31/10/2010 - 11:02

الصحافة الساخرة في العراق المحتلّ: للابتسامة مذاق الدم../ علاء اللامي *

الصحافة الساخرة في العراق المحتلّ: للابتسامة مذاق الدم../ علاء اللامي *
مصادفة جعلتنا نطّلع على مجموعة أعداد طازجة من صحف عراقية ساخرة تصدر في عراق اليوم. فأيّ مذاق للسخرية حين تأتي من بلاد الرافدين؟ هذه قراءة لمواد منتقاة من تلك الأعداد يسبقها عرض سريع لتاريخ الصحافة الساخرة العراقية، تبياناً للتراث العريق الذي يمكنها الاعتداد به، ولا تفيه حقّه في الأغلب، فيكون الاحتلال بهذا، يشوّه حتى تعابير السخرية أو يتسلّل منطق مهادنته إليها. بينما السخرية والفكاهة المرّة ملاجئ للنقد حين ترتبك سائر أدواته.

صدرت أوّل صحيفة عراقية تحمل اسم «الزوراء» ــ وهو أحد أسماء بغداد ــ في الخامس عشر من حزيران سنة 1869. ولم تكن هذه الصحيفة، كما يخبرنا التاريخ، تخلو من النصوص والمواد الساخرة والخفيفة الظلّ، غير أنّ أول صحيفة ساخرة عراقيّة صدرت سنة 1911 في مدينة الموصل وتحمل اسم «جكباز» وتعني الثرثار.

بعدها، صدرت عدة صحف ومجلات ساخرة من أبرزها «حبزبوز» التي أصدرها الصحافي المقتدر نوري ثابت بين سنتي 1931 ــ 1938، وكان من كتّابها حمادي الناهي.

كما صدرت أيضاً مجلات وصحف منها «قرندل» لصادق الأزدي و«القنديل» و«المتفرج». أما في العهد الجمهوري، فقد صدرت عدة صحف ومجلات من أشهرها مجلة «الفكاهة». ويمكن اعتبار حمادي الناهي الطائي، المولود في البصرة عام 1915 والذي عاش فيما بعد في الموصل من روّاد الصحافة الساخرة، فهو الذي أصدر صحيفة «الكشكول» بعدما شارك في إصدار «حبزبوز» و«البغدادية».

كما أصدر بعض الكتب التي يمكن احتسابها من الأدب الساخر، طبع منها كتابه الأول «ثمانون وألف ليلة في السجون» وهو بجزءين، وكتابه الثاني وعنوانه «مقررات حزب الحمير»، وهو أيضاً بجزءين، طبع الجزء الأول فقط، أما الجزء الثاني فلا يزال مخطوطاً.

الرائد الآخر هو الراحل ميخائيل تيسي صاحب صحيفة «كناس الشوارع» التي توقفت عن الصدور بعد النهاية المأساوية لمؤسسها الذي قُتل برصاصة في الرأس في حادث غامض.

الانطلاقة الجديدة والمفعمة بالوعود والآمال للصحافة الساخرة العراقية بدأت قبل عام تقريباً مع صدور «الكاروك» وتعني في اللهجة العراقية «مهد الرضيع»، وهي أوّل صحيفة ساخرة صدرت في عهد الاحتلال ويرأس تحريرها كاظم المقدادي، وتقع في ثماني صفحات ملوّنة. توجّهاتها العامة وطنية عراقية، ولها اهتمام كبير بالشأن السياسي، وهي تصرح بنقدها الشديد للواقع القائم، ولا تتردد في تسمية الوجود الأميركي في العراق باسمه الحقيقي، أي الاحتلال. كما أنّها غنيّة برسوم الكاريكاتور لفنانين جيدين منهم مصطفى الهاشمي، وقاسم وحارث العاني، وفنان آخر لا يوقّع رسومه أو أنّه يوقّعها بشكل غير واضح...

