائيلية وعدلت عن مواقفها الداعمة لتصبح مشروطة ومنها مطالبة اتحاد الجمعيات (اتجاه) بتغيير الصوت الجماعي السياسي للجمعيات العربية ليصبح اقل نقديا تجاه اسرائيل, وعرفنا ان معنى رفضنا لمطلبهم يعني الاستغناء عن دعمهم, ليصبح لدينا اليوم قائمتان واحدة للصناديق التي نتوجه اليها لطلب الدعم واخرى بالصناديق التي نرفض دعمها. في حين لاقى هذا الموقف التقدير من صناديق داعمة ومتضامنة قامت بمضاعفة دعمها بغية الاسهام في التعويض عما توقف لاسباب سياسية ودعما للاستقلالية السياسية.

لكن الامر لم يتوقف عند هذا الحد بل ان "مرصد المنظمات غير الحكومية" هذه المؤسسة الصهيونية قامت بحملة تحريض على الجمعيات العربية في الداخل التي شاركت في مؤتمر ديربان (اتجاه, المؤسسة العربية لحقوق الانسان, عدالة, جمعية الجليل, لجنة المهجرين) وهاجم الصناديق التي دعمت هذه المؤسسات وبالذات مؤسسة فورد التي مولت نشاط اللجنة التحضيرية المحلية للمؤتمر وخضعت لضعوطات من الكونغرس واللوبي اليهودي الامريكي ومنظمات مجتمع مدني اسرائيلية مما اسهم في السنتين الاخيرتين في تغيير سياستها في اسرائيل ولتصبح تعمل ضمن اطار مشترك مع "الصندوق الجديد لاسرائيل". وقد قام "المرصد" بحملة تحريض على المجلس الاقتصادي الاجتماعي في الامم المتحدة في ربيع العام 2004 من اجل منع منح اتحاد الجمعيات العربية "اتجاه" صفة استشارية خاصة من الامم المتحدة. وذلك بعد ان اعترض سفير الولايات المتحدة في الامم المتحدة على منح "اتجاه" هذه الصفة الهامة. الا ان جهودهم فشلت حيث ان الهيئة التي تبت في اعتماد منظمات غير حكومية لا يوجد فيها حق نقض للولايات المتحدة.

في ديربان تيقنا اكثر من اي وقت مضى ان التعامل مع المنظمات العربية في اسرائيل يختلف من حيث معايير الجهات المانحة مع اية منظمات في اية دولة اخرى. فالمقياس لدى الكثير من الجهات المانحة ليس فقط الاداء والمشاريع والنجاعة بل الموقف من اسرائيل او من التعاون مع المؤسسات الاسرائيلية. وهو مواز او يتساوق مع موقف الادارة الامريكية من دول وفق علاقتها باسرائيل. ففي اي بلد اخر لو قامت المنظمات غير الحكومية بانتقاد الحكومة او الدولة على عنصريتها او عدم دمقراطيتها لاعتبر ذلك صوت المجتمع المدني وتم دعمه, وفي حالتنا فان اسرائيل تبقى محمية وعلى ضحاياها ملاءمة سلوكهم لهذا الواقع وليس تغييره.
· هنالك تضامن عالمي واسع جدا مع القضية الفلسطينية بكل مركباتها, بما فيها الداخل, وهذا التعاطف يحوي طاقات هائلة لكنها غير مستغلة بالشكل الكافي سياسيا وشعبيا, وهي بحاجة بشكل متواصل الى الفعل الفلسطيني الموجه وهو مسؤولية فلسطينية عليا على كافات قطاعات ومؤسسات واجزاء الشعب الفلسطيني.

· يوجد دور اساسي فلسطينيا لمؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني في اسرائيل في فضح جوهر اسرائيل وتحديه ومواجهته. وهو دور اصبح اكثر ملموسا وفاعلية في السنوات الاخيرة, حيث اتضحت اهميته القصوى في مؤتمر ديربان. وسيكون ملموسا اكثر مستقبلا خاصة في تحريك حملات المقاطعة والاجراءات العقوبية ضد اسرائيل.

