31/10/2010 - 11:02

السلفية وإشكالية الدولة الحديثة../ حسام تمام*

السلفية وإشكالية الدولة الحديثة../ حسام تمام*
ينتمي الفكر السياسي السلفي السائد، إلى ما قبل نشأة الدولة القومية الحديثة. ومن ثمّ، يعود تصوّر السلفيّين للدولة إلى ما قبل قرنين من الزمان هما عمر الدولة الحديثة التي عرفتها المجتمعات الأوروبية، ومنها انتقلت إلى بقية العالم. ويمكن القول إن «الدولة» كما يتصوّرها السلفيون، بل كما في التداول الإسلامي السائد، لا علاقة لها بالدولة الحديثة إلا بالاسم الذي هو ترجمة خاطئة لـ «state».

وتحمل الأخيرة دلالات مناقضة تماماً لمعنى «الدولة» في تجربتنا التاريخية، الذي كان يُقصد به التغيّر والتبدّل (منها قوله تعالى «وتلك الأيام نداولها بين الناس»، وقولهم «الأيام دول»)، فيما كانت الدلالة الواضحة في الاسم الغربي هي الثبات!

وإذا ما اتضح الفارق، فيمكن القول إن ثمة مشكلات بل وتناقضات جوهرية للسلفية مع الدولة الحديثة على مستويات مختلفة. فهي في واقعنا الإسلامي دولة تجزئة ترسّخ لواقع الانقسام الإسلامي بل وتشرعنه بدلاً عن دولة الوحدة الإسلامية، ثم بالضرورة لا تتأسس على شرعية دينية، ولا تُناط بها مسؤوليات دينية خاصة، بل هي ـ وهذا هو الأهم ــ تطرح نفسها كمطلق وكمصدر للشرعية لا يحتاج إلى شرعية من خارجه حتى لو كان الدين مصدرها!

لذلك، ظلت الأطروحة السلفية، وستبقى، في صراع جوهري مع فكرة الدولة الحديثة مهما كان الوعي السلفي بطبيعة هذه الدولة وفلسفتها، ومهما كان وضع السلفية في دول رأت نفسها ممثلة للسلفية أو حظيت بدعمها! وزاد من ذلك الصراع انشداد الأطروحة السلفية في طبعاتها الأخيرة التي تغلب عليها الايديولوجيا إلى «المثال» الإسلامي المتخيل، والمتمثل في دولة الوحدة الإسلامية الجامعة. فهي رفضت التراث الفقهي التقليدي، والسلفي أحياناً، الذي أعطى الشرعية لواقع الانقسام، ودول وإمارات وسلطنات الأمر الواقع، كما رفضت التراث القانوني والدستوري الحديث في أسلمة الدولة الحديثة، وإن لم يمنع هذا من الحديث عن «سلفية» وطنية استفادت منها دولة ما بعد الاستقلال في دعم وجودها.

نتكلم هنا عن سلفية محمد عبده التي أسست للوطنية المصرية بالقطع مع أممية أستاذه جمال الدين الأفغاني، وسلفية عبد الحميد بن باديس التي أسست للوطنية الجزائرية وإن وضعتها ضمن دوائر انتماء أخرى للعروبة والإسلام متناغمة ومتكاملة وليست متعارضة (وذلك بشعاره الشهير: الإسلام ديني والعربية لغتي والجزائر وطني)، وسلفية علال الفاسي في المغرب كذلك.

لكن، بشكل عام، كانت نتيجة الرفض العميق للدولة الحديثة أن تحول الفكر السلفي وتمثلاته الحركية بشكل خاص، إلى عامل إضعاف للدولة الحديثة في عالمنا العربي، وعقبة في طريق بنائها وتطويرها. فهو إما ساع إلى نزع الشرعية عنها، بما في ذلك الخروج عليها ومحاولة تقويض أسسها ـ وهو ما تصاعد بعدما أخذت السلفية أبعاداً حركية ـ أو منصرف عنها ولا يرى له موقعاً فيها.

