31/10/2010 - 11:02

الآن وقد تم تهويد القدس!../ رنا بشارة

الآن وقد تم تهويد القدس!../ رنا بشارة
عشية انعقادها يومي 27 و28 آذار بحضور عربي، كعادته، مبتور، وضع وزراء الخارجية العرب أمام أعمال القمة العربية خطة لإنقاذ القدس عناصرها المال والسياسة والإعلام، وأعلن عن رفع مبلغ مخصص للقدس من 150 مليون إلى نصف مليار دولار، وعن معركة سياسية وإعلامية دولية سيخوضها العرب في وجه الانتهاكات الإسرائيلية في القدس. هذا ما أقرته قمة 2010 في مدينة سرت الليبية.

إنصافا لتاريخ القمم العربية، فإن "تحرير مدينة القدس العربية.. وعدم القبول بأي وضع من شأنه المساس بسيادة العرب الكاملة على المدينة المقدسة" لم يكن بندا غائبا عن معظم قرارات القمم السابقة وبياناتها الختامية منذ بدايات انعقادها. فهل هذا التكرار دليل مبدئية، أم هو دليل على عدم فعل شيء؟! فكما هو معروف حتى اليوم لم يحرر العرب المدينة، وإنما لامس التهويد، ألا وهو المساس بلغة بيانات القمة، عمق الهوية العربية للقدس.

منذ اليوم الأول لاحتلال القدس، عملت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، اليمينية والـ"وسطية" والـ"يسارية" ورؤساء بلدية من كافة الأطياف لـ"القدس الموحدة"، علمانيون ومتدينيون وعماليون وليكوديون، جميعهم قام بالتخطيط والتنفيذ في المدينة دون توقف.

بعد نكبة 48 مباشرة، أعد الإسرائيليون الخطة الهيكلية الأولى للقدس. وفي عام 1959 كانوا قد انتهوا من إعداد الخطة الهيكلية الثانية (رقم 62)، والتي صودق عليها واعتبرت أساسا للتخطيط في القدس مستقبلا.

وبعد احتلال الشطر "الشرقي" من القدس عام 67، أعد الإسرائيليون خطة "رئيسية" لم يكتب لها المصادقة بسبب جدل محلي ودولي أثير حولها على أثر قرار الضم الإسرائيلي الأحادي، إلا أن ذلك لم يثن الإسرائيليين عن تضييق الأرض تحت أقدام المقدسيين، سكان المدينة الأصليين.

في عام 1978، عام كامب ديفيد، أي بعد مرور عام على زيارة السادات "التاريخية" للقدس، كان الإسرائيليون قد أقاموا جهازا ثابتا مهمته التخطيط بشكل دائم ومستمر للقدس، وليس من أجل التخطيط لمرة واحدة فقط، وتم إعداد خطة هيكلية أخرى إلا أنها لم تعتمد رسميا.

استمرت "عملية" قضم الأرض في القدس بموازاة "عملية السلام"، لم تتوقف أي منهما، ولكن إحداهما سبقت الأخرى، وعمليا جرى التهويد بتسارع أكبر تحت غطاء المفاوضات.

وبالرغم من أن "عملية" السلام كانت تتعثر من حين لآخر، إلا أن "عملية" تهويد القدس، على عكسها، كانت "تصمد" أمام كافة بيانات الشجب والاستنكار وموجات الاعتراض والإدانة والاحتجاج، مستقوية بمواقف وقمم عربية شكلية هزيلة وتحركات دبلوماسية "احتوائية" وتصريحات دولية متخاذلة، وعجز رسمي فلسطيني طوعي متراكم.

فكان تهجير أهل المدينة الأصليين ومصادرة الأرض وهدم المنازل وتوسيع المستوطنات وشق طرق التفافية استيطانية، ومؤخرا حتى سكك حديدية تخترق قلب القدس وضواحيها لخدمة المستوطنين وحفريات تحت باحات الأقصى.

سرا وعلنا جرى تهويد المدينة طيلة تلك السنوات بدعم ممن أيد جهرا أو خفية، ورغما عن أنف من اعترض وشجب واستنكر صدقا أو خجلا، وبغطاء ممن استنكف وصمت تواطؤا أو خوفا أو حرجا.