· حركة التضامن المتبادل العالمية ومصدر القوة والشرعية تجاه الشعوب المظلومة ليس ما يقرره "الشمال" الغني او المستعمر السابق وانما هناك طاقات كبيرة جدا في التحالف "جنوب – جنوب" اي بين شعوب العالم الثالث او المستعمرة والمستضعفة من قبل القوى الغربية المهيمنة.

· تغيير معادلة التضامن: نحن الفلسطينيين تعودنا ان نتلقى التضامن اكثر مما ان نتضامن مع غيرنا من شعوب العالم. ففي مؤتمر ديربان تأكد ان العالم يتضامن مع الضحية اذا كانت مناضلة وتناضل من اجل حقوقها وحريتها. والتضامن يختلف عن التعاطف, كون التضامن هو فعل منظم وهادف لتغيير واقع من خلال مساندة. وفي مثل مؤتمر ديربان اجتمعت قضايا العالم ومشاكله, ليظهر قويا المركّب الاخر للتضامن الا وهو التبادلية والتضامن كقيمة, وحاجة الاخرين لتضامن ضحايا اخرين معهم. وهنا ظهرت حاجة الى تضامننا مع شعوب ومجموعات اخرى تعاني من ويلات ومآس لا حصر لها.
كجزء مكمل لهذا, تعزيز نهج حركات التضامن التي تتضامن مع الشعب الفلسطيني كشعب في الضفة والقطاع والشتات والداخل, كقضية فلسطينية واحدة كلها من اسقاطات النكبة.

· وضوح افاق الدور الذي من الممكن ان يلعبه قطاع العمل الاهلي المنظم في الداخل على مستوى المجتمع المدني العربي اقليميا وعلى مستوى المجتمع المدني فلسطينيا في الوطن والشتات اضافة الى الدور الدولي. وكذلك اهمية اعتراف المجتمع المدني العربي اقليميا بهذا الدور والاستفادة منه, استنادا الى ان المركب الكولونيالي والعنصري في دولة اسرائيل ليس وليد احتلال العام 1967 والاستيطان في الضفة والقطاع والجولان, بل هو جوهر اسرائيل قبل وخلال وبعد قيامها في العام 1948 وهو ما يلازمها دون انقطاع. وفي المقابل وكأساس لهذه العلاقة فاننا مطالبون في الاسهام في مناهضة التطبيع مع اسرائيل, وهذا حسم استراتيجي.

· العمل الوطني الجماعي والصوت الجماعي الوطني الدمقراطي والاستعداد لدفع ثمن الموقف المبدئي هي مركبات متكاملة في ضمان المصداقية واحترام الاخرين لنا حتى الخصوم والاعداء. وكل تخلّ عن وضوح الموقف الحازم والمبدئي لن يفيد من يتبناه, بل سيلحق الضرر بالجميع. والموقف المبدئي المثابر هو الذي يحرك التضامن معنا كجزء من القضية الفلسطينية وليس قضية اسرائيلية داخلية.

· ان الجمعيات وهي مؤسسات غير منتخبة جماهيريا فانها اذ تأتمن انفسها على مصالح شعبنا فهذه مسؤولية هائلة, لان البيئة الخارجية تشد كثيرا بعكس هذا الاتجاه, بل تشد باتجاه المساومة على هذه المسؤولية والامانة.

· وضوح الحاجة لاستقلالية تمويلية بغية المحافظة على الاستقلالية في المواقف والثوابت وعلى المصداقية الوطنية للمدى البعيد, والاستعداد لدفع ثمن المواقف.

· الاستعداد لحقبة اصبح فيها تدخل مصادر الدعم والاشتراط السياسي للتمويل اكثر مباشرة وفظاظة.

· وضوح حالة محلية هنا بان هناك من يدفع ثمن موقفه وهناك من يقبض تمويليا ثمن موقفه وثمن موقف غيره. واطلاق حملة لمواجهة تمييز جهات مانحة بين الجمعيات الاهلية العربية على اساس "متطرفة" او "معتدلة" فالواقع اكثر تطرفا, بل ان التصنيف المذكور ليس اسرائيليا فحسب بل دوليا وفيه محاولة للتسليم بالواقع ومطالبة الجمعيات العربية بالتسليم به ودفع مستحقاته بدل مواجهة جوهر اسرائيل.

