31/10/2010 - 11:02

استراتيجية كيسنجر المناوئة لخطة أوباما في أفغانستان../ جميل مطر

استراتيجية كيسنجر المناوئة لخطة أوباما في أفغانستان../ جميل مطر
لم تتراجع دول أوروبا عن نيتها خفض معدلات الإنفاق الحكومي، باعتباره السبيل الوحيد للخروج من الضائقة المالية التي نتجت عن الاهتمام الكبير لسياسات الرفاه الاجتماعية، ونتجت أيضاً عن العاصفة المالية التي ضربت العالم الرأسمالي في خريف 2008. لم تتراجع، كما ظهر واضحاً من خلال اجتماعات قمة الثماني ثم العشرين في كندا، ولن تتراجع.

إذا كنا نؤمن حقاً بأن أوروبا لن تتراجع عن سياسة التقشف في الأجل القصير، فإنه يجب علينا أن نقتنع بأن مساهماتها كدول أعضاء في حلف الأطلسي سوف تنكمش. وبالفعل أعلنت كل من ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا أن ميزانيات الدفاع سوف تتقلص. ومن لندن صرح ليان فوكس وزير الدفاع في حكومة الائتلاف الجديدة، أن حكومته لن تكون “رحيمة” مع ميزانية الدفاع.

نعرف أن نية التخفيض ليست جديدة أو طارئة، فقد انخفضت ميزانية الدفاع الإسبانية في العام الماضي بمبلغ 400 مليون دولار، قبل أن تعلن أن التخفيض المخطط للعام الجاري قد يصل إلى 600 مليون.

وفي ألمانيا أعلن وزير الدفاع عن رغبته في الاستغناء عن 000 .40 جندي في الجيش الألماني وعدد أفراده 000 .250 فرد، ومازالت ألمانيا متمسكة ببقاء أفراد قواتها داخل معسكراتهم على الأراضي الألمانية وتمنع خروجهم بأعداد كبيرة إلى مناطق قتال في الخارج.

إن الإصرار الأوروبي على انتهاج سياسة التقشف في الإنفاق يعني عدة أمور:

أولاً: سوف تجد دول أوروبية في سياسات التقشف ما يبرر أمام الولايات المتحدة والعالم الإجراءات التي شرعت بالفعل في اتخاذها لخفض الإنفاق على شؤون الدفاع، وتكشف معظم الميزانيات الأوروبية عن ميل واضح في هذا الاتجاه.

ثانياً: سوف يلحق بتخفيض ميزانيات الدفاع خفض في مساهمات دول أوروبا الأعضاء في حلف الناتو بشكل عام، وسوف يشمل التخفيض عدد القوات التي تسهم بها الدولة إلى جانب الدعم المالي. يدخل في هذا الإطار قرار قيادة الحلف بتخفيض عدد العاملين في اثني عشر مقراً من مقار الحلف في شتى أنحاء القارة.

ثالثاً: فإذا ما انخفضت مخصصات حلف الأطلسي يصبح من المؤكد أن ينخفض عدد الجنود الأوروبيين العاملين في أفغانستان، هذا بالإضافة إلى أن سياسات التقشف قد تشمل المعونات الاقتصادية وموازنات التدريب المخصصة لأفغانستان من جانب دول الحلف.

رابعاً: انخفاض مساهمات الجانب الأوروبي في ميزانية حلف الناتو وفي الإنفاق الدفاعي بوجه عام سوف يعمل على توسيع الفجوات القائمة فعلاً بين جناحي الحلف الأطلسي.
بمعنى آخر، يبدو أن ما يسمى بالمشهد الباسيفيكي يتكرر . لقد رأينا عبر مراحل متعددة في القرن العشرين كيف صار المحيط الهادي “بحيرة إمبراطورية” تخضع بالكامل للولايات المتحدة الأمريكية.

فلسنوات طويلة لم تنافس الولايات المتحدة قوة أخرى من القوى الكبيرة المطلة عليه، لا الاتحاد السوفييتي ولا الصين ولا اليابان ولا أستراليا. لم يحدث شيء مماثل في المحيط الأطلسي، لأن الغرب المنتصر اتفق على إقامة حلف باسم الأطلسي يجمع بين ضفتي المحيط فيجعله محيطاً غربياً وليس بالضرورة أو بالشكل أمريكياً، وإن كان للولايات المتحدة فيه موقع القائد.

