31/10/2010 - 11:02

الدولة العربية والطائفة: مشهد ملتبس../ سامـح فوزي*

الدولة العربية والطائفة: مشهد ملتبس../ سامـح فوزي*
في المشهد العربي الراهن هناك من يطرح السؤال الخاطئ، ويطلب من الآخرين الإجابة عنه. لماذا علا الصوت الطائفي على حساب الدولة؟ هناك من يعزون ذلك إلى صعود الطائفية، لكن النظرة المتعمقة تفسر ذلك بتراجع الدولة ذاتها، بحيث لم يعد هناك من مفر سوى العودة إلى الطائفة بحثاً عن معنى وغاية، مشروع ورمز، أمان اجتماعي حاضر ومستقبلي.

فقد نشأت الدولة العربية- بصفة عامة- في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين- بوعود عريضة للمواطن العربي بدءاً من تحرير الأرض المحتلة من إسرائيل، وتوفير الغذاء والكساء، وانتهاء بالسكن والوظيفة. عقد اجتماعي شعبوي ساد وتمدد في المنطقة العربية نموذجه الأشهر في مصر والعراق وسوريا وليبيا وتونس والجزائر والأردن واليمن والصومال والسودان.

حلم المواطن باستعادة الأرض، والعدالة الاجتماعية، والتنمية الشاملة، جعله يقبل الشق الثاني من العقد الاجتماعي الشعبوي، وهو تأجيل المطالبة بالديموقراطية وحقوق الإنسان. الخبز وتحرير الأرض من الاستعمار سبقا المشاركة والتعددية. وساد شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». جاءت هزيمة 1967م، التي تفنن رموز الشعبوية السياسية في تسميتها «نكسة» بدلاً من «هزيمة»، لتكشف هشاشة الدولة العربية. لم تحرر شبراً واحداً من أرض فلسطين، بل على الأكثر فرطت في مزيد من الأرض العربية. لم تحقق العدالة الاجتماعية، بل على النقيض تفجرت انتفاضات الخبز في كثير من أنحاء العالم العربي، وبدأ المواطن العربي يعيش حالة من البؤس الاجتماعي المتمثلة في المشكلات الاقتصادية، وحالة من البؤس السياسي التي ترتبت على تراجع الديموقراطية وغياب حقوق الإنسان.

كان من الطبيعي أن يستيقظ المواطن العربي بحثاً عن حلول لأزمته، وعن قوى أخرى تحقق حلمه. لم تحقق له الدولة العربية الاستقلال أو الحرية، بل قادته إلى الاحتلال والاستبداد. وكان من تسلط الدولة العربية خنق ومحاصرة المبادرات الحرة المعبرة عن المجتمع المدني، فلم يعد هناك سوى الكيانات الدينية والطائفية والإثنية. تستيقظ بحثاً عن المواطن العربي الذي أصبح عارياً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

وجاء سقوط العراق الدرامي في قبضة الاحتلال، وما تلاه من مشروعات «فوضى» في المنطقة العربية لتطرح تساؤلات أساسية عن دور الدولة، قبل أن تطرح تساؤلات عن دور الطائفة. وبانت الدول العربية- باختلاف مستوياتها- في موقف «العاجز» في مواجهة تحديات الخارج وأزمات الخارج.

أزمة الدولة العربية
قبل السؤال عن سر نجاح الطائفة، يجب البحث في سر إخفاق الكيان السياسي السيادي، وهو الدولة. تتعدد الأسباب، لكنها تقدم ملخصاً لحالة من العجز الشامل على كل المستويات.

1- تفكك مشروع الدولة القومية، ليس فقط في الوقت الراهن، لكن على مدار مراحل متعددة، بدءاً من الإخفاق في تحقيق التنمية، والعجز عن سد احتياجات السكان واللجوء إلى التكوينات الدينية والمذهبية لسد هذه الاحتياجات، وتنامي معدلات الفساد الذي ينخر في عظام الدولة، انتهاء بالتلكؤ عن الوفاء بالمطالب الديموقراطية، وأخيراً السعي لتبديد الصيغ الحالية للحكم مهما كانت التنازلات المقدمة خارجياً.