· الاخذ بالحسبان ان سلسلة من القوانين المعادية للدمقراطية تم اقرارها في غالبية البلدان الغربية وذلك تحت شعار "الحرب على الارهاب", والتي تفرض نمطا جديدا على الجهات المانحة في تقديم دعمها. ومنها اشتراط الدعم بالتوقيع على نص "ضد الارهاب والعنف والتعصب والقضاء على اية دولة", وهي قوانين بادر اليها الكونغرس الامريكي وسرعان ما تبنتها غالبية الدول الغربية.

· الحاجة الى ميثاق اخلاقيات للعمل الاهلي العربي وبلورة ثوابت وحسم مواقف ومواقع وهو ما يجري بلورته على مستوى قطاع العمل الاهلي المنظم.

· الاستثمار المتزايد والجدي في بناء الذات وبناء المؤسسات وعلاقته بالناس والمجتمع وحملها الصادق لهمومه كجزء من مواجهة السعي عالميا لخلق جيل جديد من المؤسسات التي تبدونقدية بلهجتها لكن ضمن المنظومة القائمة وقواعد اللعبة المسموح بها باسم الواقعية السياسية.

· اهمية تقوية العلاقة مع الحركة السياسية والحزبية والاطر الجماهيرية على اساس تقاسم الادوار كجزء من تنظيم المجتمع والدفاع عنه وتمثيل مصالحه.

· اهمية الحلبة العالمية للتأثير باتجاه حماية انفسنا كشعب في وطنه مهدد بالاقتلاع والتشريد والملاحقة.

· الاستفادة من حالة الاعتراف المتزايد بوضعية ودور الجماهير العربية في اسرائيل وذلك على المستوى الدولي رسميا وشعبيا ومواصلة السعي لتعميق وتوسيع هذه الحالة اعتمادا على انشطة المؤسسات وتقاريرها وعلى عشرات الابحاث التي يقوم بها باحثون اجانب حول تجربة العمل الاهلي العربي في الداخل وعشرات الوفود والمتطوعين الذين يندمجون على مدار العام بعمل المنظمات الاهلية العربية.

· العنصرية الاسرائيلية كجزء من المشروع الاستيطاني الكولونيالي في تصعيد مستمر ومتواصل سواء على المستوى الرسمي السياسي ومواقع اتخاذا القرار ام على مستوى التشريع ام على مستوى الشارع وكذلك في الممارسات الاقتلاعية والمصادرة والملاحقة السياسية والمجازر. وقد بلغت حدا دمويا شهدنا مؤشرات تصعيده وفلتانه مؤخرا. وقد يكون تقرير مركز مدى- الكرمل الراصد لهذه العنصرية بمستوياتها المختلفة والذي صدر مؤخرا, هو وثيقة هامة ومرجعية تبين التحول الكمي الى نوعي والى المخاطر المحدقة, وهو يضاف الى الوثيقة الجماعية التي قدمتها الجمعيات العربية الى مؤتمر ديربان, هذه الوثيقة وتقرير مدى الكرمل وتقارير عينية لعدد من المؤسسات بالذات المؤسسة العربية لحقوق الانسان وعدالة من الضرورة تبنيها من قبل كل هيئات جماهير شعبنا كوثائق مرجعية لمواجهة العنصرية الاسرائيلية. واليوم واذ تماطل اسرائيل في تقديم تقريرها حول العنصرية الى الامم المتحدة, فان الجمعيات العربية بتحالفاتها الدولية تسعى الى تسريع تقديمه ليتاح المجال لها حسب اجراءات الامم المتحدة بتقديم تقرير مواز يكشف حقيقة اسرائيل, وهذه المرة نستند الى ادوات جديدة منها الصفة الاستشارية من الامم المتحدة التي بامكان كل مؤسسات شعبنا الاستفادة منها, اضافة الى الدعم الشعبي والمؤسساتي الواسع لما اطلقناه قبل سنوات الا وهو الحماية الدولية وتدويل قضايانا كجزء من القضية الفلسطينية وليس كمسألة اسرائيلية داخلية.
----------------------------------------------------

(الكاتب مدير اتحاد الجمعيات العربية (اتجاه) ومركز اللجنة التحضيرية المحلية لمؤتمر ديربان (2001) وفي حينه عضو السكرتارية العربية الاقليمية للمؤتمر)

التعليقات