31/10/2010 - 11:02

الأزمة المالية الراهنة.. لا رأسمالية ولا اشتراكية../ د.ظافر مقدادي*

الأزمة المالية الراهنة.. لا رأسمالية ولا اشتراكية../ د.ظافر مقدادي*
يحلو لوسائل الإعلام استخدام مصطلحات مثل (الهلع) و(فقدان الثقة) لتفسير الأزمة المالية العالمية، وذلك للتغطية على الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذه الأزمة. وتصر وسائل الإعلام على استخدام تعبير (أزمة مالية) بدل (أزمة اقتصادية) للتخفيف من حدة الهلع أو فقدان الثقة، فما بالك لو تمّ استخدام تعبير مثل (أزمة نظام اقتصادي اجتماعي)؟ فهل نحن أمام أزمة مالية أم أزمة اقتصادية اجتماعية؟ وهل أسبابها الهلع وفقدان الثقة؟

هذه ليست الأزمة الاقتصادية الأولى التي يمر بها النظام الاقتصادي الرأسمالي، فتاريخ هذا النظام هو تاريخ أزمات. ولنا أن نذكّر هنا بثلاث أزمات كبيرة على الأقل: أزمة الربع الأخير من القرن التاسع عشر (الكساد الطويل)، وأزمة النصف الأول من القرن العشرين (الكساد العظيم)، والأزمة الحالية. ولأن الوقت لا يسمح لنا باستعراض هذه الأزمات في هذه العجالة نكتفي بالقول أن جوهر هذه الأزمات الثلاثة واحد، ويتمثل ببساطة في (عجز المجتمع عن شراء ما أنتجه). فكيف يحصل ذلك؟

منذ البداية، وفي أعمال آباء النظرية الرأسمالية في الاقتصاد، مثل آدم سميث وريكاردو وثوماس مالثوس، يتم التعامل مع العمل والإنتاج كمفاهيم اجتماعية، وعلينا أن لا ننسى أن هؤلاء المفكرين كانوا علماء اجتماع أصلاً. لقد ركزّوا على الطبيعة الاجتماعية للعمل، واتفقوا أن قيمة منتوج معيّن تساوي قيمة العمل الذي أنتجه (أي قانون القيمة). فقيمة طن من القمح مثلاً تساوي مجموع قيمة العمل الذي تم استنفاذه للحصول على هذه الطن من القمح، سواء كان العمل في زراعته أو سقايته أو حصده أو نقله أو حتى قيمة العمل الذي أنتج الآلات التي تستخدم في كل العمليات السابقة وغيرها.. الخ.

هنا تدخل كارل ماركس كمفكر اقتصادي اجتماعي، حيث وافق على طروحات سميث وريكاردو وغيرهما حول قانون القيمة، ولكنه غاص أعمق منهم في دراسة النظام الاقتصادي الاجتماعي. حيث طرح السؤال التالي: إذا كانت قيمة العمل الاجتماعي تحدد قيمة المنتوج، وإذا كان صاحب رأس المال يدفع للمجتمع الأجر الحقيقي لقيمة عمله فمن أين يجني صاحب رأس المال ربحاً؟ بمعنى: إذا كان صاحب رأس المال يبيع البضاعة بسعر تكلفتها فكيف يحقق ربحاً؟ هذا السؤال دفع ماركس لابتكار ثلاث قيم للعمل، أهمها: وقت العمل الضروري اجتماعياً، وهو متوسط الوقت الاجتماعي الضروري الذي يستنفذه المجتمع في الإنتاج لكي يستطيع العيش بمستوى معيشي متوسط حسب معايير العصر (أي بكرامة)، ولكن العمال والموظفين يُدفع لهم أجرهم بعد انتهاء العمل (في نهاية اليوم مثلاً) بعد أن يكون وقت العمل الضروري اجتماعياً قد انتهى خلال اليوم، وبالتالي فإن الوقت الفائض من عملهم تذهب قيمته إلى صاحب رأس المال (أو القيمة الفائضة حسب ماركس). من هذا التحليل في نظرية القيمة استطاع ماركس استخلاص أن صاحب الإنتاج (أو الرأسمالي الذي يملك وسائل الإنتاج) لا يستطيع تحقيق أي ربح إلا إذا دفع للعامل أو الموظف أجراً أقل من القيمة الحقيقية لعمله. فلولا القيمة الفائضة لما حقق الرأسمالي ربحاً. وبما أن قيمة العمل هي ركيزة الإنتاج فإنها تصبح سلعة في السوق بحد ذاتها وخاضعة للعرض والطلب، الأمر يزيد من القيمة الفائضة، وبالتالي من أرباح الرأسماليين وتراكم رؤوس الأموال لديهم.

