31/10/2010 - 11:02

التوطين والديموقراطيّة التوافقيّة: تبادل لا يغني عن التبديل../ سعد الله مزرعاني*

التوطين والديموقراطيّة التوافقيّة: تبادل لا يغني عن التبديل../ سعد الله مزرعاني*
في مجرى متغيّرات وتحوّلات ذات فعل انعطافي إقليمي أو محلّي، يتبادل أطراف لبنانيون مواقع وشعارات، وأحياناً مواقف بتفاصيلها (هذا من حيث الشكل على الأقل). يشمل ذلك عدداً من العناوين، منها على سبيل المثال لا الحصر، مسألة «الديموقراطية التوافقية»، ومسألة «توطين الفلسطينيّين» في لبنان.

في موضوع «الديموقراطية التوافقية»، نقع على «نسخة لبنانية» للتمثيل في الحكم، يفرضها ويرعاها وينظّمها الطابع الطائفي (والمذهبي) لبنيان المؤسّسات الرئيسية للسلطة، وكذلك لانبثاق هذه المؤسّسات على أساس قانون انتخاب يجسّد ذلك. في مرحلة الإدارة السوريّة للبلاد، كان فريق لبناني معارض هو الذي يرفع شعار ضرورة التزام هذه «الديموقراطية»، وضرورة احترام التمثيل، سواء في مرحلة انبثاقه (قانون الانتخابات وشروط إجراء العملية الانتخابية)، أو في مرحلة انعكاس هذا التمثيل في مؤسّسات الدولة، وخصوصاً مجلس الوزراء الذي أصبح سلطة القرار بعد التعديلات التي تكرّست بموجب القانون الدستوري المقر في 21/9/1990 (تعديلات اتفاق «الطائف»).

نعم، كان هذا الفريق يشكو أنه يتعرّض لعملية تهميش تبدأ من فرض ممثلين عليه، ولا تنتهي بالاستئثار في احتكار مراكز القرار في السياسة والموازنة والإدارة، إلى علاقات لبنان وسياساته العربية والإقليمية والدولية...

ومع التغيير الذي انطلقت حلقاته المتسارعة والدموية والدراماتيكية في خريف عام 2004، واستُكملت (نسبياً) في أواخر نيسان عام 2005 (سحب القوات السورية من لبنان)، شهد الوضع اللبناني دينامية سياسية جديدة. لقد انتقل مركز الثقل في مؤسّسات القرار من فريق إلى آخر، ومن تحالف إلى تحالف. وكذلك انتقلت الرعاية والإدارة والوصاية الخارجية من سوريا إلى الولايات المتحدة الأميركية. وبسبب هذا التحوّل الكبير والصاخب والمتداخل مع صراعات المنطقة، كما كان الأمر تقريباً في السابق، ولو بصيغة معكوسة، انتقل مطلب تطبيق «الديموقراطية التوافقية» من فريق إلى فريق. ونلاحظ اليوم أن «المعارضة الوطنية اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» بزعامة النائب العماد ميشال عون، يذكّران القوى الممسكة بزمام السلطة، يومياً، بما تمارسه من استئثار يتعارض مع المشاركة (الطائفية)، ويتناقض مع «ميثاق العيش المشترك»، كما ورد في مقدمة الدستور اللبناني.

تناولت هذا العنوان كمثل فحسب، ولا بد قبل تركه من التأكيد أن الدوران في حلقة «الديموقراطية التوافقية» هو كسياسة لحس المبرد، لن يؤدّي إلا إلى مزيد من التآكل والضياع والعجز عن بناء وطن حصين، وتبديد ما تبقى من بعض مقوماته.
أما العنوان الثاني، فهو موضوع توطين الفلسطينيين في لبنان. فهذا العنوان الذي كان مصدر قلق لفريق من أفرقاء الصراع، قد أصبح كذلك، بالنسبة إلى فريق في الموقع الآخر. أو يمكن القول، على الأقل، إن هذا العنوان قد انتقل من خندق إلى خندق، ومن جهة إلى جهة.

في مرحلة تعود إلى بدايات الحرب الأهلية (1975ـ 1990) وتشمل معظم السنوات الخمس عشرة التي استغرقتها، كان «التوطين» مادة يُبرَز من خلالها سلبية بقاء اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، بما يطيح توازناته الديموغرافية (فالسياسية)، وخطر سلاحهم الموجّه إلى فريق ولمصلحة فريق آخر، وخطر نفوذهم المهدِّد بتحويل لبنان إلى وطن بديل على حساب لبنان وشعب لبنان...

وتماماً كما يحصل الآن، كان «الهمّ» الفلسطيني شأن فريق لبناني دون الفريق الآخر في الصراع. ويتردّد الآن في بيانات وخطابات وتصريحات وكل مواقف أطراف المعارضة، تحذير لا يملّ من «خطر التوطين». أما الفريق «التقليدي» في السلطة، فلم يعد يولي هذا الشأن أي أهمية تذكر. ليس هذا فحسب، بل إن الناطقين باسم هذا الفريق في السياسة والإعلام والتنظير، ينظرون إلى هذه المسألة على أنها مفتعلة، وأنها بمثابة «فزّاعة».

