31/10/2010 - 11:02

اغتصاب عاصمة../ جميل مطر

اغتصاب عاصمة../ جميل مطر
صادفت الأسبوع الماضي ذكرى اغتصاب مدينة نانكينج عاصمة الصين الوطنية قبل نشوب الثورة الشيوعية. ومن هنا، أي على بعد سبعين عاماً من واقعة الاغتصاب وعشرات الألوف من الأميال، مازلنا، بعضنا وغيرنا، قادرين على التفاعل مع أحداث من نوع اغتصاب نانكينج بقدر كبير من التعاطف وبقدر كبير أيضاً من الغضب. التعاطف مع شعب فقد في ساعات معدودة عشرات الألوف من أبنائه وتعرضت نساؤه وأطفاله لأشنع ما عرفته البشرية في عصورها الحديثة من عمليات اغتصاب حتى استحق احتلال نانكينج صفة الاغتصاب.

أما الغضب فلا يقتصر على الجيش الياباني الذي ارتكب هذه الفظائع الوحشية. بل يمتد إلى الطبقة السياسية التي تحكم اليابان، وأحياناً إلى الشعب الياباني، وكلاهما لا يريد الاعتذار عن جريمة من أبشع الجرائم التي ارتكبت في حق الإنسانية.

ما إن تسأل طالباً صينياً عن أول شيء يتذكره عندما تأتي سيرة اليابان، إلا وأجابك: نانكينج. رغم أن الأغلبية الساحقة من الشعب الصيني لم تعاصر المذبحة التي استقرت في الوعي الوطني لأسباب غير قليلة. أولها وأهمها الرفض الياباني المتكرر للاعتراف بحجم الجريمة وإصراره على أن الصينيين يبالغون في أرقام الجنود اليابانيين وأرقام الضحايا الصينيين. ثاني الأسباب هو الإلحاح المستمر من جانب آلة الدعاية التابعة للحزب الشيوعي لتأكيد محورية هذه المذبحة في الحرب التي دارت بين الشيوعيين الصينيين وجيش الاحتلال الياباني. إذ كانت هذه الحرب إحدى أهم دعائم شرعية الحركة الشيوعية في الصين، ومازالت ركيزة أساسية في شرعية الحكومة الصينية الراهنة.

أما تجدد اهتمامي بالموضوع فيعود إلى ثلاثة اعتبارات، كل منها يستحق حديثاً منفصلاً وإن كنت أوجزها هنا حرصاً على اكتمال الصورة. فمن ناحية بدت في الغرب بشائر صحوة، ولعلها من الصحوات النادرة، حول اغتصاب نانكينج. إذ صدر مؤخراً عدد غير قليل من الكتب حول الموضوع وتناقشه حالياً مقالات أكاديمية وصحافية متعددة، ونشطت هوليوود فأعلنت عن فيلمين سينمائيين يحكيان قصة أحد شهود المذبحة ويدعى جون رابي الألماني الجنسية ويحمل أحد الفيلمين عنوان “رجل نانكينج الطيب”، والثاني بعنوان “شندلر نانكينج” مشبها جون رابي بشندلر الذي أنقذ حياة بعض اليهود في ألمانيا النازية.

الاعتبار الثاني الذي جدد اهتمامي بقضية نانكينج، يتعلق بالتصعيد الهائل لقضية المحرقة النازية لليهود في كل أوجه الحياة في الغرب. كانت المفارقة قائمة دائماً، في نظري على الأقل أن المحرقة ليست أول المحارق ولن تكون آخرها، إلا إذا كانت أهمها باعتبار تفوق ضحاياها من ناحية الدين أو العنصر. فالتاريخ شاهد على مذابح عظمى وقعت منذ بدء الخليقة، وبخاصة خلال مراحل الحروب بين الأديان وحروب الأديان في فترات انتشارها، ومذابح بسبب صراعات أقليات عرقية أو على ملكية الأرض أو بسبب الدين والمذهب، لم يكن أقلها شأنا مذابح رواندا والكونغو والبلقان في العقود الأخيرة، ومذابح شبه جزيرة الهند عند إعلان الاستقلال، ومذابح كمبوديا التي وقعت تحت إشراف جيش أمريكا في عقد السبعينات. ويذكر أهل الغرب قبل غيرهم مذابح ستالين وهتلر في الثلاثينات من القرن الماضي، ومنها محرقة اليهود في أوروبا.

أقول هذا، وأنا أعرف أن الحديث عن المحرقة، إن لم يكن مطابقاً للرواية الصهيونية، يصبح سيفاً مسلطاً على رقبة حرية التعبير في أحسن الأحوال ووصمة عنصرية لا تمحى من جبين الكاتب. ومع ذلك يجب أن نبدأ أية مناقشة حول الإبادة، أينما كانت، انطلاقاً من مبدأ أن الإنسان في نانكينج، كالإنسان في سيبيريا وفي الكونغو ورواندا وفلسطين، كالإنسان اليهودي، إنسان لا يقبل القسمة أو التمييز، فإن كانت محرقة النازي تحتل هذه المكانة السامية بين كافة المحارق وتغبن غيرها حقه وتدفعه إلى الانزواء، فمن حق كل الشعوب التي عانت من ظلم الاحتلال والمحارق أن تتمرد وتطالب بمكانة متساوية، لا يفرق بين واحدة والأخرى إلا عدد الضحايا وليس عنصرهم أو دينهم أو حقهم التاريخي.

