31/10/2010 - 11:02

استعدوا لصدام حضاري جديد../ جميل مطر*

استعدوا لصدام حضاري جديد../ جميل مطر*
قبل ثلاثين عاماً أو يزيد كان ضرباً من ضروب الإغراق في الخيال العلمي أن نفكر أن جيلنا سوف يستخدم هاتفاً أرضياً أو جوالاً يظهر على شاشته المتحدث أو المتحدثون على الطرف الآخر من المحادثة، أو أننا سنعيش لنشاهد مشاهد على قناة تلفزيونية أجنبية تلتقطها أجهزتنا في اللحظة ذاتها التي تبث فيها في بلادها، أو أننا سوف نستنسخ نعجة ثم أخرى، ثم دجاجاً وحيوانات من أنواع أخرى كثيرة، وأننا سوف نأكل خضراوات على شكل نفضله، وبالطعم الذي نرغبه وفي الوقت الذي نختاره، أي خارج مواسم حصادها وفي بلاد غير بلاد نشأت بها واشتهرت فيها.

ولا أظن أنه كان يخطر على بالنا أنه سيأتي يوم، هكذا قريب، نكتشف فيه أن الفضاء المحيط بنا سوف يحتفظ بكافة مراسلاتنا الإلكترونية ومنها الشخصية جداً لنسترجعها وقتما نشاء، أو، وهو المثير للغاية أو المخيف، ليسترجعها من شاء استرجاعها للاطلاع عليها واستغلالها لأوجه الخير أو الشر بعد يوم أو سنة أو ألف سنة أو مليون سنة.

منذ أن بدأت تتراكم إنجازات الثورة في التكنولوجيا الإلكترونية وتكنولوجيا علوم الإحياء، أي منذ عشرين سنة أو أكثر، تضاعفت رغبتي في الاستماع إلى رؤى مستقبلية والتفكير فيها حتى لو بدت استثنائية في غرابتها وابتعادها عن الواقع الراهن. من ذلك مثلاً ما طرحه منذ أيام قليلة الكاتب الأمريكي Dyson في مقال تحت عنوان “مستقبلنا مع التكنولوجيا الحيوية” ونشرته مجلة “نيويورك ريفيو أوف بوكس” العريقة. أذهلني الطرح رغم استعدادي الذهني الكامل لاستقبال ومناقشة أعقد صور الخيال العلمي وأكثرها ابتعادا عن الحقيقة والواقع، وأشدها تعرضا لمسلمات أخلاقية ودينية، ولا أقول أشدها تناقضا معها.

يقول دايسون إننا نعيش الآن في قمة الاستفادة من إنجازات في ثورة التكنولوجيا في العلوم التطبيقية والفيزيائية. نعيش عصراً هيمنت عليه وعلى حياتنا كأفراد ومجتمعات ودول منتجات هذه الثورة التكنولوجية وخاصة بعد أن انضم إلى عملية الإنتاج والتطوير والابتكار مخترعون من الشباب ينتجون ما شاءوا أن ينتجوا من ألعاب إلكترونية وخدمات مكتبية ومنزلية.. حتى صار شائعاً القول بأن الاختراعات انتقلت من المعامل ومراكز البحث والعصف الفكري إلى المكاتب والمنازل.

كثيرة هي المؤشرات على تطورات في المستقبل من نوع مختلف جذرياً عن الواقع الراهن، تطورات تشير إلى هيمنة ثورة تكنولوجية أخرى هي التكنولوجيا الحيوية. وكثيرة بالقدر نفسه، أو ربما أكثر، احتمالات نشوب ثورة أخلاقية وثورات أو انتفاضات دينية تصاحب هذه الثورة في التكنولوجيا الحيوية. كثيرة أيضاً احتمالات التغير الاجتماعي والاقتصادي، في مقدمتها احتمال أن يتحقق حلم الأجيال، بانتقال الرخاء من المدن إلى الريف وبالتالي إتاحة الفرصة للقضاء على الفقر في كافة أنحاء العالم. تعالوا نقضي بعض الوقت مع سطور تتصور أوضاعاً خيالية، ولكن مرشحة وبقوة لأن تصير واقعاً بعد ثلاثين أو أربعين عاماً.