ومن ثم، ظل «الخزان» السلفي طاقة مهملة في الحراك السياسي في عالمنا العربي، أو أداة تُوظّفها أنظمة الاستبداد والتسلط لدعم وجودها وشرعيتها، عبر تنزيل مقولات فقهية تاريخية في واقع حديث لا يمتّ إليها بصلة، كما في مقولات وجوب طاعة ولي الأمر وتجريم معارضته أو «الخروج» عليه بتعبيرها التراثي!

أتصور أن البحث عن أفق لعلاقة إيجابية يجب ألا يتغافل عن صعوبة أو ربما استحالة انسجام السلفية مع الدولة الحديثة، على الأقل في اللحظة التاريخية الحالية، وأن يدرك أن المحاولات التي تجرى على الأرضية السلفية ستبقى هامشية واستثنائية في مجملها، ولا يمكن أن تتطور لعموم الحالة السلفية. فمحاولات بعض السلفيين، كما في حالة لبنان، التأسيس لشرعية الدولة التي تقوم على تعددية دينية تضمن مشاركة كاملة لغير المسلمين (المسيحيين)، وتعترف بالتنوع داخل الإسلام (الشيعة)، تبقى حالة خاصة ربما محكومة بالطبيعة اللبنانية، وهي مع ذلك نادرة في محيط سلفي مضاد. أما الدول التي يشارك فيها السلفيون سياسياً، كما في الحالة الخليجية، فما زالت تنتمي إلى تقليد «الإمارات»، ولم تدخل بعد عصر الدولة الحديثة، ومن ثم فهي لا تصلح مثالاً لحالة تصالح السلفية مع الدولة الحديثة.

المصالحة التامة قد تكون بعيدة إلى حد كبير، وغير مفيدة في بعض الأحيان. فثمة مشكلات جوهرية في طبيعة الدولة الحديثة، على الأقل لجهة علاقتها بالدين، تسمح للسلفية بالتحفظ على إعطائها الشرعية الكاملة التي يمكن أن تنالها من تصالح الأطروحة السلفية معها. فالدولة الحديثة في طبيعتها مطلقة، ترى في نفسها كما لو كانت إلهاً يملك كل السلطات، وهي تحتكر الشرعية وتعلو بها على أي شرعية، حتى لو كان الدين مصدرها، فتعيد توزيع الشرعية وتعطي منها وتمنع. وهي إن لم تصادم الدين صراحة في كثير من الأحيان، فقد صادرته لنفسها دائماً، وقامت وصية عليه، حتى يكفيها أن تتبنى رأياً أو اجتهاداً فقهياً ليصبح قانوناً يعاقب من يخالفه!

تناقض الأطروحة السلفية مع منطق الدولة الحديثة ليس مشكلة في ذاته، بل تبدأ المشكلة حين تتحول السلفية إلى أداة من أدوات هدم هذه الدولة وتضييع كل مكتسباتها، دون أفق لتقديم بديل عنها باعتبارها الإطار المنظم للعلاقات الدولية في لحظتنا التاريخية الراهنة. وتزداد الفداحة في حال دول كبرى مهمة مثل مصر، التي تمثل كسباً للأمة العربية والإسلامية من حيث قوتها كدولة مؤسسات، وما قطعته من تقدم على مستوى الاستقلالية والتحرر الوطني، ثم عدم تعارضها الصريح مع فكرة المرجعية الإسلامية، وسعيها إلى التناغم معها على المستوى الدستوري والتشريعي.

إن دخول السلفيين في العمل السياسي المباشر في الدولة الحديثة، ووفق منطقها، سيكون لمصلحة تعزيزها لجهة تفكيك الأطروحة السلفية وخاصة في بعديها الأساسيين: وحدة الأمة وما يستلزم من وحدة الإطار السياسي الناظم لها، والشرعية الدينية للدولة وما يتعلق بها وما يترتب عليها من مسؤولية دينية. وهو تفكك شمل كل الجماعات والأطروحات الإسلامية التي تبنّت منطق العمل السياسي المباشر ضمن مؤسسات الدولة الحديثة (الأحزاب والبرلمان وجهاز الدولة)، وأبرزها الإخوان المسلمون الذين انتهوا بعد مسيرة حافلة في العمل السياسي إلى صورة تقترب من الأحزاب الوطنية المندمجة تماماً في الدولة القطرية الحديثة.

