31/10/2010 - 11:02

الدولة اليهودية وجدل القنبلة الديمغرافية./ محمد خالد الأزعر*

الدولة اليهودية وجدل القنبلة الديمغرافية./ محمد خالد الأزعر*
الجدل حول البعد الديمغرافي للصراع الصهيوني العربي، موصول صهيونياً منذ كان مشروع استيطان فلسطين فكرة هائمة في الآفاق الأوروبية. وقبل مئة عام نصح عقلاء يهود (مثل آحاد هاعام) الحركة الصهيونية بالتخلي عن طموحها، بالنظر إلى عمران فلسطين بأهلها. ومنهم من استشرف للسبب ذاته أن مشروعها لن يتم إلا بالقوة..

من يراجع دفوع العرب والفلسطينيين الموجبة لرفض الدولة اليهودية إبان مراحل تأسيسها، يتأكد من وعيهم المبكر بأهمية العامل السكاني في تحديد مسار الصراع ومصيره. وبينما كان الفلسطينيون يطالبون بتسوية ديمقراطية، يضمرون أنها ستكون لصالحهم بسبب أكثريتهم العددية، كان الصهاينة ومحازبوهم يعرفون الكيفية التي سيعالجون بها المعادلة السكانية المختلة. وقد أدركنا بدورنا لاحقاً هذه الكيفية حين اصطدم الكم بالنوع منذ 1948..

نقول، لم ينقطع الجدل بهذا الخصوص، لكن مضمونه هو الذي اختلف نسبياً وفقاً للتحولات في طبيعة الصراع، أطرافه وقضاياه والمعنيين به سكانياً بالذات. فالصراع بمفهومه الصهيوني العربي الأشمل، يجعل للمعادلة السكانية حشواً غير الذي عليه الصراع بمفهومه الإسرائيلي الفلسطيني الأضيق.

المفهوم الأول يعني خلقاً كثيرين ودوائر جغرافية واسعة.. أبعد من إسرائيل الدولة الاستيطانية والفلسطينيين كشعب أصيل، وأبعد بالطبع من اليهودية العالمية التي لا يزيد قوامها عن الخمسة عشر مليوناً. فيما المفهوم الثاني يفيد جدلاً بأن التدافع السكاني محصور بمن هم الآن في حدود فلسطين التاريخية. وعلى الذين يخوضون في أمر الديمغرافيا وصلتها بمستقبل الصراع وأيلولته أن يبصروا الكافة بأي المفهومين يأخذون كمنطلق للتحليل والتناظر.
بدون ذلك نكون بصدد قاعدة معلوماتية مراوغة، وستكون النتائج مضللة بقصد أو بدون. غير أن الأكثر مساهمة في تيه الاتجاه عربياً وفلسطينياً، هو معالجة المعادلة السكانية للصراع من مفهوم أضيق بمراحل فلكية من هذين المفهومين..

إنه المفهوم الذي يقارب الصراع وكأنه يجري في أحشاء إسرائيل بين اليهود وعرب 1948. وبعد أن يقوم أصحاب هذا المفهوم (المنظور) بعمليات حسابية، تتعلق بالهجرة اليهودية والمواليد والخصوبة وسن التزاوج وطبيعة النظام السياسي الإسرائيلي (الديمقراطي عندهم!)، وتأثير ذلك ونحوه على التفاعلات بين يهود إسرائيل وعربها أو فلسطينييها، يبشروننا بأن هذه الشريحة الرابضة في جوف إسرائيل، سيكون لها دور حاسم في تحديد نهاية الصراع.

طبقاً لهذا التصور، تبدو إسرائيل أمام قدرها المقدور من حيث حتمية التحول عن جوهرها اليهودي المتفرد، بحكم إغراقها يهودها ذات يوم ـ قريب أو بعيد سيان ـ في بحر الأغلبية العربية الفلسطينية..

فهي لا تستطيع مجاراة عرب الداخل في "معركة الأرحام" والتكاثر، ولا يسعها إشراك يهود الخارج في انتخاباتها الداخلية، ولا يمكنها عزل العرب بنظام عسكري يحول دون استحواذهم على النظام السياسي، ولا قدرة لها على حجب تأثير الكم الذي يفرز كيفاً فاعلاً بحكم الطبيعة..

ثم إن اليهودية العالمية تكاد تنضب مخازنها عن إمداد يهود الكيان الصهيوني بالبشر. كل هذا يقرب اليوم الذي سيصبح فيه يهود إسرائيل جيباً سكانياً معيناً في محيط فلسطيني أكبر.. وربما ذهبنا والحال كذلك إلى وقوع هذا الجيب البشري تحت رحمة هذا المحيط (الأغلبية)، الذي سيتفضل بتحديد مصير إسرائيل اليهودية، إلى إسرائيل غير يهودية الهوية.. هكذا بكل بساطة، أو حتى بصعوبة إذا أضفنا بعض التفاصيل!