ومن النماذج النقدية القوية لهذه الرسوم الكاريكاتورية، يلفت انتباهنا رسم لمواطن عراقي مصلوب على الجدار ومثبت إليه بالمسامير، وعلى كلّ مسمار كتب اسم دولة مجاورة للعراق، أمّا الرأس ففيه مسماران: الأول أميركي والثاني بريطاني. وكاريكاتور طريف لموظف حكومي يطلّ من بناية عمارة ضخمة وهو يرفع لافتة كتب عليها «هذا من فضل حزبي». أمّا نوري المالكي، فقد ظهر في أحد الرسوم وهو يسبّح بسبحته بيده اليسرى ويرفع ثقالة التدريب على رفع الحديد بيده اليمنى مبرزاً عضلاته.

في المقالات والنصوص المنشورة في الأعداد التي بين أيدينا نرصد الكثير من الظواهر والسلوكيات السلبية التي سلّطت عليها أضواء النقد والسخرية المريرة: فهذا عبد الأمير حسون يكتب عن معاناة العمال المطرودين من عملهم تحت عنوان طريف وعميق يقول: «يا عمال العالم...صلّوا على النبي!». ونقرأ أخباراً صيغت بطرافة ولماحية عالية عن تجفيف إيران لنهر «ألون» العراقي، وعن مدارس أغلقت أبوابها بسبب عنف الميليشيات، وعن اقتراح جلال الطالباني القاضي بإضافة مادة «لبن أربيل» إلى البطاقة التموينية...

وفي عدد آخر من «الكاروك» ، نقرأ في زاوية «جكمجية» التي يحررها رئيس التحرير كاظم المقدادي مقالة متسائلة تحت عنوان: لماذا أطلق المحتلون على عمليتهم في مدينة الصدر عملية صيد الجرذان؟.

وتهتم الصحيفة بعمليات قتل النساء على أيدي التكفيريّين من الطائفيّين وتنشر أخباراً ونداءات، منها نداء من نساء محلّة «الطوبجي» حيث قتل عدد منهنّ... ويكتب هادي جلو مرعي عن «أساتذة الجامعة الذين لا يقرأون»، كما نقرأ تقريراً عن تذمّر المواطنين من تصرفات المصاحبين لمواكب الوزراء والنواب وأرتال جيش الاحتلال. إنّه باختصار مزيج من السخرية المرّة والفضائح السوداء في قالب شفاف ولماح.

أمّا صحيفة «حبزبوز اليوم» التي يرأس تحريرها طالب الموسوي فتقع في ثماني صفحات، إنما بمساحة أوسع من صفحات زميلتها «الكاروك»... وأوّل ما يلاحظ على «حبزبوز اليوم»، إنّها تنتهج نهجاً مختلفاً كثيراً عن نهج زميلتها. فثمة ترويج واضح لمشاريع وإنجازات الحكومة في ميادين الإسكان والتبادلات التجارية وما إلى ذلك، كما يُلحظ غياب تام وفاضح لواقع الاحتلال الأميركي للعراق في مواد المجلة، لدرجة تجعل القارئ يشكّ في أن الاحتلال حاصل في المريخ لا في البلد الذي تصدر فيه الصحيفة.

صحيح أنّ صفحاتها لا تخلو من بعض القفشات والمقالات النقدية الخجولة، كتلك التي تسخر من انقطاع الكهرباء، ومن الحصة التموينية، ومن أفراد حمايات الوزراء والمسؤولين، غير أنّ ذلك لا يداني الواقع. ويتّضح نهج «حبزبوز اليوم» أكثر حين نقرأ للكاتب «أبي أحمد الساعدي» مقالة تحت عنوان «تحرير العراق من الحلّاقين»، هاجم فيها المجموعات المسلّحة التي اغتالت أعداداً من الحلّاقين، كأنّه يحاول اعتبار المقاومة العراقية التي ترفع شعار تحرير العراق من الاحتلال، مسؤولة عن تلك الفظاعات، بل هو ينصح بصراحة الحلاقين بالعودة إلى صالوناتهم بعد أن «انصرف المقاومون» كما يكتب حرفياً.

أمّا مجازر الاحتلال وحلفائه بحق المواطنين العزل، فيجري تناسيها والتعتيم عليها في «حبزبوز اليوم»، التي تختلف تماماً في نهجها ومذاقها عن «حبزبوز» الأمس، الأمر الذي قد يجعل روّاد الصحافة الساخرة الراحلين، نوري ثابت وحميد المحل وحمادي الناهي وميخائيل تيسي، يتململون في قبورهم الآن...
"الأخبار"

التعليقات