31/10/2010 - 11:02

الشرق الأوسط في عقل كوندوليزا رايس../ خالد الحروب*

الشرق الأوسط في عقل كوندوليزا رايس../ خالد الحروب*
عندما يكتب مسؤول رفيع كرئيس دولة أو رئيس وزراء أو وزير خارجية مقالاً ما فمن المُفترض أن تكون ثمة رسالة أو رسائل في ما يكتب. على القارئ أو الباحث أن «يغربل» الكثير من الكلام الديبلوماسي والملتوي وغير المباشر حتى يضع يده على تلك الرسائل، ويلتقط ما بين السطور.

وهكذا هو الحال مع كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية في مقالها المطوّل والمهم في العدد الأخير من فصلية «شؤون خارجية» (فورين أفيرز - عدد تموز وآب 2008). عنوان المقال «إعادة التفكير في المصلحة القومية: الواقعية الأميركية لعالم جديد»، وفيه تقدم رايس ما يشبه تقرير نهاية الخدمة عن السنوات التي قضتها في إدارة الرئيس جورج بوش، في قلب المؤسسة السياسية الحاكمة سواء كعضو في مجلس الأمن القومي ثم وزيرة للخارجية.

تتناول رايس السياسة الخارجية الأميركية في العالم بأوسع نظرة استراتيجية ممكنة: عبر القارات والمحيطات، من خلال التحالفات العسكرية والسياسية والتجارية، باستعراض الحروب والصراعات، وتقدير المواقف الراهنة واحتمالات المستقبل، وكل ذلك من خلال منظور تسمّيه «الواقعية الأميركية الفريدة». رايس تناقش في مقالتها «أميركا والعالم» وليس فقط الشرق الأوسط، ومن الصعب التعرض لكل ما فيها، لكن قد يكون من المفيد التركيز على جانبها الشرق أوسطي.

قبل ذلك من الممكن القول إن مقالة رايس قد تُقرأ عدة قراءات، مثلاً على أساس أنها طلب توظيف مقدم الى المرشح الجمهوري جون ماكين، كي يواصل اعتمادها وزيرة للخارجية في حال نجح في الانتخابات. وقد تقرأ على أساس أنها تبرئة للذمّة السياسية وتوضيح للتاريخ بشأن عقل رايس السياسي وكيف انخرطت في شؤون السياسة الخارجية، خصوصاً أن الروح العام للمقالة يبتعد بشكل ملفت عن الخطابات الصدامية والهجومية لفيلق المحافظين الجدد الذي أحاط بجورج بوش وأدار إدارته وشؤونها الدولية. لكن أياً كانت زاوية القراءة فإن مقالة رايس تظل مهمة وتوفر إطلالة فريدة على طريقة تفكيرها.

استخدام رايس لتعبير «الواقعية الفريدة» كي تصف إصرار إدارة بوش على دمج مشروع نشر الديموقراطية ورعاية حقوق الإنسان كمكوّن للسياسة الخارجية الأميركية في حقبتي إدارة بوش ليس دقيقاً. فهذا الدمج، أو محاولة تحقيقه، لا يتسم بالفرادة أو الريادة، فقد تكررت «محاولة» الدمج هذه بهذا القدر أو ذاك على مدار الإدارات الأميركية وكانت قد بدأت أساساً مع الرئيس الأميركي وودرو ولسون بعد الحرب العالمية الأولى وببرنامج النقاط الأربع عشرة المشهور الذي نادى بدمقرطة العالم وحق تقرير المصير والسلام العالمي الجماعي وسوى ذلك.

ونعلم أن جانباً من تاريخ الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كان يقوم على فكرة الترويج لـ «نموذج الحكم الحر الديموقراطي» الذي مثله الغرب الرأسمالي مقابل «نموذج الحكم الشمولي المغلق» الذي مثله الشرق الاشتراكي، وذلك بحسب التوصيفات الأميركية لنموذجي الحكم المذكورين.

لكن هذا لا ينفي قدراً من الاستثنائية والخصوصية في سياق الادعاء بإيلاء الدمقرطة وحقوق الإنسان أولوية في سياسة إدارة جورج بوش، وخاصة في الشرق الأوسط. رايس تقول إن تمكين الدول من استخدام سيادتها التامة على قراراتها محلياً وخارجياً يتم عبر الدمقرطة ويخلق عالماً أكثر أمناً واستقراراً ومشاركة في المسؤولية. وهذا نظرياً صحيح، لكن تطبقيات إدارة بوش في السنوات الماضية خلقت عكسه، إذ انتهكت سيادات الدول وأجبرت أنظمة ودولاً عديدة على الخضوع لرغبة الولايات المتحدة.

تعيد رايس إقرار ما أقره جورج بوش من سنوات إزاء السياسة التقليدية الأميركية في الشرق الأوسط قائلة: «لمدة ستة عقود، وتحت الإدارات الديموقراطية والجمهورية على حد سواء، كانت ثمة مقايضة أساسية حكمت انخراط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الكبير هي: دعم الأنظمة السلطوية مقابل دعم تلك الأنظمة لمصالحنا المشتركة في الاستقرار الإقليمي». لكن بعد تلك العقود الطويلة وخاصة بعد 11 سبتمبر، تواصل رايس القول: «بدا واضحا أن المقايضة القديمة أنتجت استقرارا موهوماً، والنشاط السياسي الوحيد كان في المساجد والمدارس الدينية». ثم تعيد رايس انتاج المرافعة الأميركية المعروفة وهي «اكتشاف» أن دمقرطة المنطقة تخدم المصلحة الأميركية أكثر بكثير من دعم السلطات المستبدة.

