31/10/2010 - 11:02

البشير مطلوبا../ معقل زهور عدي

البشير مطلوبا../ معقل زهور عدي
في كتابه الثامن عشر من بريمير يلمح ماركس إلى أن هيغل عندما ذكر أن الأحداث والأشخاص قد نصادفهم في التاريخ مرتين لأن التاريخ يعيد نفسه، نسي أن يقول بأنهم يجيئون في المرة الأولى كدراما أما في الثانية فكمهزلة.
هل اتهام البشير واستدعاؤه للمثول أمام المحكمة الدولية يمثل عودة الروح للنزعة الأمريكية الرامية لاستبدال بعض الأنظمة العربية بأخرى أكثر خضوعا وقدرة على الانسجام مع العولمة المعممة أمريكيا؟
أم هو شكل من استعراض القوة غير المباشر وتعويض عن الفشل والتراجع في أماكن أخرى؟

في ذروة الاندفاعة الأمريكية المدعومة عسكريا في العقد الأخير من القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، شهدنا مثالين صارخين من بين أمثلة أخرى أقل دويا لاستهداف الرؤساء، استهداف صدام، واستهداف ميلوسوفيتش. في حالة صدام زجت الولايات المتحدة مباشرة بكل قوتها العسكرية والسياسية من أجل إسقاط النظام وتصفية صدام جسديا لاحقا. وفي حالة ميلوسوفيتش تدخلت الولايات المتحدة عسكريا ضمن غطاء سياسي واسع أمنه اتساع دائرة التطهير العرقي، والمذابح التي لم تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

بعد احتلال بغداد تطلعت السياسة الأمريكية نحو إسقاط أنظمة أخرى والإطاحة بحكام وحكومات لكن تلك الشهوة المنفلتة من عقالها سرعان ما تم كبتها بفعل مفاجأة المقاومة العراقية وتعثر السيطرة العسكرية التامة على العراق حتى الآن.

في المرحلة الحالية هناك نوع من المخاض لاستراتيجيات أمريكية معدلة، تظهر في الغالب الأعم أقل عسكرية ومباشرة، لكنها تعمل باتجاه الأهداف ذاتها التي وظفت من أجلها الحملة العسكرية على العراق أعني فرض الهيمنة الأمريكية.

تراجعت الاستراتيجية الأمريكية في العراق ولبنان وفلسطين وإيران، لكنها لم تهزم بعد، في العراق تجري محاولة استبدال الاحتلال العسكري المباشر بمعاهدات تضمن الهيمنة الأمريكية عبر قواعد عسكرية والتزامات سياسية وأمنية واقتصادية، لكن ذلك يتطلب حدا أدنى من الاستقرار السياسي لا يزال بعيد المنال.

في لبنان أصيبت الاستراتيجية الأمريكية بانتكاسة واضحة بعد حرب تموز 2006، ولم يعد سرا أن الولايات المتحدة تعاني اليوم من ضعف قدرتها على توجيه الأحداث في لبنان، وان هذا الضعف هو الأساس الحقيقي للدور الفرنسي الذي يحاول ملأ الفراغ بسياسة أقل عدوانية وأكثر دبلوماسية.

في فلسطين يمثل صعود حماس وفشل حصارها وتجذر نهج المقاومة انتكاسة للاستراتيجية الأمريكية، وفي إيران لم تفلح كل الضغوط والتهديدات حتى الآن في دفع القيادة الإيرانية نحو التراجع في مسألة تطوير القدرة النووية.
في أجواء الانكفاء هذه وبعد فتح الحوار بين واشنطن والخرطوم، وإعطاء الانطباع بأن الولايات المتحدة بصدد الانتهاء من سياسة عزل السودان ومعاقبته، فجأة، يصبح رأس البشير مطلوبا في حركة لا تخلو من المظهر الدرامي المفتعل.

