31/10/2010 - 11:02

اكتشاف أميركا من خلال حملة الانتخابات الرئاسية../ جميل مطر*

اكتشاف أميركا من خلال حملة الانتخابات الرئاسية../ جميل مطر*
دخلت الحملة الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة مرحلتها الحاسمة، وأعترف أنها نجحت في شد انتباهي شخصياً، وانتباه الكثيرين من المهتمين بالشؤون الدولية والأميركية. ولم تكن أول حملة أتابعها، فالحملات الانتخابية الأميركية فريدة من نوعها، فريدة في الصخب الذي يصاحبها وفي الأموال التي تنفق عليها، وفي عائدها الايجابي على «المواطنة» كمفهوم وممارسة وعلى الديموقراطية بشكل عام، وحاولت دول أخرى تقليد جانب أو آخر من جوانب هذه الحملة بما فيها محاولات بريطانيا المتكررة لتجديد الأساليب المتبعة في حملاتها الانتخابية ومحاولة فرنسا الأخيرة التي جاءت بساركوزي رئيساً.

وهي فريدة لأنها تطرح فرصة لا تعوض لمن يريد أن يعيد اكتشاف أميركا كل أربع سنوات. فالحملة بهذا المعنى كاشفة لأنها تكشف المستور عنه، وما أكثره حتى في دولة معروفة بأنها تتمتع بدرجة من الشفافية أكثر من أي دولة أخرى، وتكشف عن الجديد في هياكل المجتمع الأميركي، كالتغيرات في النظام الطبقي وتوزيع الموارد والتوازنات الحقيقية للقوى والمصالح المتعددة. ولا تختلف الحملة الراهنة في هذا الشأن، أي طرح فرص اكتشاف أميركا، عن الحملات الانتخابية السابقة وآخرها حملة التجديد لبوش رئيساً للمرة الثانية في عام 2004. الحملة الراهنة كاشفة في أكثر من مجال وموضوع، والأمثلة كثيرة أنتقي منها ستة:

1- كشفت هذه الحملة عن حصول تغيرات مهمة في المجتمع الأميركي واقتصاداته وسيأتي حديث عنها بعد قليل، وأكدت في الوقت نفسه صمود أحد أهم الثوابت في النظام السياسي الأميركي، وهو «نخبة الوضع القائم». ففي كل الأزمنة ومع اختلاف السياسات الحزبية وتعاقب الحكومات وتبدل الأشخاص بقيت شريحة في المجتمع شديدة الحرص على المحافظة على ثوابت الوضع القائم. وتمتد هذه الشريحة أفقياً ورأسياً في المجتمع وفي شرائح الطبقة الحاكمة كما في القواعد الشعبية. ويعود إليها الفضل في أن التغييـر، مهما كان جذرياً وعميقاً، لا يمس أسس المجتمع والدستور. وأظن أن هذه النخبة هي التي ستلعب دوراً أساسياً في حسم اتجاهات التغيير وحدوده في هذه الانتخابات.

2- أكدت حقيقة أن المسألة العنصرية مازالت قائمة وربما عادت تستفحل. إذ أنه على الرغم من نواحي التقدم والمساواة التي استفادت منها الأقلية السوداء، ما زال السود يشكلون الغالبية العظمى من فقراء أميركا وأكثرية ساكني السجون ومرتكبي الجرائم. وما زال حظهم في التعليم أقل من حظ البيض. كان واضحاً أن باراك أوباما الذي بذل جهداً كبيراً ليبدو أنه غير متأثر بالمسألة العنصرية، وأنه بقبوله الترشيح لمنصب الرئاسة تجاوزها، وبدعوته إلى التغيير جذب إلى صفه قطاعاً واسعاً من جيل الشباب البيض والسود على حد سواء. إلا أن هذا لم يمنع هيلاري كلينتون وزوجها من الزج بالمسألة العنصرية، ما يعني أنها ما زالت حية، طالما ما فتئ يستخدمها أشخاص في الطبقة السياسية. ويبدو أن المحللين والمعلقين وجدوا دليلاً آخر على أن العنصرية ما زالت حية عندما حدثت زيادة مفاجئة في شعبية أوباما بين السود في أعقاب إثارة أنصار كلينتون لهذه المسألة.

