31/10/2010 - 11:02

التوحش الرأسمالي../ فيصل جلول

التوحش الرأسمالي../ فيصل جلول
عاشت الرأسمالية منذ انهيار الحرب الباردة عام 1990 دون عدو أو منافس يذكر وكتبت لنفسها السيادة المطلقة على العالم، وصار اقتصاد السوق قدراً للبلدان التي تريد والتي لا تريد. فكان أن حطمت الحواجز التي اعترضتها عقوداً طويلة في ما يسمى ب”المتروبول” حيث بيعت مؤسسات رسمية عريقة وناجحة: بنوك ومصانع وشركات عملاقة ومجموعات إعلامية معمرة.. الخ. ودخلت الرساميل الخاصة قطاعات الخدمات التي كانت حكراً على الدولة في البلدان الغربية: مياه، كهرباء، ضمان اجتماعي وبريد.. الخ. ولعل البقية الباقية من قطاعات الدولة كانت مرشحة قبل الأزمة الأخيرة للاستسلام للسوق الذي صار كلي القدرة حتى بدا أن الشعار الرأسمالي الشهير: “دعه يعمل دعه يمر” قد صار حقيقة مطلقة بلا رقيب أو حسيب، إلى حد أن الاشتراكيين في فرنسا كانوا يفوزون بالانتخابات وفق برامج سياسية تقتضي انتزاع مكاسب للفئات الدنيا في المجتمع من الرأسماليين، فإذا بهم في الحكم يتخلون عن برامجهم وينتهجون سياسات مفيدة لاقتصاد السوق وخاضعة لإرادته، ويتجاهلون طائعين إرادة ناخبيهم الأمر الذي أدى إلى انحسار قطاع واسع من الناخبين اليساريين عنهم والالتحاق باليسار المتشدد. ولعل تدافع عدد من رموزهم (كوشنير وستروس كان وجاك أتالي وغيرهم) نحو الرئيس اليميني نيكولا ساركوزي يفصح عن خضوع بائس لسحر الرأسمالية الخفي والظاهر على حد سواء.

وإذا كانت شهية الأسواق قد التهمت من دون مقاومة تذكر قطاعات ومؤسسات رسمية معمرة في “المتروبول” فإن الدول الغربية فرضت نظام السوق على العالم الثالث كشرط للبقاء على قيد الحياة. الأمر الذي أدى إلى حرمان بعض الدول التي تحتفظ بصناعات وطنية ناجحة (مصر) أو ناهضة (الجزائر) من وسائل مقاومتها أو ممانعتها وبالتالي تحويل مواطنيها إلى مستهلكين معرضين للمخاطر الوافدة من السوق (بطالة واسعة وخدمات متدهورة وأزمات غذائية) من دون حماية تذكر من الدولة الوطنية، ومن دون سند يذكر من قطاعات الإنتاج المحلية المرسملة.

وعلى الرغم من سيادتها المطلقة بلا منازع جدي على امتداد الكرة الأرضية لم تتمكن الرأسمالية من تثبيت أسس راسخة لسيطرة مديدة، بل خذلت المتنبئين على عجل بنهاية التاريخ وذلك من دون مقاومة جدية هنا أو هناك في بلدان المنشأ.

وها هي تستغيث طالبة النجدة من الدول الغربية حيث أصيبت في الصميم وكشفت عن عوراتها الكامنة في فوضى السوق وفي التوحش المنفلت من كل قيد، ومع ذلك فهي تريد النجدة بلا مقابل وبلا ضمانات تريدها للعودة إلى سيرتها، أي إلى استئناف سيرة نرى بأم العين كيف هزت وتهز الاقتصاد العالمي وكيف هددت وتهدد مصير ملايين البشر.

وعلى الرغم من الكارثة المهولة التي حلت بالاقتصاد العالمي فإن الأصوات التي تطالب بفرض قيود على أسواق المال لتحجيم الأضرار التي تسببت ويمكن أن تتسبب بها هذه الأصوات مازالت ضعيفة، بل تكاد أن تختنق وسط التخبط الذي يضرب مراكز القرار الغربية. فمن جهة نجد ايرلندا تعطي الأولوية لودائع مواطنيها وتضمن وسائل عيشهم وتعلن استعدادها لحماية اقتصادها من آثار الكارثة الوافدة من الولايات المتحدة، ومن جهة أخرى نجد غوردن براون الوزير البريطاني الأول يرفع الصوت عالياً ضد الايرلنديين الذين يعتمدون المنافسة غير الشرعية والحلول المنفردة في الفضاء الأوروبي، ولعله يخشى من تدفق الرساميل البريطانية نحو السوق الايرلندي المضمون من الدولة.

ولا تبدو المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بعيدة عما يجول في خاطر براون فقد رفضت خلال قمة باريس الأخيرة اقتراحاً بتشكيل صندوق أوروبي للتصدي للأزمة، حتى لا تتحول أوروبا إلى ملجأ للرساميل الباحثة عن الأمان وبخاصة من الولايات المتحدة، لذا اعتمدت الحل البريطاني الذي يدعو لتقديم العون للشركات والمصارف التي تعاني من صعوبات كل على حدة، والظاهر أنها تحظى بدعم من المصرف المركزي الأوروبي ومن المؤسسات الأوروبية الأخرى التي تشدد رغم الكارثة على تثبيت أسعار الفائدة عند معدلاتها الراهنة خوفاً من التضخم، وعلى احترام البند الأهم في اتفاقية "ماستريخت" والقاضي بأن تلتزم الدول الأعضاء في الاتحاد بنسبة عجز في موزاناتها لا تتعدى الثلاثة في المائة.

والراجح أن الرد الأوروبي على الكارثة سيكون في القمة الأوروبية المقبلة على هيئة القرارات التي اتخذتها قمة باريس الرباعية، وهو رد قصير الأمد ويحابي الأسواق في حين تصر فرنسا على رد عالمي على ما تعتبره حقاً أزمة عالمية بل تذهب إلى حد المطالبة بإصلاح رأسمالي دولي يتيح وضع قيود واشتراطات على الأسواق ويعيد الاعتبار لسلطة الدولة في ضبط إيقاعها.

ومن غير المستبعد أن يكون التوجه الفرنسي لاشراك الصين والهند وربما مصر في القمة العالمية المخصصة لبحث الأزمة، مبنياً على تقدير واقعي بأن أوروبا وآسيا (أوراسيا) تضطلع بالقسم الأكبر من الإنتاج العالمي، وبالتالي يجب أن تكون لها الكلمة الفاصلة في هذه الأزمة التي اندلعت في الولايات المتحدة الأمريكية جراء بلاهة المحافظين الجدد ويتحمل العالم بأسره تكاليفها الباهظة.

وإذا نجح الرهان الفرنسي على ترجيح كفة أوراسيا في سلطة القرار الاقتصادي الدولي فإن ذلك من شأنه أن يحجم نزعة التفرد الأمريكي في شؤون العالم، وأن يشيع ضرباً من التعددية التي باتت اليوم أكثر من أي يوم مضى شرطاً للنجاة في غابة عالمية تسرح فيها الرساميل المتوحشة وتمرح عن سابق تصور وتصميم.. من العم سام.
"الخليج"

التعليقات