ثم تضع رايس ثلاثة تحديات تواجه الولايات المتحدة في المنطقة هي على الترتيب: «التطرف الإسلامي» ثم إيران ثم «إنهاء الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين». وفي التمهيد لهذه التحديات تعدد رايس المصالح الحيوية لأميركا في الشرق الأوسط وهي التالية: أمن الطاقة، عدم انتشار الأسلحة النووية، الدفاع عن الحلفاء والأصدقاء، حل الصراعات القديمة، وأهم من ذلك كله الحاجة إلى شركاء لمواجهة التطرف الإسلامي.

يرتبك تنظير رايس في مواضع عدة في مقالتها فهي في نهاية المطاف تريد أن تمسك العصا من المنتصف فلا تخرج عن سياسة بوش الحالية وتحاول أن تتناغم مع سياسة ماكين القادمة، وتحاول أن تبتعد عن المحافظين الجدد لكن من دون أن تنتقدهم، وتروّج لسياسة تعاونية متعددة الأطراف مع الدول الكبرى في العالم، لكن مع التلويح بـ «أساليب أخرى»، وهكذا. من ناحية شرق أوسطية، تقترب بعض الأحيان من الإقرار بأن سياسة واشنطن عبر سنوات طويلة أدت إلى قيام الراديكاليات الإسلاموية، لكنها لا تصل إلى آخر الشوط.

ثم تتحدث صراحة عن العراق فتقول إن الولايات المتحدة لم تزعم أنها أسقطت صدام حسين لإقامة نظام ديموقراطي في بغداد، بل تصر على القول إن الهدف كان من أجل التخلص من تهديد صدام للأمن والسلم الدوليين (حتى بعد صدور العديد من الكتب والنقد من داخل الدائرة الضيقة المحيطة بجورج بوش ومعظمها ركز على أن النفط كان المحرك الأساس). لكن مسألة دمقرطة العراق جاءت لترافق الاستراتيجية الأميركية ولم تكن باعثتها. وأصبح العراق، كما تقول رايس، المختبر الأساس لمشروع دمقرطة المنطقة والذي إن نجح فإنه يعني اندراج المنطقة برمّتها في مسار ديموقراطي جديد.

ارتباك تحليل رايس يظهر أيضاً في تناولها لمسألة «الإرهاب» والتطرف الإسلامي. فهي ورغم عقلها الأكاديمي الذكي والمعروف، تفادت بشكل مكشوف التورط في مسألة تحليل التصاعد في قوة تنظيم «القاعدة» في المنطقة بعد الحرب على العراق، وفي ربط ذلك التصاعد بالاحتلال الأميركي.

وعملياً ونظرياً فإنه ما لم يتم الإقرار بذلك تحديداً وبمسؤولية السياسة الخارجية الأميركية والغربية عموماً عن دفع المنطقة إلى مربعات التطرف شعوباً ومنظمات وأحياناً حكومات، فإن إدراك السياسة الأميركية للمنطقة يبقى قاصراً بشكل مذهل، عن قصد أو غير قصد. وفي كل مسألة الدمقرطة وترويجها واعتبارها جزءاً من السياسة الخارجية، تدرك رايس أن هذا الموضوع فقد صدقيته الآن بعد سنوات قليلة فقط من «الهبّة الأميركية» المفاجئة باتجاه الدمقرطة. فما يراه الرأي العام العربي الآن من المحيط إلى الخليج هو عودة واشنطن إلى السياسة التقليدية التي استمرت عقوداً طويلة وأشارت إليها رايس وانتقدتها.

يبقى أيضاً أن أحد أهم الارتباكات في قراءة رايس يتمثل في تفاديها المخجل مواجهة مركزية قضية فلسطين في المنطقة وأهمية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطينية وإنجاز الحقوق الفلسطينية لـ «معالجة التحديات الثلاثة» التي قالت رايس انها تواجه أميركا في المنطقة. فحق تقرير المصير للفلسطينين هو أيضا جوهر أي مسعى ديموقراطي. وأن تسهب رايس في توصيف أوضاع المنطقة والعالم وتفشل في أن تستخدم كلمة «احتلال» ولو مرة واحدة لتصف السيطرة الإسرائيلية على الفلسطينين، وهو الوصف الذي استخدمته حكومات أميركية عديدة، فإنها تقدم الانتهازية السياسية على أية «واقعية فريدة».

إذا ارادت رايس أو أية إدارة أميركية جديدة أن تبدأ فعلاً مرحلة جديدة في الشرق الأوسط تقوم على بناء علاقات مستقبلية طويلة الأمد وصحية في المنطقة تقوم على تبادل المصالح والديموقراطية فإن «الواقعية الفريدة» هي في اعتبار «إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة» مصلحة أميركية حيوية. من دون ذلك سوف تظل كل إدارة أميركية تسابق سابقتها ولاحقتها في العودة إلى المربع الأول.
"الحياة"

التعليقات