31/10/2010 - 11:02

العبث في الخامس من حزيران

كان الأول يحيك ثوبًا لحبيبته ويقدح زناد عقله ليتخيل مقاييسها الحقيقية حتى يضمن ملاءمة الثوب لجسدها ليفوز بها كما وعدته الآلهة، في حين كان الثاني يجهد نفسه في عدّ الغرز التي استعملت لخياطة الثوب ليفوز بالحبيبة كما وعدته الآلهة أيضًا!

العبث في الخامس من حزيران

كان الأول يحيك ثوبًا لحبيبته ويقدح زناد عقله ليتخيل مقاييسها الحقيقية حتى يضمن ملاءمة الثوب لجسدها ليفوز بها كما وعدته الآلهة، في حين كان الثاني يجهد نفسه في عدّ الغرز التي استعملت لخياطة الثوب ليفوز بالحبيبة كما وعدته الآلهة أيضًا!

وعندما يوشكان على الانتهاء، يسحب أحدهما الخيط وتبدأ الحياكة من جديد ويبدأ عد الغرز من جديد، حتى لا تنتهي "القضية" وحتى لا يتوقفا عن العمل في ممارسة العبث، إذ لم يكن أمامهما سوى خيارين، فإما الضجر، وإما العبث. ومع الممارسة الرتيبة للعبث توقفا عن حب حبيبتهما وواصلا العبث من أجل العبث.

في الخامس من حزيران التاسع والثلاثين لم نحلّق بعيدًا ولم نغادر الأزمة، وما زلنا نتخبط في مشهد عبثي مخيف من "باب" الشهيد غسان كنفاني. عبثية "الباب" تستمر إلى الأبد لأن الرجلين اللذين يقومان بهذه المهمة كانا قد اقتتلا بسيفيهما وتوقفا عن كونهما في عداد الأحياء، وأذلهما الإله "هبا" بعد موتهما في سجن أبدي هو عبارة عن غرفة صخرية صلدة لا خروج منها، وعلقا في الحياكة والعدّ وسحب الخيط والبدء من جديد.

هذا هو شأن "هبا"، من يتمرد عليه يقتله ومن يشكره يذله. أمّا شدّاد الذي اكتشف "هبا" على حقيقته، فقد تمرد عليه، فقتله "هبا" بعاصفة الصوت وجعله رمادًا، وبعد موته وضعه في الغرفة الصخرية، وظل شداد وحيدًا في المعركة يفكر بالانتصار على "هبا" للخروج من السجن الأبدي.

ومن المفارقة أنه حينما لا يتجول "هبا" في قطاع غزة، تحضر العبثية ويحضر من ينوب عنه تطوعًا ويسفك دم شداد في شوارعها، في حين أن "هبا"، الذي يدرك أنه فقد سطوته على شداد، يقهقه ساخرًا.

في الأمس، أقدم مسلحون فلسطينيون على إطلاق النار على امرأة فلسطينية حامل في الشهر الثامن وأردوها قتيلة على مدخل مدينة خان يونس في قطاع غزة.

ومن سخرية العبث، أنه قبل عدة أيام أقدم جيش الاحتلال الأميركي في العراق على إطلاق النار على امرأتين عراقيتين فأردوهما قتيلتين، وكانت إحداهما حامل في طريقها إلى مستشفى الولادة.. ربما كان إطلاق النار هنا بدافع التسلية والعبث.

نحن نعرف "أخلاق" الاحتلال، لذلك لا نتفاعل معها بالتفكير فيها بقدر ما نتألم لشدة هول كل جريمة ومجزرة يرتكبها. أما أن "تزال فلسطين من الرحم" برصاص فلسطيني قبل أن يخرج إلى النور "مشروع فدائي جديد"، فهذه عبثية قد يعجز عنها أي ناسج خيال.

لا يزال يلتبس الأمر على الرصاص بعد 39 عامًا من الهزيمة و58 عامًا على النكبة، والخيارات تشتد وضوحًا، فهي ليست بين الضجر والعبث، وإنما بين الحياة والموت.

ما هكذا تتحرر الأوطان.

التعليقات