بموازاة "ثورة" التهويد المتصاعدة، استمر عمل الإسرائيليين على الورق كما على الأرض، حيث أنهى طاقم من أبرز المستشارين والمختصين الإسرائيليين في مجال تخطيط المدن والهندسة والمواصلات والآثار والفندقة والتراث والبيئة والميثولوجيا وحماية الطبيعة والجيولوجيا والبنية التحتية وغيرها إعداد خطة هيكلية محدثة للقدس من أجل وضع لمسات التهويد الأخيرة.

الخطة جاءت تحت اسم"الخطة الهيكلية المحلية- أورشليم القدس 2000". استغرق إعدادها ثلاث سنوات وترأس أعمال لجنتها التوجيهية أوري لوبوليانسكي، القائم بأعمال رئيس بلدية القدس آنذاك، إيهود أولمرت الذي تفاوض معه الفلسطينيون فيما بعد وأصبح "حمائميا" في نظر بعض العرب اليوم مقابل نتنياهو "الصقوري". المخطط الذي أعلن عنه رسميا في مؤتمر صحفي أمام مرأى ومسمع وسائل الإعلام قي 14/09/2004 وتمت المصادقة عليه عام 2005، عبارة عن "تخطيط هيكلي شامل للقدس "الشرقية والغربية" حتى عام 2020 ويغطي مساحة 126,000 دونم، منها 70,000 دونم من الأراضي التي احتلت عام 67 وضمت لـ"بلدية" القدس. أما أهدافه- أي أهداف المخطط- كما جاءت فهي "فرض أغلبية يهودية مطلقة باستعمال شتى الأساليب الممكنة وتحويل القدس إلى عاصمة إسرائيل ومركز الحكم وتحقيق حلم الآباء".

من بين الزحام الاستيطاني في القدس وركام المنازل الفلسطينية المهدمة في سلوان وشعفاط وبيت حنينا وصرخات المقدسيين على أرصفة الشيخ جراح، كانت "عاصمة الدولة الفلسطينية" قد قامت من حيث ندري أو لا ندري، في مكان آخر... في محيط المقاطعة، مقر القيادة الفلسطينية في رام الله، حيث استقطبت المؤسسات الوطنية ومراكز الخدمات الأساسية والأطر التمثيلية الفلسطينية المختلفة من اتحادات ونقابات وروابط أندية التي كانت في الماضي تتخذ من القدس مقرا لها. ولجأ المقدسيون بحثا عن لقمة العيش إلى "العاصمة" الجديدة بعد أن عزلتهم الحواجز العسكرية الإسرائيلية و"الجدار" عن أماكن عملهم في القدس، وحالت دون وصولهم إلى الخدمات الأساسية فيها. جذبت مقاهي رام الله ومتاجرها ومطاعمها وشوارعها المنتعشة ودور السينما فيها الشباب، والمسارح والقاعات والقصور الثقافية الفنانين والأدباء والشعراء.

ومن ثم جاء الإعلان عن الاستعداد لبناء مدينة "روابي" على بعد 25 كلم من رام الله، فوق أراضٍ وصفت بأنها "مصنفة في معظمها ضمن المنطقة أ"، أي أنها تخضع إدارياً وأمنياً للسلطة الفلسطينية وفق "أوسلو"، وإن احتفظ الإسرائيليون بحق اقتحامها كلما "استدعت الحاجة".

في ظل سباق التهويد غير المسبوق مع المفاوضات الإسرائيلية/ الفلسطينية، لم يتوقف المقدسيون عن إطلاق النداءات لإنقاذ المدينة، ولم تتوقف أقلامهم عن التحذير من خطورة ما كان يجري خلال السنوات الأخيرة على أمل في حياة لمن ينادوا!!!