2- الدولة العربية لجأت منذ عقود طويلة إلى توظيف «الدين» أو«المذهب» في إنتاج شرعية جماهيرية تواجه بها عجزها عن الإنجاز. كان من شأن ذلك تسييس التكوينات الدينية والمذهبية، وفتح شهيتها السياسية، ودفعها لتقديم نفسها لاعباً أساسياً في ظل ضعف الدولة، وترهلها.

3- عجز كثير من الدول العربية عن تحقيق اندماج وطني حقيقي بين الجماعات الدينية والعرقية المختلفة، واللجوء إلى سياسات «رديئة» في إدارة التنوع الديني والمذهبي، أسهمت في تمديد المشكلات، وتعميق الأحقاد التاريخية، وتنشئة أجيال على استعذاب فكرة الاضطهاد في مواجهة النخب الحاكمة، وربما في مواجهة أصحاب الأديان أو المذهب التي تأتي منها هذه النخب.

4- حداثة العهد بمؤسسات المجتمع المدني، وعدم قدرتها على تعبئة الجماهير على أساس «المصلحة» أكثر من «الانتماء» إلى الطائفة، وحصار النظم العربية لها، أدى في النهاية إلى عدم قدرتها على خلق رأس مال اجتماعي حقيقي، في الوقت الذي نجحت فيه القوى الطائفية في خلق رأس مال ديني، شعبوي تعبوي.

سر نجاح «الطائفة»
إذا كان ما سبق يقدم بعض التفسير لأزمة الدولة في المنطقة العربية، فكيف يمكن أن نفهم أسباب نجاح الطائفة في ما فشلت فيه الدولة؟
العامل الأساسي هو قدرتها الفائقة على الإفادة مما تتيحه الروابط التقليدية في المجتمعات ما قبل الحديثة، واستفادت كذلك مما تكفله ثورة الاتصالات والمعلومات. فهي أولاً تمتلك قيادات شرعية، لا ينازعها أحد القيادة. وبالتالي فهي تمتلك القدرة على التوجيه والحشد.

وتمتلك ثانياً مؤسسات عميقة الجذور، رغم كل ما يعتريها من مشكلات بنيوية وتنظيمية، فهي لا تزال منتجة وفاعلة، وناجحة في التعبئة، ومبادرة في الأزمات.

وتمتلك ثالثاً المال الذي جعلها دائماً في موقع المبادر، والفاعل، والملبي للتطلعات، حتى لو كانت في حدها الأدنى، واستطاعت بذلك أن تحتفظ بالجمهور المنتمي إليها. وتمتلك رابعاً خطابات دينية وثقافية، متماسكة، تطرحها على الجماهير، وتعرف سبل الوصول إليها.

ماذا تقدم الطائفة للمواطن العربي؟
تقدم الطائفة اليوم للمواطن ما لم تعد الدولة قادرة على تقديمه:
1- هوية، بطاقة تعريف أساسية للمجتمع، بعد أن ضعفت الهوية الوطنية القطرية بفعل تكرار الهزائم للدولة الوطنية، وشيوع الفساد، وتمدد الاستبداد، وحدوث انفصال بين المواطن والدولة.
2- شبكة أمان اجتماعي، في مواجهة حالة حضور الدولة نظرياً وغيابها عملياً.
3- مشروع مستقبلي، فإذا كان التفكيك هو «الملمح» الأساسي كونياً، ثم إقليمياً، ثم محلياً، فالبديل المتاح أمام الفرد العربي هو الارتداد إلى الانتماءات الأضيق، التي لا تزال تحتفظ بقوامها، وقواعدها الأساسية، ومصادرها المالية، وخطابها الجامع، والهيبة النسبية لقياداتها الدينية أو المذهبية.

هذه قراءة لمشهد الدولة والطائفة في العالم، ليس بهدف التشهير بالدولة وتمجيد الطائفة، بقدر ما هو تشخيص لواقع مضطرب يفرض سؤالاً أساسياً من دون مراوغة: كيف تصلح الدولة من حالها؟ وهو سؤال يسبق ما تردده الأقلام كثيراً: متى تكف الطائفة عن حالها؟

"الأخبار"

التعليقات