مثل هذا المنظور "العبقري" يمكن تفهمه لو أن دعاته أسكنوه ضمن رؤية أشمل للمواجهة العربية ألفلسطينية للمشروع الصهيوني الاستيطاني في قلب العالم العربي. أما أن يدفعوا به معزولاً، وكأن التفاعلات بين عرب 48 ويهود إسرائيل تدور في جزيرة نائية، فإنه تقدير تعوزه الموضوعية في التحليل، فضلاً عن فضفاضيته الأخلاقية.. لأنه يحمل مليون ومئتي ألف عربي فلسطيني، ساقتهم أقدارهم للوقوع تحت السيطرة الصهيونية منذ نحو ستين عاماً، عبء مواجهة المشروع إياه وحدهم!

الانحراف عن جادة التحليل الموضوعي يتضح عند تأمل حيثيات ترجيح وقوع السيناريو المطروح. فنحن هنا أمام سيناريو مغلق، لا بديل أمام الطرف اليهودي إلا الوصول إليه..

كل الطرق تبدو مسدودة إلا الطريق المؤدي إلى أغلبية "عرب إسرائيل" على يهودها في مدى زمني معين. وهذا يناقض "كيميائية" الصراع الصهيوني العربي أو حتى أي صراع اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي ممتد أو غير ممتد.
فلكي تتحقق حسابات أصحابنا المستندة إلى تفكير رغبوي ظاهر، لابد من تثبيت عدد كبير من العناصر والمدخلات على خط المعادلة السكانية بين عرب 48 ويهود إسرائيل. لعل أبرزها استمرار إسرائيل في سياسة استقبال الغزاة المستوطنين من اليهود فقط.. وهو فرض يجرحه التهاون في قضية الهوية الدينية للمهاجرين (راهنا)، والقناعة المتنامية إسرائيليا بأن "صهينة" المهاجرين الجدد تكفي لتأدية الغرض، والدعوة إلى فتح "باب التهويد" لردف يهود إسرائيل بالمزيد..

هذا فضلاً عن الحديث عن وجود ما يسميه الصهاينة بـــ"اليهود المتخفين"، ومؤداه بالحق أو بالباطل أن ثمة في آسيا وأفريقيا زهاء خمسين مليوناً من اليهود ينبغي البحث عنهم وتذكيرهم بيهوديتهم واستجلاب ما يمكن منهم إلى إسرائيل.. خصيصاً لمقارعة عرب 48 وعيرهم بالطبع سكانياً!.

لا حكمة في الاطمئنان إلى عجز النخب الصهيونية الحاكمة عن حجب تأثير الكم العربي بالمطلق، لأن طغمة كهذه تحيا بلا وازع من أي نوع، لا تتورع عن الاستعانة بأي حل لوقف نمو العرب. ولا ريب أن المستقبل مفتوح على توقع تطوير آليات مختلفة يصعب استبصارها الآن لهذا الهدف.. هذا إن استبعدنا الحلول الصاخبة الأخرى كالطرد الجماعي أو العزل الإقليمي المطبق أو فرض الحكم العسكري بذرائع لا يعز ابتكارها ثم تلميعها دولياً.

وأسوأ منطلقات دعاة القنبلة الديمغرافية، زعمهم بأن إسرائيل لا يسعها إلغاء الديمقراطية لدرء خطر هذه القنبلة وتنفيسها. أولاً، لأنه سبق لها فرض حكم عسكري على الفلسطينيين داخلها بين عامي 1948و1966، ولم يشجب أحد من الفواعل الدوليين ديمقراطيتها آنذاك.

وثانياً، لأن كثيراً من شعائر هذه الديمقراطية محجوبة الآن بالفعل عن عرب 48، وفي حال بلوغ خطر القنبلة إياها الخط الأحمر فلن يكون على النخبة الصهيونية الحاكمة سوى زيادة جرعة الحجب مع العمل على تهيئة البيئة الدولية لذلك.

وكثيراً ما دعا مسؤولون إسرائيليون إلى طرد عرب 48 دون أن تتوقف الكرة الأرضية عن الدوران، ذلك لأن ناساً كثيرين تعودوا على خصوصية مفهوم الديمقراطية في هذه الدولة وعلى إنها "لليهود أو للصهاينة فقط".. وليس بلا مغزى أن الإدارة الأميركية راحت تبدى مؤخرا انحيازها لهذه "الخصوصية" بصريح العبارة!.

القصد أنه لابد من توسيع آفاق النقاش بشأن الأسس وشبه المسلمات التي تقوم عليها مقاربة المعادلة السكانية في سياقها الإسرائيلي الفلسطيني، على نحو لا يغفل التفكير الشيطاني الذي يحف بالعقل الصهيوني وهو يعالج حاضر هذه المعادلة ومستقبلها.

لا حكمة في الاطمئنان إلى عجز النخب الصهيونية عن حجب تأثير الكم العربي لأنهم لن يتورعوا عن وقف نمو العرب.

التعليقات