لقد تمكنت ربات بيوتنا من أسرار التكنولوجيا الإلكترونية والرقمية فاكتشفن وجربن حتى اعتمدن على الغسالات الكهربائية والأطباق اللاقطة والأفران الكهرومغناطيسية والكاميرات الرقمية والحاسب الآلي والشبكة والألعاب الإلكترونية. حدث هذا وانتشر وهيمن في مدة قصيرة لا تزيد على نصف قرن. أما وقد بدأت منتجات الثورة التكنولوجية الحيوية تنتشر ففي الغالب، إن لم يكن من المؤكد، أن يحدث لربات البيوت مع منتجات هذه الثورة الجديدة ما حدث لهن مع منتجات الثورة الأولى. نتخيل ربات بيوتنا وأطفالنا وشبابنا وقد تمكنوا جميعا من أسرار التكنولوجيا الحيوية كما تمكنوا من قبل من أسرار التكنولوجيا الإلكترونية. ستحل ألعاب التكنولوجيا الحيوية محل الألعاب الإلكترونية، وستجري في المنازل محاولات لاكتشاف أو تجربة إنتاج دجاجة أو أرنب أو طائر منزلي أو سمكة بمواصفات خاصة تختارها ربة البيت. ستعيش في بيوتنا قطط وكلاب وطيور زينة من اختراعنا، وستنتج حدائق منازلنا فواكه وخضراوات بألوان ومذاق وأشكال نختارها لتتناسب مع أذواق ضيوفنا والحفلات التي نقيمها. سيلعب الأطفال في مدارسهم ببيض وبذور حقيقية ويتنافسون على نوع الفقس وجودته.. هذا ينتج ديناصورا صغيراً أصفر الجلد وآخر ينتج نباتاً يأكل فرعه الأكبر الفروع الأصغر.

ستكون الهندسة الوراثية هواية الصغار قبل الكبار، وعندئذ ستسود أخطار يصعب التنبؤ بها، ليس أقلها شأناً الآثار المباشرة لهذا التطور على العقائد الدينية ومنظومة الأخلاق والقيم. ويظهر حجم المشكلة عندما يحاول الفرد منا، أي من الذين يعرفون أن آفاق التقدم العلمي غير محدودة، الإجابة عن الأسئلة الخمسة التالية المتعلقة بمسيرة التحول إلى الثورة في علم البيولوجيا: هل يمكن إيقافها؟ وهل يجب إيقاف هذه المسيرة؟ وإذا كان إيقافها غير ممكن أو غير مرغوب فيه، فما هي الحدود والقيود التي يتعين على المجتمعات فرضها فلا يتجاوزها قادة هذه الثورة من علماء أو حتى من شباب الهواة؟ وكيف يجري اتخاذ أي قرار بشأن هذه الحدود والقيود، من يضعها ومن يقررها، أتقررها المؤسسة الدينية أم المؤسسة العسكرية أم مؤسسة الحكم؟ وأخيراً، ومع افتراض أنه أمكن وضع هذه الحدود والقيود وصياغتها في شكل تشريعات وقوانين وإجراءات، فمن يضمن تنفيذها محلياً ودولياً. بمعنى آخر، ما هي الجهات والأجهزة المحلية والأجنبية التي سيجري تكليفها لأداء هذه المهمة، وما هي حدود القوة الممنوحة لها وحقها في التدخل في شؤون الدول الأخرى؟ يكفي لنعرف حجم المشكلة الأخلاقية أن نتصور على ضوء ما فعلته بمصر وشعبها وحكمائها “هبّة” الفتاوى في الآونة الأخيرة، ما يمكن أن يحدث حين يبدأ زحف التكنولوجيا الحيوية على كل بيت في مصر.