فالمحكمة الجنائية الدولية الخاصة بمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة والتي تأسست منذ خمس سنوات لم تطلع بعد على جرائم السيد بوش في العراق، ولا على جرائم الميليشيات التابعة للفئات الحاكمة هناك، والتي اقتصرت على قتل وتشريد الملايين فقط، وهي بالتأكيد لم تطلع على جريمة محاصرة شعب بكامله في غزة وتجويعه وحرمانه من كل شيء عدا الهواء، ومصادرة الأراضي وإتلاف الأشجار وسرقة المياه، وسجن عشرات الألوف من الفلسطينيين حتى الآن، المحكمة الجنائية الدولية انتقت منطقة واحدة في العالم لتهتم بها وتقيم فيها العدالة هي دارفور ويا للصدف!!.

يقول السيد بان كي مون إن المحكمة الجنائية الدولية "هي مؤسسة مستقلة والأمم المتحدة تحترم استقلالية العملية القضائية". لكن منذ الآن وحتى نرى المحكمة الجنائية الدولية تنظر في ملفات جرائم حرب العراق، وجرائم إبادة الشعب الفلسطيني وتجويعه، وجرائم القوات الأثيوبية في الصومال، سوف يكون من الصعب علينا تصديق ذلك الادعاء.

يدفعنا ما سبق إلى محاولة إيجاد ترابط معقول بين قنبلة المحكمة الجنائية الدولية باتهام المدعي العام للبشير وطلب استدعائه، وبين تبدلات السياسة الأمريكية. فهل تحاول السياسة الأمريكية استعادة الزخم لحملتها على المنطقة العربية بانتقاء أضعف الحلقات واستخدام ذريعة القانون الدولي وحارسته اليقظة "المحكمة الجنائية الدولية"؟

لكن لا يصعب على المرء ملاحظة السياق الذي تم فيه إطلاق الاتهام وهو سياق لا يتصف بحسن الإعداد والحشد، ولا بوجود الحماس والفاعلية، وكأن الأمر بمجمله نكتة سمجة، أو مقلب من مقالب غوار.

ذلك لا يعني استبعاد تطوير الهجوم وإعطائه الجدية التي تنقصه حتى الآن، وربما اعتمد ذلك على رصد وتحليل ردود الأفعال للدول العربية والإفريقية، وكذلك على ردود فعل القوى السياسية والفئوية في السودان ذاته، أيضا ردود فعل القوى الدولية الكبرى ومنها الصين، والمنظمات الإقليمية والدولية، وأخيرا الرأي العام العالمي.

فإذا وجدت الولايات المتحدة الفرصة سانحة فلن تتأخر في تحويل قنبلة الدخان التي أطلقتها المحكمة الدولية إلى قنبلة حقيقية ترسل من خلالها رسالة تهديد لكل من يهمه الأمر بأن العصا مازالت في يدها، بل ربما تمادت من التهديد إلى الفعل بحركة درامية كما حصل مع السودان ولم لا أليس لكل نظام عربي دارفوره؟

الشعور بالإهانة الذي ينتاب المواطن العربي وهو يرى كيف أصبحت رؤوس حكامه أهدافا سهلة للكاوبوي الأمريكي الذي يلبس عباءة العدالة العالمية بمفارقة مضحكة، لا يوازيه سوى شعوره بالألم حين يرى حكامه لا تفطن بالمظالم التي تفيض بها الأرض العربية أكثر مما تفيض بالنفط إلا حين يصل البل إلى ذقونها فتهرع للاعتراف بتلك المظالم وإطلاق الوعود بالجملة!

هل قصرت حكومة السودان في الحوار مع الولايات المتحدة وطلب رضاها ؟ على الأرجح لا، لكن حسابات الدول العظمى ومصالحها لا يعلم أحد أغوارها ولا تقلباتها، وبمقدار ما يزداد الحاكم العربي شغفا بالرضا الأمريكي وإهمالا لعلاقته مع شعبه بمقدار ما يصبح انقلاب السياسة الأمريكية عليه أكثر سهولة ومفاجأة.

حكامنا الأفاضل من المشرق إلى المغرب لا تحسبوا أنكم بمعزل عما سيحدث للبشير، ومن كان منكم بلا دارفور فليرمها بحجر.

التعليقات