31/10/2010 - 11:02

السودان... تحدٍ دولي أم غباء عربي؟!/ محمود المبارك

-

السودان... تحدٍ دولي أم غباء عربي؟!/ محمود المبارك
لو كنت مستشاراً للرئيس السوداني، لهمست في أذنه ألا يفارق بلاده ما عاش! ذلك أن الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام أمس عن عزم الرئيس السوداني حضور قمة الدوحة نهاية شهر آذار (مارس) الجاري، يعتبر مثيراً في الوقت الذي سمع فيه الرئيس السوداني - كما سمع بقية العالم - تصريح المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية عند إعلان إصدار مذكرة التوقيف، أنه «لا حصانة للبشير: فأينما سافر في المجال الجوي الدولي، سيكون من الممكن توقيفه»!

وبغض النظر عن استخفاف البشير بمذكرة التوقيف التي اقترح على أصحابها أن «يشربوا ماءها» أو أن «مكانها تحت جزمة الرئيس»، فإن عدم الاكتراث بهذه المذكرة القضائية الجادة، قد تكون له عواقب وخيمة، ليس على السودان وحده بل على الأمة العربية بأسرها، التي ستضيف فصلاً من فصول الجهل في التعامل مع القانون الدولي إلى تاريخها العريق!

وإذا كان السودان يُعوِّل على أن المحكمة الجنائية الدولية لا تملك أسطولاً جوياً خاصاً بها، وأنها إنما تعتمد على تعاون الدول التي يسافر إليها الرئيس السوداني فقط، وأن هذه الدول التي ينوي الرئيس السوداني زيارتها أو المرور في أجوائها، لن تتعاون مع المحكمة كونها ليست أعضاء فيها، أو إذا كان الرئيس السوداني يعتقد أن المحكمة الجنائية الدولية لن تجرؤ على اختطاف طائرة رئيس دولة ذات سيادة، فإنه ربما كان على المسؤولين السودانيين أن يعيدوا النظر في ذلك، وأن يتذكروا ما صرحت به المتحدثة باسم المحكمة في 7/6/2008، من أن المحكمة خططت لاعتقال وزير سوداني، متهم بارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور، عبر خطة كانت تقضي باختطاف طائرة الوزير المتجهة لأداء فريضة الحج! وغني عن القول إن اصطياد الرئيس المتهم بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية أهم وأولى بكثير لدى مسؤولي المحكمة من اصطياد الوزير ذاته!

بل إن فرصة خروج الرئيس السوداني من بلاده ومروره بالمجال الجوي الدولي، سوف تفتح شهية الغرب لمساعدة المحكمة الجنائية الدولية بأساطيلها الجوية من غير تردّد، وليس بعيداً أن توافق قوات الناتو على طلب من المحكمة باعتراض طائرة الرئيس السوداني قبل إقلاعه من بلاده!

فليس سراً أن خلاف المحكمة الجنائية الدولية إنما جاء نتيجة غضبة أميركية ضد السودان التي لم تسمح للشركات الأميركية بالتنقيب عن النفط السوداني في إقليم دارفور، وقامت بدلاً من ذلك بإعطاء الشركات الصينية ذلك الامتياز، الأمر الذي لم يكن ليرضي سادة البيت الأبيض في عصر الهيمنة الأميركية! وبغض النظر عن التغيّر الذي حدث في إدارة البيت الأبيض، فإن سياسة الولايات المتحدة الخارجية تبقى ثابتة خصوصاً في ما يتعلق بسياساتها الاقتصادية.

وحيث إن الولايات المتحدة تحوّلت من «عصر الغزو العسكري» كما حصل في غرينادا عام 1983، وبنما عام 1989، ثم في أفغانستان 2001، وأخيراً في العراق 2003، إلى «عصر الغزو القضائي»، الذي تبدو معالمه بارزةً اليوم في المثال السوداني، وكما أطلقت عليه في المقال المنشور في هذه الصفحة بتاريخ 14/7/2008، تحت عنوان «نفاق العدالة الدولية»، فإن سياسات الولايات المتحدة في فرض هيمنتها على دول العالم لم تتغير، وإن تغيرت أدواتها!

بيد أن الولايات المتحدة كانت عازمة على وضع السودان تحت الهيمنة الأميركية، ولو بالقوة العسكرية منذ وقت ليس بالقصير. يؤكد هذا ما ذكره قائد قوات الناتو السابق، الجنرال الأميركي ويزلي كلارك، في كتابه «كسب الحروب الحديثة»، إذ قال إن وزارة الدفاع الأميركية كانت ناقشت في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2001، غزو سبع دول عربية كانت السودان إحداها!

وتبعاً لذلك، فإن تغيير النظام السياسي في السودان كان مطلباً سياسياً مهماً للولايات المتحدة، وإذ تراجعت خطة الغزو العسكري الأميركي بسبب المقاومة التي واجهتها القوات الأميركية في العراق، استطاعت الولايات المتحدة تغيير أدواتها مع بقاء أهدافها ثابتة.

ولعل في سبق المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، بنقل خبر إدراج اسم الرئيس السوداني ضمن أسماء المطلوبين من المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، قبل وكالات الأنباء العالمية، وقبل أن يصدر الاتهام الرسمي من المدعي العام نفسه، ما يؤكد ذلك أيضاً!

المسألة إذاً، لا تبدو مسألة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تقلق الولايات المتحدة والغرب، كما يزعمون، ولكن الدائرة التي كانت بالأمس تحيط بالعراق، هاهي اليوم تحيق بالسودان، ولا يبدو أي مخرج في الأفق تستطيع الدول العربية تقديمه للسودان، ولكن كل ما يستطيع السودان عمله هو ألا يسلم رئيسه بيده، بمغادرته بلاده عن طريق الجو!

وإذا أصرّ الرئيس السوداني على السفر جواً لحضور القمة العربية في الدوحة، فإن اختطاف طائرة الرئيس أمر متوقع جداً. وإن كان من تعزية للأمة السودانية، التي أعربت عن خيبة أملها في الموقف العربي الرسمي حيال مذكرة توقيف الرئيس السوداني، فإن «شجب واستنكار» اختطاف طائرة الرئيس السوداني - إذا ما حصل - سيتوالى بأقسى العبارات من مختلف الحكومات العربية، التي ستعبر عن «رفضها التام لاستخدام القوة العسكرية ضد رئيس دولة ذات سيادة، وأن ذلك يشكل سابقة خطرة في القانون الدولي»!

ولكن حظ السودان من المواقف العربية قد يتحسن، إذا قررت الجامعة العربية أن تعرب عن «شجبها واستنكارها البالغين لجريمة اختطاف رئيس دولة عربية»، ومن ثم طالبت الجامعة بإعادته إلى بلاده!

* حقوقي دولي


"الحياة"

التعليقات