مِن أين يأتي الطلب في السوق؟ من قدرة المجتمع على الشراء. ومِن أين تأتي القدرة على الشراء؟ من الدخل. ومن أين يأتي الدخل؟ من الأجور. ومن أين تأتي الأجور؟ من ما يدفعه صاحب رأس المال للعامل أو الموظف كثمن لوقت عمله. ولكن هذا الثمن أقل من الثمن الذي بذله العامل في إنتاج البضائع التي تأتي إلى السوق. فكيف سيستطيع شراء ما يأتي إلى السوق؟ هذا الأمر سيقلل من الطلب، فهل سيقلل صاحب رأس المال من سعر البضاعة في السوق؟ لن يخفض الرأسمالي السعر إلى درجة عدم تحقيق ربح، لأنه إن خفضها إلى هذه الدرجة يكون بطريقة غير مباشرة قد دفع للمجتمع أجر وقت عمله الحقيقي (بدون القيمة الفائضة).

إذاً، يُنتج أصحاب رؤؤس الأموال منتوجات قيمتها الفعلية تساوي قيمة العمل الاجتماعي الذي تم توظيفه لإنتاجها، ولكن المنتجين يدفعون لأفراد المجتمع أجوراً أقل من قيمة العمل التي بذلوها في الإنتاج، لكي يحققوا أرباحاً، فكيف يستطيع المجتمع شراء ما أنتجه؟ من هنا تأتي الأزمة في النظام الرأسمالي وتظهر بين فترة وأخرى. ولكن مرونة النظام الرأسمالي مكّنته من تجاوز هذه الأزمات، فقد اجترح الكثير من الحلول مثل: التخفيف من مصروفات أفراد المجتمع على الصحة والتعليم وغيرها، وبيع البضائع والخدمات للمجتمع بالتقسيط أو بالدين، أو بالحروب الخارجية لفتح أسواق استهلاك جديدة، أو العولمة وما تعنيه من دمج كل الأسواق العالمية في سوق واحدة، وتحويل ثقافة الإنسان ليصبح مجرد كائن مُستهلِك (ثقافة الاستهلاك).

وهكذا عاش النظام الرأسمالي، وكأن لسان حاله يقول: أنا أعرف أيها المجتمع الإنساني أنك لا تستطيع شراء ما أنتجته، ولهذا سأعطيك فرصة التقسيط ولكن بفائدة، وإن لم تستطع التقسيط أكثر مما تُقسّط سأعطيك قروضاً بفائدة وبطاقات ائتمان أيضاً، لكي تبقى قادراً على الشراء، وإلا أصبح العرض في السوق أكثر من الطلب (أي: غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع)، الأمر الذي يؤدي إلى الكساد الاقتصادي، وهو ليس في مصلحة أصحاب رؤوس الأموال.

ما الذي حصل في الأزمة المالية الراهنة؟ لم يستطع المجتمع دفع أقساطه وأقساط ديونه والفوائد المترتبة عليها، فقد وصل المجتمع إلى حد الإشباع في الاستدانة. وبما أن النظام المصرفي كان قد حلّ مكان نظام الإنتاج الكلاسيكي الرأسمالي في تمويل الإنتاج فإن المصارف والمؤسسات المالية أصبحت في حالة صرف من دون قبض، الأمر الذي أدى إلى الأزمة.

لا شك أن النظام الرأسمالي بمرونته وتدخّل مؤسسات الدولة بما تملكه من ميزانيات المجتمع الهائلة (أي الضرائب وادخارات التقاعد والضمان الاجتماعي) سيتجاوز الأزمة، ولكنها ستعاود الظهور. وفي كل مرة هناك من يصطاد في الماء العكر مستغلاً الظروف السيئة (هنا تطفو على السطح نظرية المؤامرة)، فتقوم الدولة بعملية تأميم (أو عَمعَمة) البنوك والمؤسسات المصرفية حتى تقف على أقدامها، ثم تقوم بعملية (خصخصة) هذه المؤسسات، أي بيعها إلى القطاع الرأسمالي الخاص الذي أزّمها.

وما بين العمعمة والخصخصة تتأرجح الرأسمالية التي لا علاقة لها الآن برأسمالية آدم سميث أو ريكاردو أو حتى باشتراكية كارل ماركس، فهو بريء من التأميم الذي سار عليه الاتحاد السوفييتي، فكل نظريته في الأساس يمكن تلخيصها في أنّ المجتمع لكي يستطيع شراء ما أنتجه عليه أن يمتلك وسائل الإنتاج. المجتمع يمتلكها وليس الدولة، يمتلكها المجتمع بالتشارك فيها، وبالتالي التشارك في عائداتها لكي لا تتراكم القيمة الفائضة في جيوب أصحاب رؤوس الأموال بل في جيوب المجتمع، وهذا لا يعني تأميمها من قبل الدولة التي تدفع الرواتب للشعب كما كان عليه الأمر في الدول الاشتراكية السابقة.

التعليقات