الآن وعلى ضوء التخفيضات في الإنفاق الأوروبي على الدفاع والزيادات الهائلة في نفقات الحرب الأمريكية، وفي الوقت الذي تتسارع فيه خطوات الصين التسليحية ويزداد إنفاقها على شؤون الدفاع، يكاد الأطلسي يحل محل الهادي كبحيرة أمريكية وإن ليست “إمبراطورية”، ويكاد المحيط الهادي يعود إلى مرحلة حين كانت اليابان تحاول إجبار الولايات المتحدة على القبول بمبدأ الهيمنة المشتركة على المحيط. الاختلاف الوحيد بين المرحلتين هو أن الصين تحاول إقناع الولايات المتحدة ولا تحاول إجبارها.

شهدت الأسابيع الأخيرة تطورات مهمة على صعيد الخريطة الاستراتيجية العالمية، كان بين عناوينها الرئيسية عنوان: “الناتو ينسحب تدريجياً من ساحات المواجهة الدولية بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية”، وعنوان “رغبة الدول الأوروبية في خفض إنفاقها على الدفاع”، وعنوان “مؤشرات عديدة على فشل الجهود العسكرية في أفغانستان وبوادر انسحاب أمريكي على نطاق واسع”، وعنوان “اشتعال بؤر توتر كثيرة في وسط آسيا وربما السباق على النفوذ في دول المنطقة لإقامة قواعد عسكرية واستغلال الثروات المعدنية”. وعناوين أخرى من نوع الاعتراف الضمني من جانب الدول الغربية بالصين قوة هيمنة إقليمية عظمى، وإدراك عام بمغزى الزيادة الكبيرة في الإنفاق العسكري الصيني، وإقامة الصين قواعد بحرية وبناء موانئ جديدة في دول آسيوية وإفريقية عديدة. هذه العناوين وغيرها تعكس تطورات تعيد في مجملها التنبيه بشكل عام إلى الأهمية الاستراتيجية الفائقة لآسيا الجديدة، والتنبيه بشكل خاص إلى محورية أفغانستان في سياق استراتيجي مختلف عن السياق الذي جرى في إطاره غزوها واحتلالها، أي قبل عشرة أعوام أو أقل قليلاً.

هنا، وعلى ضوء هذه العناوين وعواقب الأزمة الاقتصادية الممتدة، يبدو التحليل الذي قدمه هنري كيسنجر ونشرته صحف غربية في مطلع هذا الأسبوع مستحقاً للتأمل والاهتمام، وأكثر من التحليل تبدو التوصيات التي يقترحها جوهرية لكل من يحاول استشراف مستقبل للمغامرة الأمريكية في أفغانستان. يبدأ كيسنجر، كما يبدأ دائماً كل معلق أو خبير يقرر أن يقترب من الموضوع الأفغاني، بتسجيل ملاحظات تاريخية. أولها: إن أحداً في التاريخ لم يفلح في فرض الأمن والاستقرار على أفغانستان مستخدماً قوات أجنبية. ثانيها: أن أفغانستان ليست دولة، ولن تكون، وإنما هي في أفضل الأحوال مجموعة كيانات عرقية وقبلية يتمتع كل منها باستقلال شبه ذاتي ولا يمكن أن تقوم فيها لمدة طويلة حكومة مركزية تسيطر على البلاد كافة. ثالثها: أن أهل البلاد يتمتعون بصلابة نادرة في التمسك باستقلالهم، وهي الصلابة التي تجعلهم غير قابلين أو مستعدين للخضوع لحكومة مركزية أو لقوة أجنبية.

بعد هذه المقدمة التاريخية التي ألفناها ينتقل كيسنجر إلى مقدمة وصفية حيث يقوم بتشريح الاستراتيجية الأمريكية الراهنة في أفغانستان فيصفها بأنها “استراتيجية خروج، ولكن مع التركيز على كلمة الخروج وإهمال كلمة الاستراتيجية”. بمعنى آخر يقول إنه لا توجد استراتيجية لدى القوى الغربية التي تحتل أفغانستان وإنما توجد رغبة في الخروج، وعاجلاً إن أمكن. تسعى هذه القوى عن طريق قياداتها العسكرية والسياسية الموجودة في أفغانستان إلى خلق قيادات وهياكل سياسية جديدة، وإقامة كونفيدرالية تضم الأقاليم التي تخضع حاليا لسلطات إقطاعية، ومنحها استقلالاً ذاتياً إن أمكن . المهم أن يؤدى كل هذا إلى تسهيل الانسحاب الأمريكي المبكر من أفغانستان.