لماذا هذا الإصرار على التعامل مع التاريخ باعتباره سجل محارق؟ أليس من الأفضل للإنسانية في حاضرها ومستقبلها أن تعتذر اليابان عن جريمة اغتصاب نانكينج وغيرها من المدن والقرى التي احتلتها في الصين وعن استعبادها لشعب أوكيناوا قبل أن تضم الجزيرة نهائيا إليها ولشعب كوريا عبر سنوات من الاستعمار الأشد بشاعة في التاريخ الحديث؟ وأليس أفضل لنا جميعاً سكان هذه المنطقة التعيسة، وربما العالم بأسره أن “إسرائيل”، احتراماً منها لسمو عقيدتها السماوية ورغبة في تحقيق مصالحة في قلب ما تطلق عليه هي نفسها الحضارة اليهودية المسيحية، تعلن هي وامتداداتها في الخارج رضاها عما حققته من انتقام لضحايا النازية في أوروبا واعتبار الاعتذارات المتكررة وطلب المغفرة كافياً ومرضياً؟

المطلوب الآن من أجل عالم متصالح تحقيق المساواة بين المحارق العظمى بغض النظر عن الدين والعنصر والجنس وتسوية مخلفاتها، ثم إسدال الستار عليها وإصدار التشريعات الدولية التي تمنع تكرارها.

أما الاعتبار الثالث من الاعتبارات التي جددت اهتمامي بقضية نانكينج، فكان عودتي إلى قراءة حكاية الكومودور بيري الذي وصل إلى ميناء إيدو Edo في العام ،1853 ودق الأبواب بعنف مطالباً بفتح اليابان للتجارة الأمريكية. المعروف في التاريخ الياباني الحديث أن يوم 14 يوليو/ تموز 1853 هو اليوم الذي استيقظت فيه اليابان على حضارة الغرب، ولكنه بالنسبة للمؤسسة العسكرية اليابانية “يوم العار”، لأنه اليوم الذي استجابت فيه اليابان لبعض مطالب الكومودور بيري، ورفضت مطالب أخرى خشية أن يحدث لها ما حدث للصين عندما فتحها البريطانيون بالخديعة وفرضوا على شعبها إدمان الأفيون والحروب الأهلية.

المهم في الموضوع، أن هناك من المؤرخين الغربيين واليابانيين من يعتبرون أن كل ما حدث في اليابان وفي شرق آسيا منذ ذلك الحين يعود السبب فيه إلى ما حدث في ذلك اليوم المشؤوم في التاريخ العسكري الياباني. يقول جورج فيفر Fiefer في كتابه “فتح اليابان بالقوة” الصادر منذ أسابيع قليلة: إن اليابان قررت بسبب مطالب بيري بأن تصبح قوة امبراطورية كالامبراطوريات الغربية تقلد ما تنتجه وتمارس ما تمارسه. وهكذا بدأت وللمرة الأولى في تاريخها تمارس الاحتلال الخارجي فاحتلت أوكيناوا وكوريا وضمتهما إليها، وشنت حرباً على امبراطورية غربية فهزمت روسيا في ،1905 وقامت بغزو الصين أسوة بالامبراطوريات الغربية وربما بالغت في تعذيب الشعب الصيني وإذلاله بأكثر مما فعل البريطانيون وغيرهم من الأوروبيين. ثم جاءت اللحظة الحاسمة للانتقام من أمريكا، والغرب عموماً، ولفرض الهيمنة اليابانية على آسيا والمحيط الهادئ.

كانت حكومة الولايات المتحدة قد فرضت في يوليو/ تموز 1941 الحصار الاقتصادي على اليابان ومنعت تصدير النفط والصلب إليها. وهو الحصار الذي اعتبرته اليابان عاراً جديداً وإهانة شديدة من الدول الغربية لا تقل عن الإهانة التي وجهت لها قبل 87 عاماً. ولمحو العار، عار 1853 وعار ،1941 قامت القوات اليابانية يوم 22 يوليو/ تموز 1941 بشن الحرب على جيش فرنسا في الهند الصينية، واحتلت كافة قواعده العسكرية والبحرية، وفي 7 ديسمبر/ كانون الأول 1941 هاجمت الأسطول الأمريكي في بيرل هاربور أكبر قواعده بالباسيفيكي، واحتلت تايلاند والفيليبين وهونج كونج والملايو وجزر الهند الشرقية.

لقد دفع الجميع، معظم جنوب آسيا والكوريون وجيوش الاحتلال الغربي في آسيا والولايات المتحدة ومئات الألوف من الأمريكيين من أصول يابانية، كل هؤلاء دفعوا ثمناً غالياً بسبب إصرار اليابان على محو العار الذي لحق بالمؤسسة العسكرية اليابانية قبل مائة عام من الحرب العالمية الثانية على يد قائد في البحرية الأمريكية اقتحم خليج أوراغا Uraga باليابان مطالباً اليابان بفتح موانيها للتجارة مع أمريكا. هكذا يفسر المؤرخون الجدد، ولا أقول يبررون، وحشية جيوش اليابان عند احتلالها الصين وغيرها من دول جنوب آسيا، وهذا التفسير جدد عندي الرغبة في الاهتمام بمحرقة نانيكنج التي ارتكبها اليابانيون في عام ،1937 وبالمحارق الأخرى التي تلقي بظلها الثقيل على مسيرة الحضارة الإنسانية.
"الخليج"

التعليقات