لكن استمرار البديل بالغياب عن الفعل السياسي لن يكون لمصلحة الأطروحة السلفية بالضرورة. ومن ثم، يبدو أن المخرج لا بد أن يكون بإبداع مقاربة سلفية جديدة للتعامل مع الدولة الحديثة، يتجاوز إما منطق القطيعة، أو منحها شرعية الاستبداد والتسلط.

أولى خطوات إبداع تصور سلفي مختلف في العمل السياسي في إطار الدولة الحديثة، تبدأ بإعادة تعريف العمل السياسي، بحيث يتجاوز الفهم التقليدي له باعتباره تنافساً سياسياً مباشراً للوصول إلى السلطة عبر أدواتها، إلى فهمه كطريق للتأثير في المجال العام وإجبار صانع القرار على تبنّي الأطروحة العامة التي يتبنّاها. فالسياسة أبعد من منطق التنافس الحزبي المباشر والصريح، ومجالات تصريفها والتأثير فيها أوسع من الأحزاب والبرلمانات والأطر السياسية المعروفة، والحضور فيها يمكن أن يكون دون تحمل الكلفة السياسية والشرعية التي قد لا يقبل السلفيون تحمّلها في الوقت الراهن.

بهذا التصور للعمل السياسي، يمكن السلفية التموقع سياسياً كحركة إصلاحية ضاغطة على الفاعلين السياسيين ــ على اختلاف مواقعهم ــ في اتجاهات مختلفة ينبغي أن تصبّ جميعها في دعم نهضة الأمة واستعادتها لديناميتها. ثمة مساحات واسعة في هذا الصدد يمكن التيار السلفي أن يمارس تأثيرات قوية فيها:

ــ بإمكان التيار السلفي ممارسة التأثير السياسي الضاغط في مواجهة الحركة الدولية التي ترمي إلى إعادة تعديل القوانين والتشريعات المنظمة للمجال الاجتماعي بشكل خاص بغرض إنهاء المرجعية الإسلامية وسلطتها.

ــ كذا، بإمكان هذا التيار أن يقف في مواجهة تيارات التجزئة القطرية وحصارها، والتأكيد المستمر على وحدة الأمة رغم واقع الفرقة، وحقها في السعي لإقامة إطارها السياسي الجامع، ومن ثم التحرك للضغط على قيادة دول التجزئة القطرية باتجاه تبني سياسات تقارب يمكن أن تترجم في مستوى من مستويات الوحدة المنشودة.

وهنا ينبغي له إعادة فهم قضية الوحدة العربية بطريقة مختلفة تجعلها مرحلة ضرورية من مراحل الوحدة الإسلامية الجامعة لا بديلاً عنها أو نقيضاً لها.

ــ الانتصاب كشاهد ورقيب على تيارات العمل السياسي الإسلامي ـ كالإخوان المسلمين مثلاً ـ موجِّهاً إليها، وناقداً أو داعماً بقدر اقترابها من أطروحته.

ــ الدخول في العمل المجتمعي الداعم لقضايا الإصلاح، مثل مقاومة الفساد، والعمل على توفير شبكات الدعم والرعاية الاجتماعية التي تحفظ تماسك النسيج الاجتماعي للأمة من التفكك، ومن ثم من الاختراق من جانب المؤسسات الغربية.

