القضية الفلسطينية بين الأدوات والثوابت الوطنية (2/2)/ وليد دقة

القضية الفلسطينية بين الأدوات والثوابت الوطنية (2/2)/ وليد دقة
لقد إنتقلت م.ت.ف في مراحل نضالها من الأردن إلى لبنان وتونس ومن ثم للأراضي المحتلة، دون أن تجري أية عملية جرد أو نقاش وطني تلخّص به تجربتها خلال هذه المراحل، بصفتها الإطار السياسي والتنظيمي لحركة التحرّر الوطني الفلسطيني. وقد بقي النزوع إلى الدبلوماسية الدولية إلى جانب العمل المسلح كوسائل لإقناع العالم بوجوب إيجاد حل للقضية الفلسطينية، يتصارعان في كل مراحل العمل الوطني. إلى أن حُسم الأول على حساب الأخير في مفاوضات أوسلو وإنتقل مركز القرار الفلسطيني إلى الأراضي المحتلة.

عملياً جرى الإنتقال إلى خيار الدبلوماسية الدولية وطاولة المفاوضات دون مناقشة وإستخلاص موضوعة الكفاح المسلح ودون أن تشطبه حركة فتح كبرى فصائل م.ت.ف كخيار، وبقي قائماً في الخلفية وحتى في الذهنية المفاوضة بكل ما حمل من أخطاء وفوضى وعدم إنضباط لبرنامج وإستراتيجية، وإنتقل في إنتفاضة الأقصى من الخلفية واللاوعي السياسي إلى الممارسة العملية عبر كتائب شهداء الأقصى، ليس بصفته خياراً وإنما تعبيراً عن أزمة الخيار الدبلوماسي وطاولة المفاوضات. بعد أن كانت قد قضت الأخيرة على خيار حركة التحرّر.

لقد كفّت الفصائل الفلسطينية منذ أوسلو التصرّف كحركة تحرّر، فيما لم تحسن السلطة الفلسطينية التصرّف كدولة وبات المشروع الوطني الفلسطيني محكوماً لقطبين يريدان سجالاً سياسياًُ يُستخدم به العمل المسلح ضد الإحتلال، ليس بصفته أداة لتحرير وإنما أداة للسجال السياسي وللتوسع الجماهيري، وحتى أداة منافسة وإستقطاب داخل الفصيل الواحد.

إنّ الفراغ الذي خلفه غياب حركة تحرّر وشلل السلطة يمتلئ بمظاهر الفوضى والفساد وبات يهدّد البنى السياسية الفلسطينية ووحدة المجتمع الفلسطيني الذي يلجأ أفراده بحثاً عن الحماية والأمن والأمن الإجتماعي لبنى ما قبل وطنية من حمائل وعشائر وطوائف، حيث بدأت هذه الأخيرة تُجيّش لصالح المنافسات التنظيمية فتُعاد صياغتها لتندمج في مبنى سياسي بات مشوهاً. فالقيم الوطنية الجامعة التي أُنجزت على مدار عقود من النضال، إهتزّت مكانتها كمرجعية أخلاقية، ليس في أوساط المواطنين العاديين فحسب، وإنما لدى قادة الفصائل الميدانيين وفي الأوساط المسيّسة.

وهذه القيم بالذات هي التي إستهدفها الدمار والقتل الذي يخلف الإحتلال في إطار إستراتيجية "صهر الوعي الفلسطيني"، بصفتها قيم البنى التحتية لقيم المجتمع والمقاومة.

لقد آلت الحالة الفلسطينية، بعد إنهيار الكثير من السدود والمرجعيّات التي تشكل صمام الأمان، إلى إنهيار المجتمع، ونعني بالإنهيار ليس بالضرورة أن تقود الفوضى القائمة على كافة المستويات إلى حرب أهلية مسلحة وإنما أن نكفّ، في مواجهة الإحتلال، عن التصرّف كشعب ويصبح كل "كنتون" يواجه إحتلاله وقضاياه بمعزل عمّا يجري بالكنتون المجاور.

لقد بات من المُلحّ الآن، وحتى لا نصل إلى هذه الحالة الرثة، أن نُعيد بناء وترميم الإطار السياسي والتنظيمي لـ م.ت.ف بصفتها إطاراً سياسياً وتنظيمياً لحركة تحرّر تمثل إرادة كافة الفلسطينيين في جميع أماكن تواجدهم بما يشمل تحديد الثوابت الوطنية والبرنامج والأهداف الواضحة وفقاً لما نشأ من واقع جديد كالبرلمان والحكومة وغيرها من مؤسسات على الأرض وبما يشمل، على ضوء ذلك، من إعادة تعريف المقاومة الضرورية وملائمة أشكالها وبلورة بنى وإصطفافات سياسية تستجيب وهذه المرحلة من عمر الشعب الفلسطيني.

البندقية الفلسطينية والكفاح المسلح، وعلى مدار تاريخ نضالها أنجزت أهدافاً عديدة، حيث فرضت حضورنا كقضية وكشعب له حضوره السياسي والمعنوي، على الأجندة العربية الرسمية والشعبية بصفتها قضية تحرّر وإستقلال تمثل لبّ الصراع العربي الإسرائيلي، كما أن البندقية الفلسطينية تمكنت من إنتزاع شرعيتها وشرعية نضالنا التحرّري وحقنا بتقرير المصير. بعد أن إنطلقت قضيتنا كقضية لاجئين، إلى أن إحتلت قلب وجوهر قضايا الصراع الدولي في الشرق الأوسط .. وحول البندقية والكفاح المسلح تبلورت هويتنا الوطنية، ببعدها الثقافي والحضاري، فكتبنا روايتنا وتاريخنا وأنشأنا تراثاً أدبياً وفنياً من شعر وقصة وموسيقى مقاومة.