هذا السعي الجهوري للانسحاب العاجل، يراه كيسنجر خطراً مؤكداً يهدد جميع دول آسيا التي تعيش فيها أقلية إسلامية معتبرة . ستفسره الهند التي يعيش فيها 160 مليون مسلم تنازلاً أمريكياً عن تعهد واشنطن استمرار البحث عن دور لتحقيق استقرار في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وستعتبره الصين تهديداً لهيمنتها على إقليم سنكيانج الذي تسكنه غالبية مسلمة، وستراه روسيا خطراً يهدد مناطقها الجنوبية، وستراه جميع الأطراف الإقليمية في آسيا بمثابة ترخيص أمريكي للصين لتتولى مسؤوليات الهيمنة الإقليمية دون رادع أو منافس.

يقترح كيسنجر تفادياً لمزيد من تدهور المكانة الاستراتيجية الأمريكية، التوقف عن الحديث عن انسحاب أمريكي قريب أو واسع، والبدء فوراً في إعادة توزيع الجهد العسكري الأمريكي على أسس مختلفة تعتمد اللامركزية، أي التركيز على المقاطعات وليس على الأمة بأسرها. أما الجهد الأساسي فيجب أن يتوجه إلى النواحي الدبلوماسية على مستويين، مستوى العلاقات مع حكام المقاطعات في الداخل، ومستوى العلاقات مع الدول الإقليمية المهمة في الخارج، على أن يكون هدف المستوى الداخلي دعم اقتصاد أفغانستان الذي أصبح ينمو بمعدل 15% سنوياً، وهو أعلى معدل نمو بالعالم.

ومع ذلك ينبه كيسنجر إلى أهمية المستوى الثاني، أي المستوى الخارجي . أراه اهتماماً منطقياً يعتمد على خلفية كيسنجر الأكاديمية وأسلوبه الذي اتبعه في رسم وتوجيه السياسة الخارجية الأمريكية في مرحلة الانفتاح على الصين وفتح قنوات اتصال مع الاتحاد السوفييتي. يذكرنا كيسنجر في مقاله الأخير بقصة بلجيكا المألوفة، حين قرر زعماء أوروبا في عام 1830 إقامة دولة تحت هذا الاسم تكون محايدة وتحترم دول أوروبا حيادها وتضمن عزلها عن خلافات دول وسط القارة وكلها ساع إلى موطئ قدم على ساحل الأطلنطي وقريباً من طرق التجارة إلى ومن العملاق المقيم على الضفة الأخرى من المحيط. استناداً إلى التجربة البلجيكية يدعو كيسنجر الولايات المتحدة إلى إقامة مجلس في آسيا أقرب ما يكون شكلاً إلى مجلس أوروبا الذي أنشأ بلجيكا ،1830 تكون مهمته إقرار حياد أفغانستان وعزلها عن خلافات الدول المحيطة بها أو القريبة منها، وتشترك الدول الأعضاء فيه في تنمية ثروات أفغانستان بشرط الالتزام بقواعد ومبادئ تمنع هذه الدول من الدخول في صراع “استعماري” جديد على استغلال الثروات الأفغانية التي جرى مؤخراً الاعتراف بوجودها بكميات هائلة.

إذا توصل جيران أفغانستان مع الولايات المتحدة لاتفاق من هذا النوع، يمكن عندئذٍ، وعندئذٍ فقط، تصعيد الحملة العسكرية ضد الطالبان، لأنها تكون قد ضمنت الشرعية والدعم من خلال التوافق الإقليمي الجديد.

بارع هذا الرجل، ليس بسبب التحليل الذي قدمه عن أفغانستان وموقعها بالنسبة لصراعات آسيا الناشبة والمحتمل نشوبها، ولكن لقدرته الفائقة على تسريب ملامح مشروع استراتيجية جديدة في القارة الآسيوية، تضمن على الأقل لأمريكا دوراً مشاركاً مع أدوار قوى أخرى، بعد أن كان لها الدور الأوحد أو الأعظم .
"الخليج"

التعليقات