إن تحولاً في نظرة التيار السلفي للسياسة والسياسي من شأنه استعادة منطق السياسة والسياسي في الإسلام، باعتباره لا يخرج عن نطاق المجتمع. فالمجال السياسي في الإسلام ليس له الاستقلالية والإطلاقية والثبات، والذي عليه في الحالة التي نعيشها كما تمثّلها الدولة الحديثة، بل هو مرتبط بالمجتمع ارتباطاً عضوياً لا ينفصل عنه بل ويتبعه، والعمل المجتمعي سيظل هو الضامن لاستقلالية المجال الاجتماعي عن تدخلات الدولة، وهو الحامي من استنزاف مكوّناته باتجاه شرعنة السلوك السياسي لهذه الدولة، وهو في الوقت نفسه المجال الحي للتلاقي مع بقية مكونات المجتمع والتفاعل معها والتعرف على اهتماماتها وتجميع مصالحها، ومن ثم التعبير عنها سياسياً بحركة ضاغطة على الفاعلين السياسيين.

غير أن تحول التيار السلفي في نظرته للسياسة والسياسي تقابلها عقبات وتحديات كبيرة لا بد أن يتجاوزها العقل السلفي. فهو من ناحية مطالب بالقطع مع الطابع السلطاني للفكر السياسي الإسلامي الذي يوظَّف في إسناد دولة الاستبداد والقهر والتسلط في واقعنا المعاصر، وهو ما يتطلب تحرير قضايا شرعية السلطة ومعارضتها أو الولاء لها، وفق اجتهاد فقهي معاصر يفهم فلسفة الدولة الحديثة، ليس لقبولها بل لتجاوزها.

كما أنه مطالب من ناحية أخرى بالانفتاح على العالم والاستفادة من منجزاته حتى في نقد فكرة الدولة نفسها، والأهم لبناء خطاب إسلامي إنساني قادر على إدراك التنوع والتعددية في الخلق بقدر اعتقاده في وحدة الخالق، ومن ثم يكون قادراً على إدارة هذه التعددية واستيعابها تحت مظلة إسلامية جامعة حتى لمن يختلفون معه.

إن الحالة السلفية التي نعيشها اليوم، تبدو كلغم دائم التفجّر في وجه الدولة الحديثة، وهو أمر مفهوم في ضوء ما نراه من تغوّل الايديولوجيا، ومن ثم طغيان السياسي عليها حتى وإن اعتزلت هي السياسة. ذلك لا يجوز بتصوري أن يصرف الأنظار عن منطق الإصلاحية الكامن في التيار السلفي العام. فأهم ما يغفل عنه الكثيرون في قراءة السلفية، هو نزوعها نحو إيجاد أرضية اجتماعية قوية تضمن وجود النطاق الشرعي للدين الإسلامي واستمراريته. وهي إصلاحية كامنة ربما حجبتها الرؤية السياسية التعيسة للحالة السلفية الراهنة بسبب ما ذكرناه من طغيان الايديولوجيا عليها.

تميل السلفية بمنطقها الخاص المبني على أسبقية الشرع، إلى النزوع نحو المجتمع والفرار من سلطة «الدولة التحديثية» و«تدخليتها». وهي تتواءم وربما ترحب بنوع من الفصل بين المجال السياسي والمجال الاجتماعي، ليس بمنطق العلمنة الذي يفرض هذا الفصل، بل بمنطقها الخاص النافر من الطابع التدخلي في هذه الدولة، لا من وجودها في حد ذاته. السلفية لا تأخذ موقف الرفض التام للدولة الحديثة بقدر ما أنها لا يمكن أن تقبلها بإطلاقية.

باختصار: تميل السلفية إلى تشكيل فضاء اجتماعي مستقل وغير محتاج إلى الدولة، فضاء مكتفٍ ذاتياً، ويمكن أن يكتفي قانونياً بفضل تركيزه على أهمية الشرع الإسلامي. لذلك فإنها إذا تمكّنت من الحضور في المجال العام والتأثير فيه عن طريق غير المجال السياسي، مع توسيع رؤيتها النظرية هذه باتجاه غير المنتمين فكرياً إليها، فستكون قد حققت إنجازاً في حماية النظام القانوني والشرعي للإسلام من تقلّبات السياسة وتنازلاتها، والنأي به عن نطاق التنافس والمساومة التي يفرضها المنطق المدني المتضمن في السياسة.
"الأخبار"

التعليقات