31/10/2010 - 11:02

الحروب التي صنعت وحدة أوروبا../ د.عبدالإله بلقزيز

الحروب التي صنعت وحدة أوروبا../  د.عبدالإله بلقزيز
حين دشنت أوروبا سيرورتها الوحدوية قبل خمسين عاماً، وضعت تاريخها الماضي وراءها بحروبه ومآسيه وجراحه النفسية العميقة، واختارت أن تمارس فعل النسيان الايجابي كي تفتح طريقها نحو المستقبل، أدركت، بعد معاناة مريرة لمحنة الموت الجماعي والدمار العظيم اللذين كانت مسرحهما في الحربين الكونيتين، أن القوة الحربية لا تصنع تقدماً، وهي قد تأتي على كل مكتسبات التقدم، وأن فكرة الهيمنة لا تنجب غير الحروب، وقد أنجبت أسوأ الحروب في التاريخ الانساني، وأن التعاون بين دولها ومجتمعاتها أمثل خيار لتحصين نفسها من الانشقاق والتصدع من جديد، و- قطعاً - أفضل ما تهيئ به لنفسها أسباب المنعة الذاتية لحماية القارة من انقسام عظيم للعالم وضعها بين كماشة عُظميَيْن متقابلين سيتقاتلان على أرضها لو تقاتلا.

ولدت الفكرة الأوروبية من رحم هذه الأحداث العاصفة والتحولات الكبرى التي شهدها العالم منذ العقد الثاني من القرن العشرين ( حربان كبيرتان مدمرتان، قيام نظام شيوعي في روسيا وتمدده في شرق أوروبا، صعود النازية والفاشية، انقسام العالم إلى معسكرين وانطلاق الحرب الباردة، دخول السلاح النووي إلى الترسانات العسكرية واحتمال استعماله في القارة الأوروبية.. الخ). وفي كل هذه الأحداث، كانت أوروبا وحدها الخاسرة، ووحدها التي تدفع الثمن: من أرواح أبنائها، ومن سيادة واستقلال بلدانها، ومن الكرامة القومية المهدورة لدولها وجيوشها، ومن مستوى التقدم الصناعي والعلمي والاجتماعي والسياسي فيها.

في بحر ثلاثين عاماً فاصلة بين اندلاع الحرب العالمية الأولى وبين دحر النازية وتدمير ألمانيا، فقدت اوروبا معظم ما أنجزته منذ القرن الثامن عشر، وقوضت في بنيانها الأسس التي صنعت نهضتها وتفوقها ومرجعية نموذجها في المدنية والتقدم، وحكمت على وتيرة التطور والتراكم فيها بأن تتراجع مسافات وأزمنة فتفقد بذلك قيادة العالم لمصلحة مراكز جديدة، (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي)، تقدمت لتحتل الموقع الذي احتكرته أوروبا منذ القرن الخامس عشر، وكان أكثر ما فقدته أوروبا في حروبها الداخلية، خلال الثلاثين عاماً تلك، ثلاثة من أهم موارد قوتها على الصعيد الكوني: تقدمها الصناعي والاقتصادي والعلمي، والاستقلال القومي، وهيمنة النظام السياسي الليبرالي.

ما تعرضت له البنى الصناعية في أوروبا ومجمل القدرة الاقتصادية والعلمية لدولها ليس قليلاً في تجربة الحربين القاسيتين اللتين شهدتهما في النصف الأول من القرن العشرين. أصابها دمار شامل شل الدورة الاقتصادية وأدخل مجتمعات أوروبا في أزمات اقتصادية واجتماعية قاتلة. ولم يكن الدمار في البنية الصناعية والاقتصادية ناجماً عن عُسر الانتاج في ظروف الحرب، وعن نقل النشاط الصناعي من الميدان المدني، إلى الميدان العسكري لتوفير احتياجات الجيوش من السلاح، بل نجم أيضاً عن استهداف المصانع والمعامل والمؤسسات الانتاجية والموانئ والمطارات وطرق السكة الحديد كأهداف عسكرية مطلوب تدميرها لتقويض القدرات الاستراتيجية لدى العدو.

وكانت النتيجة كارثية بالنسبة إلى الجميع (المنتصر والمهزوم)، فإلى الخراب الاقتصادي الشامل، فقدت أوروبا عشرات الملايين من ثروتها البشرية قتلى وجرحى ومعوقين، وانطلقت فيها حركة هجرة لعشرات الآلاف من العقول والخبرات العلمية (إلى أمريكا أساساً)، وحركة نزوح للرساميل والاستثمارات إلى خارج أوروبا، هرباً من جحيم الحروب، وحين استفاقت أوروبا، في مايو ،1945 على واقع ما حصل، وبدأت تحصي خسائرها، اكتشفت إلى أي مدى أخذها جنون الطموح إلى الهيمنة، وفي أي نفق أدخلها!