ولكن "الجدار" التف حول القدس والاستيطان وهدم المنازل كانا أسرع من الإنقاذ. وكان القطاع الاقتصادي والسياحي في المدينة قد تلقى ضربته القاضية، ليقارب عدد الفنادق التي اضطر أصحابها لإغلاقها أكثر من سبعين فندقا، شكلت عصب الحياة السياحية في المدينة بالتزامن مع نهوض سلسلة من الفنادق الإسرائيلية في محيط المدينة وقلبها، راحت تقدم أفضل العروض لاستقطاب سائحي وحجاج العالم ونقل الرواية الصهيونية لهم عن القدس. وكانت مئات المتاجر داخل أسوار البلدة القديمة التي ورثها مالكوها عن جدودهم قد أغلقت وهجرها أصحابها هربا من الضرائب. وكان الأمر الإداري الإسرائيلي بإغلاق بيت الشرق، "الاورينت هاوس"، العنوان الفلسطيني الخدماتي والقانوني للمقدسيين ومعه عشرات المؤسسات والجمعيات الأخرى يتجدد تلقائيا عاما بعد عام.

فوق هذا وذاك، انقسم الفلسطينيون ووصلت المصالحة إلى طريق مسدود... ووصل العجز الرسمي العربي والفلسطيني الطوعي والتواطؤ الدولي درجات غير مسبوقة، وبات التعويل العربي على إدارات أمريكية متتالية نهجا تجاه ما يجري في القدس أيضا!

منذ حوالي أسبوعين، اندلعت هبة شعبية أطلقتها البقية الباقية من المقدسيين، دفاعا عن مدينتهم وهي في مراحل التهويد الأخيرة. تجاوزت الآمال الواقع عند البعض، وساد اعتقاد بأن "هيكل الخراب" هو القشة التي قسمت ظهر البعير، وبأن شرارة الانتفاضة الثالثة قد انطلقت وستمتد شعلتها إلى سائر أنحاء المدن والقرى والأحياء الفلسطينية في الضفة الغربية ومناطق 48، وربما عواصم عربية وأجنبية أيضا، كما جرى عام 2000 عندما قام شارون باقتحامه الاستفزازي لساحة الحرم القدسي الشريف.

لم ينبع هذا الاعتقاد إلا من باب التمني...تمني التحرر من حالة العجز والانسداد التي أوقعت بها الأمة.

وجاء موعد قمة عربية أخرى بخلافات جديدة قديمة، وبخطابات وقرارات لن تخرج عن إطار الاستهلاك الإعلامي، بينما الإسرائيليون مستمرون بالعمل على الأرض والورق قبل وأثناء انعقادها، وسيستمرون بعدها أيضا.

وواصل بعض العرب نهج تهويل أزمة أمريكية إسرائيلية للتعويل عليها وعلى انقلاب دراماتيكي في المواقف الأوروبية، عهدناها على مدار سنوات، لا تأتي بشيء سوى الخيبات. وهنا نستحضر مسودة البيان الذي اقترحته رئاسة الاتحاد الأوروبي، السويد، حول الانتهاكات الإسرائيلية في القدس في كانون أول 2009، حيث فرض إدخال تعديلات جوهرية على مضمونه ليكون مقبولا بالإجماع على أعضاء "الاتحاد" الـ27، وكي لا يتسبب بالحرج مع الإسرائيليين، وكيف استبدلت عبارة "القدس الشرقية المحتلة عام 67 عاصمة الدولة الفلسطينية" بصيغة مبهمة تنص على أن "القدس عاصمة لدولتين"، وكيف تضمن البيان في صيغته النهائية التأكيد على موقف مجلس "الاتحاد" في يونيو 2009 الذي ينص على ضرورة تطوير العلاقات الثنائية مع إسرائيل ودعم اندماجها في المنطقة وتثمين الموقف الإسرائيلي المتمثل بتجميد الاستيطان وتخفيف القيود عن الفلسطينيين في حينها، وبالطبع الدعوة إلى الإفراج عن "كبير المختطفين"، جلعاد شاليط.

إن السيادة العربية على القدس هي أمر أخطر من أن يحله الدعم المالي العربي في كافة الاتجاهات. هذا الدعم ضروري، ولكن الموقف يتطلب مع ذلك اتخاذ وتفعيل موقف سياسي عربي موحد يرتقي إلى حجم وخطورة ما يجري في القدس. السيادة العربية على القدس موقف وممارسة وفعل على الأرض في آن واحد، ولن تتحقق طالما استمر العرب رهينة إنقاذ "عملية" السلام من الفشل واسترضاء الغرب والتقوقع داخل خيار دون غيره.

التعليقات