31/10/2010 - 11:02

السودان من التجزئة القطرية إلى التقسيم الجغرافي../ عوني فرسخ

السودان من التجزئة القطرية إلى التقسيم الجغرافي../ عوني فرسخ
يواجه النظام في السودان عدة إشكالات مع الحركة الشعبية الجنوبية شريكته في الحكم، كما يواجه تحديات خطرة ذات أبعاد دولية وإقليمية في إقليم دارفور، وهناك مؤشرات على محاولات تحفيز مطالب ذات أبعاد أقلوية في الشرق. وما يواجهه النظام في المناطق الثلاث له تداعياته ليس فقط على علاقة النظام بالقوى الاجتماعية فيها، وإنما أيضا على تفاعلات مكونات المجتمع السوداني، كما على سلامه الاجتماعي. والثابت أن ما يواجهه أي قطر عربي له بعده القطري الخاص كما بعده القومي العام. وعليه فانه غير علمي ولا واقعي النظر فيما يواجهه أي قطر عربي بمعزل عن الظروف العربية القائمة.

وللسودان دور عربي يتجاوز كثيرا مجرد كونه عضوا في جامعة الدول العربية، بحكم موقعه الاستراتيجي على الخارطة العربية، واتساع مساحته، وغنى موارده، وكونه يشكل العمق الاستراتيجي لمصر صاحبة الدور القومي عبر التاريخ. فضلا عن كونه حلقة وصل وتفاعل تاريخية وأساسية فيما بين العرب والشعوب الإفريقية جنوبي الصحراء.

وعند النظر في السياسات البريطانية التي اتبعت تجاه السودان، شماله وجنوبه، على مدى سنوات 1898 ،1955 وما جرت عليه الإدارات الأمريكية المتوالية منذ استقلاله سنة ،1956 يتضح أن المستعمرين الإنجليز، وورثة دورهم الأمريكان، انطلقوا في تعاملهم مع السودان في ضوء دوره العربي، ومكانته في التراث العربي الإسلامي، بما لا يقل عن اهتمامهم بإمكانيات السودان الاقتصادية وأهمية موقعه الاستراتيجي.

والمؤشرات كثيرة على أن الدولة القطرية العربية لم تعد هي الصيغة الملائمة لخدمة مصالح القوى الدولية التي رعت واقع التجزئة العربية، وتصدت للحراك الوحدوي، وأسهمت في تهميش دور الفكر والعمل القومي العربي. كما لم تعد مكتومة الدعوة لإعادة تشكيل خارطة الوطن العربي على أسس عرقية وطائفية، وأن كل ما في الواقع العربي يتعرض لعملية تفكيك منهجية بمشاركة بعض القوى والشخصيات المحلية المعادية بحكم الوهم أو المصلحة للانتماء القومي العربي، وانه في مشرق الوطن العربي ومغربه تثار إشكاليات أقلوية: عرقية، وطائفية، وجهوية.

وبالعودة للسنوات القليلة السابقة لاعلان استقلال السودان نجد أن الحاكم البريطاني العام للسودان كان قد وضع سنة 1952 مشروع “حكم ذاتي”، وأرسله لحكومتي بريطانيا ومصر، المشاركتين في حكم السودان يومذاك، وقد حدد يوم 8 نوفمبر/ تشرين الثاني كآخر موعد لتلقي ملاحظاتهما عليه، وإلا أصدره واعتبره نافذا. ولم يكن قد مضى على قيام ثورة 23 يوليو/ تموز بمصر سوى اقل من شهرين. ولدى تدارس “مجلس قيادة الثورة” الطلب رأى أن الاستناد لحق مصر التاريخي بالسيادة على السودان غير مجد، وأن الأجدى العمل على تعديل المشروع المقترح ليعطي اكبر قدر من السلطات لشعب السودان بدلا من الإدارة البريطانية المتولية حكمه.

ولتحقيق ذلك جرى الانفتاح على الأحزاب السودانية المطالبة بالاستقلال، والمعارضة لوحدة وادي النيل، كما تم توحيد الأحزاب الاتحادية في “الحزب الوطني الاتحادي”. ودخلت مصر في مفاوضات مع بريطانيا انتهت في 20/2/1953 بتوقيع “اتفاقية السودان”، التي نصت على إقامة حكم ذاتي كامل خلال فترة انتقال مدتها ثلاث سنوات، يحتفظ خلالها السودانيون بالسيادة كاملة، وعلى أن ينتخبوا في نهايتها جمعية تأسيسية تقرر مصير السودان، إما بالارتباط بمصر وعلى أية صيغة، أو بالاستقلال التام.

وفي انتخابات أول برلمان سوداني سنة 1954 حقق “الحزب الوطني الاتحادي”، نجاحا كاسحا بالدعم المصري المادي والمعنوي. وشكل اسماعيل الأزهري، زعيم الحزب، أول وزارة وطنية سودانية. وكان منتظرا أن تمضي قدما في تحقيق إرادة غالبية السودانيين بالاتحاد مع مصر. غير أنه ما إن تربع الأزهري وقادة حزبه على مقاعد الحكم حتى تنكروا لتاريخهم في الدعوة لوحدة وادي النيل، وتحولوا إلى “استقلاليين”، ولكن عن مصر وليس عن المعسكر الرأسمالي بقيادته الأمريكية، وذلك ما اتضح في موقف الأزهري في مؤتمر باندونج ربيع 1955. وبذلك كان الأزهري ورفاقه من قادة “الحزب الوطني الاتحادي” الزمرة الأولى من زمر “الإقليمية الجديدة”، وحدوية الشعارات في المعارضة قطرية الممارسة في الحكم، التي توالى بروزها على المسرح السياسي العربي منذ منتصف خمسينات القرن العشرين.

ولم يلبث النظام الجديد بقيادة الأزهري، أن أتبع تخليه عن الاتحاد مع مصر، بتنكره لدعاواه الليبرالية، إذ اعتمد سياسة قمعية لضبط الشارع الذي كان يغلب فيه التوجه اليساري والناصري. وبهذا افتقد السودان ضمانتي الاستقرار والتقدم: التكامل مع مصر، والديمقراطية. وبفقدهما بات نظام الأزهري، وكل نظام أعقبه، ضعيف المناعة في مواجهة المداخلات الخارجية والنزاعات الداخلية، ما دام غير ملتزم بالديمقراطية وغير ساع للتكامل مع مصر، عمق السودان الاستراتيجي.

والسودان اليوم في مواجهة تحدي التقسيم الجغرافي الذي تلوح نذره في الأفق لن يعصمه من تداعيات ذلك المدمرة إلا الانفتاح الديمقراطي الواسع على مختلف القوى السياسية والاجتماعية في سائر أنحاء السودان، والتوجه الجاد للتكامل مع مصر في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية. والنظام هو المسؤول عن المبادرة في المجالين، باعتباره المتحكم الأول في صناعة القرار الوطني على مختلف الصعد. فضلا عن أنه المسؤول تاريخيا وأخلاقيا عن وحدة التراب الوطني والنسيج المجتمعي، كما عن دور السودان القومي، ولن يعفيه من المسؤولية التاريخية الاحتجاج بارتباطات بعض قوى المعارضة بالقوى الخارجية، ذلك لأن من أول شروط العمالة للأمريكان لتلقي دعمهم المادي والمعنوي الالتزام بالعمل على تنفيذ مخطط التفتيت المعتمد أمريكيا لإقامة “الشرق الأوسط الجديد / الكبير” المشكل من كانتونات عرقية وطائفية تديرها “إسرائيل” في الفلك الأمريكي.
"الخليج"

التعليقات