النكبة الأوروبية الثانية كانت نكبة الدولة القومية في أوروبا واستقلالها وسيادتها، نالت الحربان من وحدة أراضي الدولة القومية تمزيقاً وتقسيماً، كما في حالة ألمانيا، أو استقلالاً وطنياً مفقوداً كما في حالة معظم دول القارة التي سقطت في قبضة الاحتلال النازي وأهمها فرنسا، أو التي احتُلت بعد دحر النازية ومنها ألمانيا نفسها.

كان نجاح الثورات القومية وقيام الدولة - الأمة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إيذاناً بتقدم اوروبا السياسي وخروجها من عهود التجزئة الكيانية. وكان إطار الدولة القومية نفسه هو وعاء التقدم الاقتصادي والصناعي والعلمي فيها. لكن الأوروبيين غزوا بعضهم بعضاً في الحروب، وأفقدوا بعضهم بعضاً للسيادة والاستقلال، وقسموا كيانات بعضهم إلى دويلات، ثم ما لبثوا أن مهدوا، بذلك، لغيرهم كي يحتل أراضيهم ويستتبع دولهم سياسياً، ويصادر قرارها القومي، ويفرض عليهم الحجر والوصاية. وهذا عين ما حصل حين دخلت جيوش الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي أراضيهم واستقرت فيها من خلال معاهدات وأحلاف (“حلف الناتو” “حلف وارسو”) بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وكان على أوروبا أن تظل تدفع، منذ ذلك الحين وحتى الآن (أي حتى بعد انهيار “المعسكر الاشتراكي” وخروج الروس من شرق أوروبا)، ثمناً فادحاً من استقلالية قرارها السياسي والاستراتيجي لقاء ارتباطها بأحلاف تقودها قوى (اليوم قوة واحدة) من خارج أوروبا، ولقاء استمرار قواعد عسكرية أجنبية فيها هي مظهر آخر لمحنة السيادة!

ثم كانت النكبة الثالثة لأوروبا في نظامها السياسي الديمقراطي الذي عرّضته الحربان لامتحان عسير انتهى الى إنتاج نقائضه. ففي جوف الحرب العالمية الأولى نمت شروط الثورة البلشفية في روسيا التي قادت الى ميلاد نظام شيوعي سرعان ما تحوّل -في العهد الستالينيني- الى نظام كلاني (توتاليتاري) معاد للحريات. وفي سياق نتائج الحرب العالمية الأولى، وجدت الفكرة الوطنية الألمانية في الايديولوجيا النازية، وفي النخبة السياسية الهتلرية التي حملتها، جواباً لأزمة الشعور الألماني الجماعي بامتهان بريطانيا و فرنسا وحلفائهما للكرامة القومية (الألمانية) في “مؤتمر باريس”.

وفي سياق نتائج الحرب العالمية الثانية، تقهقرت الديمقراطيات الأوروبية أمام زحف الشيوعية من الشرق وسقوط شرق القارة ووسطها في قبضتها الايديولوجية والسياسية. ولم تكن الديمقراطيات الأوروبية قد تحررت من النازية والفاشية اللتين خرجتا الى الوجود من رحمها، حتى ألفت نفسها في محنة مع تمدد النظام الشيوعي الذي بدأ يطرق أبوابها بقوة.

خرجت أوروبا خاسرة على كل صعيد: خسرت صناعتها واقتصادها وتقدمها العلمي وأرواح الملايين من سكانها، وخسرت استقلالها وسيادتها وحرية القرار القومي فيها، وخسرت كونية نظامها السياسي وجاذبيته. كان عليها أن تعيد بناء كل شيء سقط تحت أنقاض دمار الحروب، ثم كان عليها أن تدرك بالتدريج ان ذلك يتجاوز قدرة الدولة الواحدة من دولها، وأنه يفرض عليها مقاربة أخرى للحاجات وللمستقبل غير تلك التي درجت عليها وألفتها طويلاً. ثم كانت الفكرة الأوروبية تتبلور بوصفها الجواب الراهن والمستقبلي الوحيد الذي تملكه القارة لمواجهة أوضاعها ولبناء مصيرها. ولقد ضربت موعدها مع تلك الفكرة في مبادرة ثنائية متواضعة (ألمانية - فرنسية) في العام 1957. ولم يكن مثيراً أنها (مبادرة) أتت من دولتين حاربتا بعضهما منذ عشرات العقود ودمرتا بعضهما ومعهما أوروبا، المثير أن اللبنة الصغيرة للتعاون التي وضعتها الدولتان تحوّلت مع الزمن الى مداميك كبيرة قام عليها صرح الاتحاد الأوروبي، ودون أن يتطلب الانتقال من الحرب الى التعاون أكثر من اثني عشر عاماً.


"الخليج"

التعليقات