لكننا اليوم، حين ننظر للبندقية وما حولها، نجد كل الإنجازات قد تراجعت وأصابها الضمور وإنقلبت الموازين رأساً على عقب. فما الذي بقي من حضورنا على الأجندة العربية؟ وما الذي بقي من إستقلالية القرار الفلسطيني؟ ما الذي بقي من الإرادة التي جسدتها م.ت.ف وكم من الإرادة تمثل السلطة الفلسطينية؟ وهل البندقية بأدائها الحالي وأداء حامليها ما زالت تستمد نفس الشرعية؟ وهل البندقية الفلسطينية إرادة وشرعية واحدة أم ذات إرادات وشرعيات؟ ما الذي بقي من البندقية وما حولها؟ ..

لكن السؤال الأهم هو، هل البندقية والكفاح المسلح هم المقاومة؟ وماذا تشمل المقاومة غير البندقية؟ وإذا كانت المقاومة أعمّ وأشمل فأين تقع البندقية من حيث أهميتها في إطار مفهوم المقاومة؟ وما الذي يحدّد موقع وأهمية البندقية في حوار البندقية وما حولها، البندقية أم ما حولها؟ .. إن هذه الأسئلة ليست أسئلة جديدة، فقد لازم هذا النقاش كافة مراحل النضال الوطني الفلسطيني. وما يجري اليوم من نقاش بين السلطة وفتح من جهة وحماس والمعارضة من جهة أخرى هو إستمرار لنفس النقاش الذي لم يُحسم، وبنفس الأسئلة.وأحياناً يتقاطع في نفس التفاصيل لما دار في أكثر من مفصل من مفاصل النضال والثورة الفلسطينية على مدار أربعة عقود، ودائماً كانت النتيجة، في الجدل والصراع الداخلي في ملائمة الأدوات للأهداف.
لقد بات من الضروري إعادة النظر بالفكر السياسي الفلسطيني ومرتكزاته بما فيها موضوعة الكفاح المسلح بصفته أداته المركزية لسنوات طويلة، على أن تكون إعادة نظر بعيدة عن الآني والإستحقاقات السياسية، الإقليمية والدولية، وخارج السجال السياسي والمنافسة بين الفصائل والحوارات، من ذلك النوع مطلوباً منه إنجاز تهدئة أو هدنة، فتعيد الفصائل إنتاج الأزمة، لكن ليس قبل أن تُقدم في هذا السياق على "مذبح" الحوارات الوطنية في العواصم العربية، إستقلالية القرار الفلسطيني بعد إدخاله وإخضاعه للعبة مصالح هذه العواصم.

إن إعادة النظر بمسيرة العمل المسلح ضرورية لئلا نقدم على مذبحها حقنا بالمقاومة، فالشد والجذب بين معارضة إسلامية ترى في الكفاح المسلح أداة مركزية تصل حدّ التقديس، وبين سلطة لا تقدم أي خيار أداتي للحل سوى طاولة المفاوضات والدبلوماسية غير المدعومة بأي عنصر من عناصر القوة، يقود إلى تبديد حق شعبنا بالمقاومة وإستعدادية غالبيته للصمود وللمواجهة بوسائل غير عنيفة، دون أن يضطرّ للتنازل عن ثوابته الوطنية كما حدث وعلى نفس الأرضية من النقاش خلال العقود الأربعة الماضية.

بغضّ النظر عن تفاصيل الموقف السياسي للأطراف، فقد بات النضال الفلسطيني أسير قراءتين تمثلان وجهي واقع أزمة النضال، ويبدو البحث فيما ينتجان من مواقف وأدبيات سياسية كما لو كان بحثاً تحت "المصباح" السياسي الآني وهو البحث الأسهل، فيما في حقيقة الأمر فقدنا "عملتنا" السياسية في زمان بل ومكان مضى. ويحوّل هذا النوع من البحث عن مخرج وحلول دون نقد وتطوير الفكر السياسي الفلسطيني الذي بات محكوماً لشكلين من النخبوية، نخبوية العمل المسلح من جهة والنخبة الدبلوماسية من جهة أخرى، ففيما تسجّل الأولى الإنسحاب من قطاع غزة على أنه إنجاز للعمل المسلح، تؤكد الثانية على أن الدبلوماسية هي التي قد أنجزت، في إطار إتفاقيات أوسلو العديد من الإنسحابات، لكن كليهما لا يقولان لنا ما هو الثمن ويتجاهلان الثمن السياسي والإنساني الإستراتيجي، على فرض أننا نريد التعامل مع هذا، تجاوزاً، كإنجازات تحرير، الذي يدفعه الشعب الفلسطيني جرّاء عملهما خارج أي برنامج أو إستراتيجية فلسطينية موحّدة. ويتفقان ضمناً، بطبيعتهما كعمل نخبوي، على إلغاء وتعطيل دور الجماهير والنضال الشعبي الواسع الذي أنجز التحوّل في التفكير السياسي الإسرائيلي خلال الإنتفاضة الفلسطينية الأولى، وأقنع شعوب العالم بعدالة حقنا بدولة مستقلة، وأنقذ م.ت.ف وقيادتها من التهميش والعزلة السياسية ونقل المؤسسة الفلسطينية وقرارها من الشتات لفلسطين المحتلة، بعكس ما تدعيه النخبة الدبلوماسية، كما لو كانت هي التي أنجزت هذا كله.

التعليقات