أستطيع أن أتصور حدوث أمرين على الأقل في العقدين المقبلين، أتصور أن التقدم في التكنولوجيا الحيوية سيواصل تحقيق إنجازات في شكل اختراعات جديدة وتيسيرات “علمية وتكنولوجية” تجعل هذه التكنولوجيا في متناول أيدي الناس العاديين. وهنا تكمن الخطورة الكبرى في استمرار هذا التقدم. إذ أنه حين “تدجّن” هذه التكنولوجيا ومنتجاتها، أي حين تصبح شأناً منزلياً وعائلياً. وهو أمر شبه مؤكد ولعله أهم موجة في موجات المستقبل، نكون قد انزلقنا نحو الأمر الثاني وهو السقوط في جب بلا قاع ما لم نستعد له الاستعداد الكافي.

وحين يقترح المؤلف Dyson مناقشة الأخطار المتوقعة نتيجة استمرار مسيرة التقدم العلمي للتكنولوجيا الحيوية، فهو يعرض اقتراحه في مجتمع غربي صار في الغالب متديناً وربما صار أيضا أقل تسامحاً في شأن القضايا الخلافية في المسيحية، وعلى رأسها قضية الخليقة والتطور. فما بالنا بمجتمعات شرقية، هي في الأصل متدينة ويزداد تدينها مقترناً بتعصب في الغالب وعصبية في كثير من الأحيان، خاصة وقد بدأت تباشير زحف الثورة البيولوجية تصل إلينا، بعضها في السر وبعضها تصحبه زفة إعلامية. يتعين علينا والأمر كذلك الاستعداد. ولن يفيدنا إلقاء اللوم على حضارة الغرب “الملحدة” فهي ليست ملحدة، أو اتهامها بشن حرب ضد ثقافتنا علماً بأن بعض تياراتها ليس بريئا تماماً من هذا الاتهام. إن الحرب إن قامت، ستكون ضد كل الثقافات ومنظومات القيم والسائدة في الغرب والشرق على حد سواء.

يجب أن ندرك أنه بينما كان القرن العشرون قرن علوم الفيزياء والكيمياء بامتياز فإن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن علم الأحياء. ولا يحتاج الأمر إلى حسابات معقدة ليتأكد لنا أن علم الأحياء بفروعه المختلفة أصبح أضخم كثيرا من علوم الفيزياء بحساب الميزانيات والاستثمارات المخصصة في الوقت الراهن للثورتين وعدد العاملين في قطاعاتهما الإنتاجية وبحساب قيمة منتجات الاختراعات والاكتشافات في كل منهما. ولذلك يسود الاعتقاد في دوائر علمية غربية بأن ثورة التكنولوجيا الحيوية ستكون أهم اقتصادياً وتاريخياً من ثورة التكنولوجيا الإلكترونية الرقمية إذا قيست نتائجها الاقتصادية وتداعياتها الأخلاقية وآثارها على رفاهية الإنسان.

ولا يخفى أن المصاعب التي ستواجه ثورة التكنولوجيا الحيوية تفوق تلك التي واجهت ثورات التكنولوجيا الأخرى. وأشد هذه الصعوبات هو أنها تبدأ مكروهة من الجماهير وقد تبقى مكروهة. يخاف الناس أن يتكرر معهم ما حدث لهم منذ أكثر من نصف قرن فور اختراع الحاسب الآلي أحد أهم المنتجات الأولى للثورة التكنولوجية حين استخدمه أحد كبار العلماء لصنع القنبلة الذرية، فمن دون هذا الحاسب ما كان يمكن إنتاجها.

ولا يخفى في الوقت نفسه أنه إذا كان هناك حل جذري متوقع لمشكلة الجوع والفقر في العالم فلن يكون إلا من خلال دعم مسيرة ثورة التكنولوجيا الحيوية، فهي الوحيدة القادرة ليس فقط على تحسين أوضاع الريف ولكن أيضاً على نقل جانب كبير من الثراء والرفاهة من المدن إلى القرى، خاصة وقد دخلت حضارة المدن بالفعل مرحلة تكاد فيها تدمر ذاتها. هذه وغيرها توقعات تستحق مقالاً قادماً.
"الخليج"

التعليقات