من ناحية أخرى كشفت الحملة وإن متأخراً عن أن الفجوة التي تفصل السود عن السمر، أي الفجوة التي تفصل الأميركيين من أصل إفريقي عن الأميركيين من أصل اسباني، تتواصل اتساعاً. وبدا هذا الوضع واضحاً للأكاديميين الذين قاموا بتحليل الخطاب الانتخابي للمرشحين كافة وقيادات الرأي العام وتعليقات وسائل الاعلام الناطقة أو المكتوبة بالاسبانية، وبخاصة في المناطق التي يتعاظم فيها الوجود اللاتيني.

3- تأكد، مرة أخرى، أن الدين في أميركا قوة سياسية تزداد رسوخاً، بدليل زيادة استخدامه في هذه الحملة سلاحاً وأداة. ففي دعاية المرشح الجمهوري مايك هاكابي، وهو أيضاً رجل دين، جاءت الإشارة إلى عودة المسيح عليه السلام إلى القدس وأميركا في وقت واحد، فكلاهما «أرض الرب»، وإشارة أو أكثر إلى آدم وحواء اللذين التقيا لأول مرة في الجنة، وكانت في الزمن القديم في المكان الذي توجد فيه الآن ولاية ميسوري!! ولم يتردد هاكابي في المطالبة بتعديل الدستور ليكون أكثر اتساقاً مع تعاليم الدين، واستخدم أسلوب التكفير عندما نفى أن يكون المرشح الجمهوري مات رومني مسيحياً باعتباره من طائفة المورمون. وخرجت هيلاري كلينتون عن مبادئها وتاريخها السياسي فأعلنت هي الأخرى أنها تجاوزت محنة العلاقة الخاصة التي نشأت بين المتدربة مونيكا لوينسكي وبيل كلينتون وأجواء التحقيقات التي أعقبت الكشف عن العلاقة، تجاوزتها بفضل الجهود التي بذلها «المحاربون بالصلوات»، وتقصد القيادات في التيار الأصولي في الطائفة الإنجيلية التي جاءت خصيصاً إلى البيت الأبيض لتصلي معها. ولم يقصر أوباما في اللعب بورقة الدين حين تقمص شخصية القس مارتن لوثر كينغ وألقى خطباً في كنائس ولايات الجنوب تضمنت صياغات ورسائل دينية.

4- كشفت الحملة عن حقيقة الوضع الاقتصادي الأميركي في صورة بدت أسوأ مما كنا نتصور. فقد اتضح مما صرح به بيل كلينتون وأكدته معلومات صدرت عن مراكز أبحاث ودوريات اقتصادية عديدة أن سياسات خفض الضرائب لم يستفد منها إلا الأغنياء فقط، وأن النمو الاقتصادي الكبير المتمثل في زيادة قدرها 35 في المئة في الناتج القومي الإجمالي لا يمكن ولا يجوز ترجمته تحسناً في أحوال الغالبية العظمى من الشعب الأميركي، إذ لم يتجاوز عدد الوظائف التي خلقها هذا النمو الاقتصادي الكبير 3 ملايين و700 ألف وظيفة، بينما استطاعت إدارة كلينتون الديموقراطية إضافة 13 مليون و700 الف وظيفة، برغم أن النمو وقتذاك لم يصل إلى النسبة التي وصل إليها في عهد بوش.