لقد وجدت هذه المسألة، كسواها من المسائل، طريقها إلى التصنيف في منظومة تناقض طرفي الموالاة والمعارضة، بشكل «إيديولوجي»، وبـ«التزام» يستهين بما تستحقّه هذه المسألة من متابعة في سياقها الحقيقي، الملموس، سواء على الصعيد الفلسطيني (الإقليمي) أو على الصعيد اللبناني نفسه.

هل ثمّة إمكان لنقاش هذه المسألة بعيداً عن إسقاطات الصراع اللبناني ـ اللبناني عليها، أي خارج فئوية فريقي الصراع. ليس الأمر بسيطاً في خضمّ ما نعيشه من انقسام متفاقم، يجرف معه للأسف، قوىً وأقلاماً كانت إلى الأمس القريب تحاكم الأمور بطريقة مختلفة.

في مقلب من الصورة، يعنينا هنا الآن أكثر من سواه، نقع على مقاربة لموضوع «التوطين»، تبدأ من محاولة صريحة ودؤوبة، لاستمالة أكثرية الفلسطينيّين المقيمين في لبنان إلى جانب فريق الموالاة. ويستخدم في ذلك العامل الناجم عن الصراع الفلسطيني ـ الفلسطيني. كما يستخدم في ذلك العامل المذهبي. أما الوسائل فكثيرة ومتعدّدة، ومعظمها مؤثّر وفعّال.

إن بعض ملامح هذه المحاولة قد ظهر، حتى بالنسبة إلى حركة «فتح الإسلام»! ولا ينفع في إخفاء ذلك نفي أو توجيه الاتهامات للآخرين. إن التراشق الذي يتبادل فيه طرفان الاتهامات وتقاسم المسؤولية، ليس المنطلق المناسب لتحديد المسؤوليات ولتوضيح الحقائق بصورة سليمة ومنصفة! أود أن أقول بشكل مباشر إنّ صحّة اتهام جهة لجهة أخرى لا تعني أبداً سلامة موقف الفريق المتهِم، وخصوصاً إذا كان الأمر يصح أيضاً بصورة معاكسة.

أمّا في راهنية المسألة من الناحية المتّصلة بالوضع الفلسطيني نفسه، فليس من قبيل «الفزّاعة» أبداً القول، لأسباب فلسطينية قبل الأسباب اللبنانية، إنّ ما هو مطروح من تسويات، يتعدّى خطر التوطين إلى ما هو أبعد أثراً وأفدح تهديداً لحقوق ونضال وقضية الشعب الفلسطيني. فليس مطروحاً الآن فحسب، إسقاط «حق العودة» من «الحَكَم» الأميركي الذي قرر الاستفراد بقضية التفاوض وبنتائجها (المعروفة سلفاً تقريباً). المطروح أيضاً خطر تهجير من بقي من الفلسطينيين في مناطق عام 1948، لمصلحة «الدولة اليهودية» الصافية التي يبشر بها بوش، الذي كرس جولته الأخيرة في المنطقة من أجل حشد الدعم العربي لها، تشجيعاً للحكومة الإسرائيلية على المضي في عملية «السلام».

لقد جاهر بوش بوجهة إسقاط حقّ العودة للّاجئين الفلسطينين. وما بقي هو محاولة تعويض وتكريس للتشريد، ويشمل ذلك لبنان، بالطبع.

قد يُقال: هذا موقف أميركي، فما شأننا به؟ والجواب أن للأميركيّين نفوذاً كبيراً في لبنان. هم الآن الأوصياء الجدد. وهم الذين يؤمّنون الدعم للحكومة الحالية. وهم إلى ذلك، أصحاب أكبر حشد عسكري في منطقتنا، وخصوصاً بعد احتلال العراق عام 2003. وقبل هذا وبعده، فالأميركيون طرف مقرَّر، إلى حدّ كبير، في أزمات المنطقة ولبنان. وهم أخذوا في مؤتمر «أنابوليس» أواخر شهر تشرين الثاني الماضي، تفويضاً شبه مطلَق بأن يكونوا «الحكم» الوحيد في المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية.

هذا، على الأقل، جانب من المشهد الذي لا نلحظه، للأسف، في نقاشات من جرفهم تقليد تبادل المواقع والشعارات والمواقف، ومن استهواهم أسلوب بعض السياسيّين اللبنانيّين، في التحوّل والتبدّل، طبقاً للأهواء والمصالح والفئويات المذهبية والشخصية، وحتى المزاجية.

إن رؤية جانب وحيد من المشهد تليق فقط بأولئك الذين يصدرون فحسب عن نزعات مغرضة أو بدائية، أو عن جهل أو تبعية. ولا تصلح مثل هذه الرؤية الجانبية أساساً لبرنامج وطني في حدوده الدنيا. وعبثاً إغراق النقاش في سلبيات مطلقي الشعار للنيل من صحة الشعار إذا ما كانت له المقوّمات الضرورية لكي يبقى صحيحاً. هذا ينطبق على مروحة كبيرة من المسائل التي تبرهن معاينتها على مناخ اليأس والإحباط الذي لا يجد ترجمة له، لدى بعض الثوريين واليساريين والسابقين، إلا في امتشاق قلم الدعوة إلى السلامة الشخصية والاستسلام العام.

أمّا مسألة أخطاء التقدّميين والقوميين، وضرورة التفاوض، واستقلالية القرار الفلسطيني... فهي كلمات حقّ، ويجب أن تخدم الحق، لا نقيضه!
"الأخبار"

التعليقات