ولم يكن جديداً، وإن كان مثيراً، الاعتراف بأن الحديث الدائم عن زيادة متوسط الدخل في الولايات المتحدة أو غيرها يخفي واقعاً مختلفاً وهو أن هناك زيادة هائلة في دخول أغنى الأغنياء يقابلها انخفاض كبير في الدخول الحقيقية لمتوسطي الدخل. وتعددت التعليقات خلال الحملة تردد المثال القائل بأن وجود بيل غيتس أو بوفيت أو أحد مالكي شركة «وال مارت» في قاعة فيها عشرة من أبناء الطبقة الوسطى الأميركية يرفع على الفور متوسط الدخل السنوي للفرد في هذه القاعة إلى 17 مليون و500 ألف دولار في العام، هذا المثال نفسه يتردد بأسماء أخرى وأرقام أخرى في عديد من الدول التي أخذت في السنوات الأخيرة بنمط متطرف من النمو الرأسمالي ومنها بريطانيا. عرفنا كذلك من خلال متابعة هذه الحملة أن متوسط الدخل في أميركا لمن هم تحت 65 سنة انخفض ألفي دولار، ما يعني انخفاض دخول غالبية الأميركيين. خلاصة القول انه في عهد الرئيس بوش لم تزد الوظائف وانخفضت الدخول ولم تكبر السوق كما يطرق الكساد أبواب أميركا. هذه هي التركة التي يرثها الرئيس القادم للولايات المتحدة.

5- بقيت الحرب ضد العراق وستبقى القضية الخارجية الوحيدة محل الخلاف والاختلاف، فأغلبية الناخبين لا تريد الاستمرار فيها. ومع ذلك كشفت الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية عن صورة كانت غائمة. بدت الطبقة الحاكمة غير منقسمة بشدة على الحرب في العراق انقسام الرأي العام، بدت كما لو كان الاختلاف حول مدة الاحتلال، هل يستمر سنوات أم يستمر عقوداً. وفي كل الأحوال يوجد شبه إجماع داخل هذه الطبقة على أن العراق لن يكون مثل فيتنام، أي حرباً قابلة للانسحاب المهين منها. يظهر جون ماكين في الصورة على طرف قصي يدعو للاستمرار مئة عام وفي الوسط هيلاري تدعو لانسحاب «بمسؤولية» يبدأ بعد 60 يوماً ويستمر سنوات، وعلى الطرف الآخر يقف اوباما داعياً إلى انسحاب فوري وهو ما جعله في نظر قادة المجمع الجديد «العسكري - السياسي - الصناعي - النفطي» داعية لانسحاب غير مسؤول وغير وطني.

6- وفي غير العراق، بقي الوفاء لمبادئ السياسات الخارجية الأميركية مطلقاً، مع تغيرات طفيفة في الأسلوب بين «البوشية» التي تتعالى في التعامل مع الحلفاء وتتطرف في التعامل مع الأعداء وهو الأسلوب الذي تميل إليه السيدة هيلاري وكذلك جون ماكين، وبين «الاوباماوية»، أي أنصار التغيير وتحسين صورة أميركا عن طريق التعاون والتنسيق مع الحلفاء والتفاوض مع الأعداء. ولكن دائماً مع التلويح باستخدام أقصى درجات العنف. أما عن إسرائيل، والشرق الأوسط عموماً فلا جديد ولا تغيير تفصح عنه هذه الحملة كسابقاتها والقادمات بعدها، وهو الأمر الذي يتمشى مع منطق الأمور والأحوال على أرض الواقع، هنا في المنطقة.

يبقى أن ما فات من شهور لا يكفي للقطع بأن مرحلة المزاج المحافظ في الولايات المتحدة وصلت إلى نهايتها وأن مرحلة جديدة على وشك أن تبزغ. فقد رأينا قبولاً بممارسات وتطورات ليست من شيم النظام الجمهوري ومبادئه مثل القبول بالتواصل العائلي في الحكم، ورأينا في الوقت نفسه أعداداً غفيرة من الشباب وكبار السن تطالب بالتغيير وإعادة بناء أميركا على أسس جديدة. وعلى كل حال ما زالت طريق الحملة طويلة.
"الحياة"

التعليقات